كلمات المسيح هي معجزة الحكمة الخالدة، فلم يتكلم إنسان قط بمثل ما تكلم الناصري.
فعندما جلس على الجبل وفتح فاه، سكتت السماء وصمتت الأرض، فأصغت الأجيال إلى حكمة
رب الدهور والأجيال.. وليس عجيباً أن يكون المسيح مبدعاً في كلامه، لأنه هو: "كلمة
الله"!!!
فيا نفسي، عندما تقرأين كتاب الله الذي هو كلمة الله المكتوبة، هل تجدين منه صمتاً؟
وعندما تصلين إلى كلمة الله الحيّ، هل تجدين منه إعراضاً؟
أفحصي ذاتك أمامه وتصالحي معه يا نفسي، ولا تسكتي حتى يحدثك لأن صمته رهيب، ومن
يستطيع الوقوف أمامه؟!!
الصمت والصلاة.
فلو أخذنا أقدم كتاب صلاة كمرشد لنا، أي المزامير، نلاحظ أن هناك شكلين أساسين من
أشكال الصلاة، أحدهما النحيب والصراخ أمام الله طلباً للمعونة، والآخر هو الشكر
والتسبيح لله. ولكن هناك نوع ثالث من الصلاة على مستوى خفي، بدون طلبات أو تعبير
صريح عن التسبيح. على سبيل المثال المزمور 131 لا يوجد فيه غير الهدوء والثقة: "لقد
هَدَّأتُ وسكَّنتُ نفسي… تَرجِّي الرب من الآن وإلى الأبد".
أحياناً تتحول الصلاة إلى صمت لأن الشركة والسلام مع الله يمكنهما الاستغناء عن
الكلمات. "لقد هَدَّأتُ وسكَّنتُ نفسي كالطفل الفطيم مع أمه". كالطفل الذي يشعر
بالاكتفاء فيكف عن البكاء بين يدي أمه، هكذا نفسي في حضرة الله. حينئذ لا تحتاج
الصلاة إلى كلمات، وربما لا تحتاج حتى إلى أفكار.
كيف يمكننا إذن الوصول إلى الصمت الداخلي؟ أحياناً نكون صامتين، ولكن نتحدث في
داخلنا بأصوات عالية، نواجه آخرين من نسج مخيلتنا أو حتى نتصارع مع أنفسنا. كي نحفظ
نفوسنا في سلام نحتاج نوعاً من البساطة: "لم أسلك في العجائب أو العظائم التي أعلى
مني". عندما نصمت نعرف أن مخاوفنا لن تجدي شيئاً، فنترك لله كل ما هو أبعد من
إمكانياتنا وقدراتنا. لحظة من الصمت، وإن كانت قصيرة، فهي وقفة مقدسة كراحة السبت
المقدس، هي هدنة من المخاوف.
إن اضطراب أفكارنا يمكن مقارنته بالعاصفة التي هزّت مركب التلاميذ في بحر الجليل
بينما يسوع كان نائماً. قد نكون بلا سند مثلهم ممتلئين من القلق وغير قادرين على
تهدئة نفوسنا. لكن المسيح يمكنه أن يأتي إلينا ليعضدنا ويهدّئ قلوبنا عندما تموج
بالخوف والقلق كما انتهر الريح والبحر، وبعدها "كان هدوءاً عظيماً" (مرقس 4).
لنبقى ساكنين وواضعين رجاءنا في الله. لأن الصمت يقودنا إلى التسبيح لله. عندما
تنتهي كلماتنا وأفكارنا، فإن تسبيح الله يكون في صمت ودهشة وإعجاب.
كلمة الله: رعدٌ وصمت.
على جبل سيناء كلـّم الله موسى وشعب بني إسرائيل. الرعد والبرق وأصوات البوق
العظيمة سبقت وصاحبت كلمة الله (خروج 19). وبعد مضي عدة قرون عاد إيليا النبي إلى
جبل الله ذاته حيث اختبر عاصفة ً وزلزلة ً وناراً كما أختبر أجداده، وكان مستعداً
ليسمع الله يحادثه في الرعد. ولكن الله لم يكن في أي من الظواهر القوية المألوفة.
وعندما هدأ كل الضجيج سمع إيليا "صوت من السكون المطبق"، و تكلم الله معه (سفر ملوك
أول: 19).
هل يكلمنا الله بصوتٍ عالٍ أم في نسمات الصمت؟ هل يجب علينا أن نأخذ مثالاً في سماع
صوت الله الشعب المجتمع في برية سيناء أم تجربة إيليا النبي؟! يبدو أن هذه المقارنة
غير صحيحة لأن الظواهر المرعبة التي صاحبت كتابة الوصايا العشرة كانت لتوضيح مدى
أهميتها: حفظ الوصايا أو رفضها هي مسألة حياة أو موت. من منا يرى طفلاً يجري أمام
سيارة مسرعة لا يعطي لنفسه الحق في أن يصرخ بأعلى صوته؟ وفي مواقف مشابهة تكلم
الأنبياء بمثل هذه القوة حتى ترن كلمات الله داخل أذن السامعين.
الكلمات الملقاة بصوتٍ عالٍ تجعل نفسها مسموعة وتكون مبهرة، ولكننا نعرف أنها لا
تؤثر أبداً في القلب فهي تواجه المقاومة بدلاً من الترحاب. أوضحت خبرة إيليا أن
الله لا يريد الإبهار بل يريد أن يُفهَم وأن يُرحَّب به، لذا اختار الله "صوت من
السكون المطبق" لكيما يتكلم. إنها مفارقة.
الله صامت ولكنه يتكلم.
عندما يصبح صوت الله "صوت من السكون المطبق"، فهو يصبح أكثر تأثيراً في تغيير
قلوبنا. العاصفة القوية على جبل سيناء فتتت الصخور، لكن كلمات الله الصامتة قادرة
على تفتيت وفتح قلوب البشر المتحجرة. حتى بالنسبة لإيليا نفسه فأن السكون المفاجئ
كان على أغلب الظن أكثر مهابة من العاصفة والرعد. إن استعلان الله في مجد عظمته
وقوة جبروته كان مألوفاً بالنسبة لإيليا نوعاً ما، ولكن صمت الله كان مربكاً لأنه
كان مختلفاً تماماً عما عرفه قبلاً.
الصمت يجعلنا مستعدين للقاء جديد مع الله فمن خلاله نُمكـِّنْ كلمة الله من الوصول
إلى الجوانب الخفية في قلوبنا. في الصمت تظهر كلمة الله "أمضى من كل سيف ذي حدين،
وخارقة حتى لمفرق النفس والروح" (عبرانيين 4: 12). عندما نصمت نكف عن الاختباء من
الله فيستطيع نور المسيح أن يصل ويشفي ويغيِّر حتى ما نخجل منه.
الصمت والحب
قال المسيح: "هذه هي وصيتي: أن يحب بعضكم الآخر كما أحببتكم" (يوحنا 15: 12). نحن
في حاجة إلى الصمت لنقبل هذه الكلمات وننفذها عملياً. عندما نكون مضطربين في دوامة
الحياة وليست لنا راحة يكون لدينا الكثير من الأسباب التي تمنعنا من الصفح ولا تتيح
لنا أن نحب بسهولة شديدة. لكن عندما نحفظ " نفوسنا في سلام وهدوء" تنتهي هذه
الأسباب فلا تعد تؤثر. قد نتجنب نحن الصمت أحياناً ونفضِّل عليه الضوضاء أو الكلام
أو أي شيء يُلهينا، لأن السلام الداخلي قد يكون فيه مجازفة: فهو يجعلنا فارغين
فقراء، يفتت العبوس ويقودنا لمعرفة هبة أنفسنا. في صمتنا وفقرنا تنقاد قلوبنا
بالروح القدس، تمتلئ من الحب غير المشروط. الصمت هو طريق متواضع لكنه آمن للوصول
إلى الحب. وبالصمت تستريح النفس في المسيح.
فطوبى للنفس التي استراحت في المسيح.. وتمتعت بحبه فزهدت حب العالم الأناني.
طوبى للنفس التي استقرت في حضن المسيح.. ليمسح لها دموعها، ويغفر لها خطاياها،
ويُطهرها من كل إثم وزلة.
طوبى للنفس التي تعود في المساء بعد العناء.. لتجد الراحة والهدوء.. بل والخلود بين
ضلوع الحبيب الأبدي.
طوبى للنفس التي تعلّقت برجائها الأبدي.. وصارت في العالم غريبة عنه تسعى كسفيرة.
عيناها هناك حيث المسيح جالس. فكان لها العون والمعين... فنالت بصمتها وصبرها رجاء
الفرح الأبدي كما هو مكتوب في ( إش 61 : 10)
"فرَحًا أفرَحُ بالرَّب. تبتَهِجُ نَفسي بإلهي، لأنَّهُ قد ألبَسَني ثيابَ
الخَلاصِ. كساني رِداءَ البِر، مِثلَ عَريسٍ يتزَيَّنُ بعِمامَةٍ ومِثلَ عَروسٍ
تتزَيَّنُ بحُليها".
فيا نفسي اسمعي لصمت ذاتك.. لأن المسيح يسكن فيها.. فيعلمك طرقه... فتخلصين ...
أمين |