هكذا سماه صحبه، بلا نعت. لما كشف لهم سره صاروا يجيئون إليه من الأنبياء. قبل ذلك
ذهبوا منه إلى الكتب. كان فيه هذا السحر الذي جعل واحدًا من أتباعه يقول لصديقه:
“تعال وانظر”. كيف استطاع هذا الرجل أن يجذب إليه أجيالاً تعاقبت منذ ألفي عام في
عطاء لهم بلا شرط، بلا حساب وعاملوه على أنه بدء مطلق ونهاية مطلقة فاستغنوا به عن
كل شيء آخر؟ بدا في ثلاث سنين أو دونها وتفوه بكلمات أحس ناس كثيرون أنهم قادرون أن
يحيوا عليها وحدها طوال أعمارهم. لكن كلماته لا تفسر الحب كله الذي تفجر في قلوب
مَن كان له. كان قلبه أبعد مما قال وأسطع ضياء.
أن
السر يكمن في المسيح
الذي كان باب الحب الذي نلجئ اليه. الحب هنا هو الفهم. هو الذي يوصلنا إلى بلورية
الرؤية. لذلك كما قال احدهم عنه: “لم يتكلم أحد مثل هذا الإنسان”. لم يقصد بذلك
بلاغةً ما كان الناصري يملكها، ولكنه أراد “إنه كان يعلمهم كمن له سلطان”. كيف
أشعرهم هذا لو كان ثمة هوة بين ما كانه وما كان يقوله، لو بدا لهم مباينة بين
تعليمه وأخلاقه. إن ما يحس به أي داعية ديني إذا دعا انه موعوظ بين الموعوظين، إن
كلمته تجلده قبل أن تلوم الآخرين. يسوع وحده جرؤ على القول: “مَن منكم يعيب عليّ
خطيئة؟”. وبسبب من هذا الوعي استطاع أن يجهر بأني: “أنا هو الطريق والحق والحياة”.
هذا لم يكن مناقضًا فيه لرؤية نفسه “وديعًا متواضع القلب”.
نفسٌ ما
كان فيها أثر لنتؤ أو لتلك العدوانية التي كثيرًا ما ترافقنا إن بسطنا دعوة حق.
نفسٌ لاتضاعها
أمام الله تغسل أرجل التلاميذ وتحتضن العشارين والبغايا في توبتهم وتكسر بذا كل
الحواجز التي أقامها بين الناس إسرائيل في طهريته.
ذلك أن يسوع عشير كل الأذلة. صدَّاعٌ فقط لمن استكبر. يعنفهم: “الويل لكم أيها
الكتبة والفريسيون المراءون، فإنكم تقفلون ملكوت السموات في وجوه الناس… ويل لكم
أيها القادة العميان، يا أيها الذين يصفّون الماء من البعوضة ويبتلعون الجمل… ويل
لكم فإنكم أشبه بالقبور المكلسة… أيها الحيات أولاد الأفاعي، كيف لكم أن تهربوا من
عقاب جهنم؟”.
هذه الشدة إزاء المنتفخين، وهذا اللين بالمهمَلين وجهان لعملة واحدة. كذا عنده
الرفعة بسبب من الحقيقة فيه والتنازل إلى مَن ألقي على دركات الأرض. هذا الوجه
الناظر إلى الآب في حرارة الصلاة والملتفت أبدًا إلى الناس بحنو، هذه الفضائل
المتضادة أقامته على توازن في الشخصية وهدأة سلام داخلي جعلاه أمام لا نهائية الله
وآفاق الإنسانية بحيث أنه كان دائمًا يذهب إليها مفتقدًا شافيًا يتغذى من إلفة الآب
ليسكب نفسه في قلوب مَن أحب. ودعم هذا شعوره بأن “الناس جميعًا أخوة وان لهم أبًا
واحدًا هو الآب السماوي”. يبدو مرافقًا إياهم في طريق تقودهم إلى هذه الضيعة أو تلك
ولكنها كانت طريقًا لا تنتهي. كيف استطاع هذا الرجل أن يقول، بأمثال، كل الحقيقة
المكنونة في جوهر الآب والنازلة على الناس ضماد جراح كأن الحقيقة التحام السماء
والأرض، كأن حضرة الله لا يرقى إليها المرء رقياً ولكنها تهبط إليه فحوى لحياته
فتنبسط هذه الأرض عرشًا للإله. وهذا كله يقال بكلمات لا زخرف فيها ولا صناعة.
ذلك لأن المسيح لا يرى للناس نجاة إلاَّ إذا أقاموا في الحقيقة. والحقيقة عنده تتم
لنا إن دخلنا في ملكوت الله أو دخل هو إلينا، أي إذا كان وجهنا إليه وقبلنا وجهه
إلينا. عند يسوع الناصري هذا كل الوجود. ولهذا كان يقوّم تلاميذه باستمرار على غير
طريق الفلاسفة إذ لم يكن للعقل عنده كيان مستقل عن القلب، وما كانت دعوة القلب أن
يكون مجال التأثر وحسب. أجل يستنير الفكر بالكلمة، ولكن الكلمة لا تفعل ما لم تكن
محبوبة. القلب مكان الشهوة المؤذية حتى تنزل فيه الكلمة فيشتاقها. مسيرة صاعدة
ونازلة بين القلب والعقل. ذلك عنده ينبوع التجليات. شعر إذا شئت صاح محتشم. إنه شعر
الله في عمق الكيان يقال. يصدر عن صفاء التوبة. ولهذا لا يخاطبنا المسيح إلا من نور
فيه ابتغاء توبة فينا تجعلنا وحدها مخاطبًا ألآب.
صفة الله الأولى أن يكون أبًا. أن يكون الله هذا وأن نكون له بنين وبنات شيء اتخذه
المعلم من العهد القديم ولكنه أعطاه امتدادًا وزخمًا ما كان للإنسانية قبله عهد
بهما. لم يبقَ إلهه هذا الذي يخاطبنا من النار والزلزال. فقد قتل المسيح إله الحرب.
أي قائد فذ قادر على البطولات. أن يكون الله أبًا يلدنا إذا انسكب فينا ويجعلنا
قادرين عليه بالحب، هذا هو الفتح الحق.
وما عاش المسيح ذلك إلاّ لإيمانه بأن “الله محبة” أي أنه ليس ذلك الكائن الأسمى
الذي نعبد إلا لكونه في ذاته حركة حب. وهنا قتل المسيح الإله المستعلي، القابع في
سموات لا يدنى منها والمتصدق علينا بشرائع. قتل المسيح إله اللغة وبتنا لا يهمنا في
الإلهيات مقولات الفلاسفة، ولا تهمنا صفات لله أُعطيناها من اجل التربية ولكن يهمنا
منه اسمه الواحد الذي هو المحبة.
وكان لنا أن نتفلسف في صفات الإله، نتسابق في معرفته لنعليه ولا نبلغه، ونعطي
لأنفسنا عذر ضعفاتنا، حتى مات إنسان قال لنا بموته، هذه لعبة الله إنه أرسل إلى
البشرية مَن يموت عنها لأنه كان لا يعي أنه يملك شيئًا. على صورة المسيح عرفنا الله
فقيرًا كل عظمته أنه مبذولٌ، فعلمنا بذلك إننا غدونا قادرين على مجانية كاملة قادرة
أن تنشئ لله لا لنا أحبةً. لم يبق لله مضمون ولا نكهة إلاَّ إذا كان على صورة
المسيح. نحن ماذا يعنيني الإله؟ هل نؤمن به لأنه منشئ الكون إرضاءً لعقلنا الذي
يتخذ الخليقة دليلاً على الخالق؟ نحن، واقعيًا، لا تهمنا الأدلة البينات. الدنيا
لما تفشت من بعد التفجر الكوني رأينها آية قائمة في الزمان. أيعني ذلك أن هناك
مبدعًا قبل الزمان وله؟ أنفهم معقولية هذا العالم ونقهم ما فيه معقولية الأجسام
المطروحة بين عالم النبات وعالم الإنسان. ولكن فرضية الله خالقًا أو ممدودًا في هذا
الكون لا توحي إلي بشيء، ذلك أن البحر لا يحركنا والسماء لا تحركنا وكذلك ما
بينهما. عندنا هنا إنسان لا يتحسس لهذه المادة المرمية. إله الفلسفة لا تهمنا
والفلسفة كلها لا تعنينا. بعض منها أداتنا ولكنا لسنا منها أو لسنا فيها. ولذلك لا
يخاطبنا إلهها.
نحن لا نجيء من الله. نجيء من يسوع الذي يُقال له المسيح. هذا الذي تحلَّق حوله في
العشاء السري تلاميذه قال لهم: “إن أحدكم سوف يسلمني. تبادل التلاميذ النظرات لا
يدرون مَن يعني. وكان احد تلاميذ يسوع، وأحبهم إليه، فاتكأ التلميذ على صدر يسوع
وسأله: مَن هو يا رب؟”
مَن عرف فلسفة الساميين يفهم هذا: أن الحضن مقر الحب، وأن الصدر أو القلب مقر
الفهم. التلميذ الحبيب اتكأ في حضن المعلم ثم اتكأ على صدره. القراءة السطحية للنص
تقول إنه ارتفع ليطرح على المعلم سؤالاً. مَن يعرف انجيل يوحنا راوي هذه الرواية
يذهب إلى الأعمق فيقول إن الحضن يقود إلى الصدر أو إن الحب أساس الفهم إن لم نقل مع
بقية الأدب اليوحنائي إنه كل الفهم. إن نحن عاشرنا المسيح معاشرة يوحنا له فهو يكشف
لنا الله لأنه يقول إن الله أبوه. الأعمى والفيلسوف أو المتفلسف منهجيًا أو
العقلاني العابد عقله بحاجة إلى دليل. لهذا يذهبون من الكون إلى الله وقد يصلون إلى
المسيح. وما يفترضونه أن حسية الكون نصيب كل الناس، واليوم نعرف بعد تذري الذرة أن
هذا كلام غير علمي. كل هذه الأدلة الكونية لا يتحرك لها عقلنا. نحن نستغني عن الله
كليًا برهانًا على تكوين الدنيا. نحن نسكن مملكة الحب. وضعنا فيها الناصري وهي أعظم
من الكون وأقوى من الموت وأعمق وأبهى واسطع ضياء واشد فاعلية من كل الدنى. والحب
كونًا هو المسيح. هذا قال لنا إن الله أبوه. فبعد أن تعرينا من الدنى وأعرضنا عن
رؤية لعبة الله فيها واستغنينا عن عَدْوه في جنة عدن وزهدن بالجنات ورأينا المحبة
وحدها الدنيا وفهمنا أن الله الذي ارضيناه هو هذا الذي يحبه يسوع ويتحدث عنه كلمات
ومسالك وموتاً أدركنا إننا جيئانا فقط من هنا وأن ما نقوله عن المسيح قولاً أو
شرحًا أو ديانة أو تاريخ فكر إن هو إلا من باب شرح العاشق الذي لا يعطي عن عشقه إلا
تفاهة التعبير.
وإن رأينا إلى ابن الإنسان يصير أمامنا قامة من نور. ليس فقط لأنه “أتى بأمور
كثيرة، لو فُصلت، وفي كتب دُونت، لما اتسع العالم نفسه، في ظنا، وحواها”. ولكن تأتي
ساعة وقد أتت لكثيرين حيث السكر به هو الكلمة الأخيرة. |