سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

أنـا هـو

مارغريغوريوس يوحنا ابراهيم

ميطرافوليط حلب

   

 

عندما نقرأ حدث الميلاد بحسب متى الرسول، ولوقا البشير، يبدو لنا كأن الحدثَ هو جزء من التاريخ فقط، دون الالتفات إلى المعاني الأخرى الكامنة وراء هذا الحدث اللاهوتي والروحي في آن!!

فمتى الرسول عندما يبدأ تسجيله للحدث يقول: أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هَكَذَا. وكلمة هكذا تفسّر واقعتين، الأولى: هي حبل مريم العذراء [1] من الروح القدس المخطوبة لـ يوسف وذلك قبل أن يجتمعا. والثانية: هي موقف يوسف عند معرفته بحبل مريم خطيبته. ربما يكون في هذا الوصف شيء من التأريخ، ولكن كلام الملاك ليوسف في الحلم يبيّن المعنى الروحي واللاهوتي للحدث، والملاك يقول ليوسف: لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ [2]. من الواضح أن يوسف التقي البار، لم يكن من صنف علماء الناموس، ولا الكتبة، ولا الفريسيين، ولا الصدّوقيين، أي لم يكن متعمّقاً في علم الكتاب المقدس، وهذه تجربة أولى جديدة له، إذ أنه يسمع للمرة الأولى بـ الروح القدس، ويتعرف على دوره في حبل خطّيبته مريم العذراء. وبعد برهةٍ قصيرة جداً ينتقل الملاك إلى موضوعٍ آخر أخطر من الأول، بقوله: لأن هذا المولود سيخلص شعبه من خطاياه [3].

 

(2) ولكن الرسول متى لا يتوقّف في حدث الميلاد عند هذين الموقفين. فبعد الولادة في بيت لحم، ـ وهنا يحدد الزمان ـ أنه كان فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، ينقلنا إلى مشهدٍ جديد، وهو مجيء المجوس من المشرق، والسؤال المحيّر الذي طرحوه على سكان المدينة مما جعل هيرودس الملك، ومعه جميع أورشليم، أن يعيشوا حالة قلق وتوتّر واضطراب، فالمجوس يسألون: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ [4]؟ والملك هيرودس المنفرد بالحكم، والمعروف بالدكتاتورية، وخوفاً على عرشه من ناحية، ومن باب الفضول من ناحية ثانية، جمع كل رؤساء الكهنة وكتبة الشعب وسألهم: أَيْنَ يُولَدُ الْمَسِيحُ [5]؟ ولم يذكر أنه ملك اليهود كما جاء على لسان المجوس الوافدين من المشرق، فقالوا له: بناءً على نبؤات الأنبياء، ستكون ولادته في بيت لحم اليهودية.

وعندما أوحي إلى المجوس في حلم أن يعودوا إلى بلادهم دون رؤية هيردوس وذلك بعد أن رأوا الطفل يسوع في بيت لحم، وقدّموا له الهدايا: ذَهَباً وَلُبَاناً وَمُرّاً، غضب جداً لأن المجوس سخروا به، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ الَّذِينَ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَفِي كُلِّ تُخُومِهَا مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونُ بِحَسَبِ الزَّمَانِ الَّذِي تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ [6].

وتجدر الإشارة أنه في الإصحاحين الأولين من إنجيل متى نرى براهين كتابية تؤكد حدث الميلاد، أي: نبؤات تحققت في هذا اليوم العظيم. أولاً: الملاك في حديثه مع يوسف في الحلم يُذكرِّه بقول إشعياء: هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ ﭐلَّذِي تَفْسِيرُهُ اَللَّهُ مَعَنَا [7] تلِد ابناً ويدعون اسمه عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا. كتابة تؤكد حدث الميلاد، أولاً الملاك في حديثه مع يوسف في الحلم يذكره بق. وثانياً: أشار رؤساء الكهنة وكتبة الشعب إلى قول الكتاب وهي من سفر ميخا النبي: وَأَنْتِ يَا بَيْتَ لَحْمٍ، أَرْضَ يَهُوذَا، لَسْتِ الصُّغْرَى بَيْنَ رُؤَسَاءِ يَهُوذَا، لأَنْ مِنْكِ يَخْرُجُ مُدَبِّرٌ يَرْعَى شَعْبِي إِسْرَائِيلَ [8]. وثالثاً: قول الملاك ليوسف: قُمْ وَخُذِ الصَّبِيَّ... لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ، بِالنَّبِيِّ، مِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي [9]. ورابعاً: في قتل أطفال بيت لحم، تمَّ ما قيل بالنبي أرميا: صَوْتٌ سُمِعَ فِي الرَّامَةِ نَوْحٌ وَبُكَاءٌ وَعَوِيلٌ كَثِيرٌ. رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا وَلاَ تُرِيدُ أَنْ تَتَعَزَّى لأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ [10]. وخامساً وأخيراً: بعد العودة من مصر واختيار الناصرة مكاناً للسكن ليتم ما قيل بالأنبياء: إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً [11].

 

(3) أما لوقا البشير، فريشته ـ وهو المصوّر البارع ـ ترسم لنا صوراً أخرى لحدث الميلاد. تبدأ المشاهد بـ زكريا الكاهن، وظهور الملاك له في الهيكل، وحبل أليصابات بيوحنا المعمدان، وهذا كمقدمة للبشارة التي حملها جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف واسم العذراء مريم. لقد جرى حوار قصير بين العذراء مريم والملاك، أكّد فيه الملاك لها بأن الروح القدس يحل عليها وقوة العلي تظلّلها [12]، فلذلك أيضاً، القدوس المولود منها يدعى ابنَ الله. إذاً العذراء أيضاً، وهي الفتاة الصغيرة التي لم تعرف في حياتها سوى الصلاة في الهيكل، كما لم تكن على درايةٍ بما ورد على لسان الأنبياء في العهد القديم، تسمع كلاماً جديداً عليها. الروح القدس يحل عليها، وقوة العلي تظللها، والقدوس المولود منها يدعى ابن الله [13]. ويربط لوقا البشير البشارة بزيارة العذراء لأليصابات في مدينة يهوذا. وهنا لا بد أن نمرَّ على نشيد مريم العذراء: تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللَّهِ مُخَلِّصِي [14].

 

(4) بعد الزيارة يُحدثنا لوقا البشير عن ولادة يوحنا، ثم ينتقل إلى حدث الميلاد مذكّراً بأمر صدر من أغسطس قيصر [15] بأن يكتتب كل المسكونة، وهذا ما دفع يوسف لكونه من بيت داود وعشيرته، ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حبلى، في مدينة بيت لحم، حيث ولدت ابنها البكر، وقمّطته وأضجعته في المذود، إذ لم يكن لهم موضع في المنزل [16].

وقبل أن ينطلق يسوع المسيح في رسالته الخلاصية يُشير لوقا إلى زيارة الرعاة للطفل يوم الولادة بعد أن بشّرهم الملاك بولادته، وسمعوا نشيداً من أفواه جمهور من الجند السماوي الذين سبّحوا الله قائلين : المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر [17]. وكان الرعاة من المبشرين الأوائل، لأنه بعد رؤية الطفل يسوع، والتحقق من كلام الملاك لهم، نقلوا البشارة إلى معارفهم وأقربائهم، ويأتي بعدهم المجوس الذين جاءوا من المشرق، وهؤلاء أيضاً في طريق عودتهم إلى بلادهم أعلنوا بفرح عظيم ولادة يسوع الملك. وبحسب إنجيل لوقا اختُتِن المولود بعد ثمانية أيام وسمي يسوع [18]، وعندما كان ابن أربعين يوماً، وبحسب شريعة موسى أخذوه إلى الهيكل ليقدموه للرب. وفي الهيكل كان اللقاء مع سمعان الشيخ وحنة بنت فنوئيل من سبط  أشير [19]. إن لقاء الطفل مع الشيخ سمعان والنبية حنّة أيضاً له دلالات، على أن عمل الروح القدس كان بادياً في الولادة.

وبعد هذا الظهور الثاني في الهيكل يقول لوقا أن الصبي كان ينمو ويتقوى بالروح [20]. وكان يذهب كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، ولكن عندما كانت له اثنتا عشرة سنةً بقي جالساً في الهيكل، في وسط المعلمين، يسمعهم ويسألهم [21]. إذاً هذا هو كل ما نقرأه عن حدث الميلاد بحسب ما ورد في الإنجيل المقدس للقديسَين متى الرسول، ولوقا البشير.  

   ماذا تكون انطباعاتنا نحن أبناء القرنين العشرين والواحد والعشرين من قراءة تفاصيل حدث الميلاد؟

 

(5) لقد عبَّر كل من متى الرسول، ولوقا البشير، عن حدث الميلاد بأسلوب بسيط، ونحن أبناء هذه الكنيسة المقدسة كما فعل آباؤنا وعلّمنا المعلمون وتعاليم الكنيسة آمنّا بما كتبه كلٌ منهما، وجعلنا الميلاد حدثاً روحياً هاماً في حياتنا، واعتمدنا على كل حركةٍ وردت على لسانهما، وبنينا ممارساتنا، ولكن نريد أن نعرف ماذا يقول السيد المسيح عن نفسه بعد كل هذه الأحداث الإنجيلية.

لقد بدأ يسوع المسيح كرازته بعد العماد في نهر الأردن من عبده يوحنا ابن زكريا الكاهن، وجاءت شهادة يوحنا الرائي له صريحة وواضحة: وَﭐلْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً، وَحَلَّ بَيْنَنَا، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً [22]. ويقول اللاهوتي يوحنا أيضاً: اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ [23]. هذه هي شهادة يوحنا صاحب الإنجيل وسفر الرؤيا والرسائل الثلاث في مولود بيت لحم.

أما يسوع المسيح فيشهد بطريقة خاصة عن نفسه، ويبدأ هذه الشهادة بعبارة أنا هو، لكي يقرّب إلى أذهان اليهود هذه الشخصية النادرة التي ظهرت على مسرح تاريخهم وأعلنت أن مملكته ليست من هذا العالم، فهو ليس واحداً من الأنبياء الذين سبقوه وتحدّثوا عنه، وإن شئتم فـ: هو حمل الله الذي سيرفع خطيئة العالم [24] كما صرح المعمدان.

 

(6) ويبدأ السيد المسيح في تفسير رسالته في حواره مع اليهود بقوله: أنا هو نور العالم [25]. الشعب اليهودي كان يعيش في ظلمة الخطيئة. والسيد المسيح بولادته جاء ليبدد أركان الظلمة، فكل من يتبعه لا يمشي في الظلمة، بل يكون له نور الحياة، وهذه الشهادة أربكت الفريسيين، لا بل أزعجتهم، وأدخلتهم في متاهات كثيرة، لهذا اعترضوا عليه قائلين : أَنْتَ تَشْهَدُ لِنَفْسِكَ. شَهَادَتُكَ لَيْسَتْ حَقّاً [26]، فيجيبهم: أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي [27].

ولم يقف عند هذا الجواب، بل نراه يذهب إلى بعيد، فالميلاد في المغارة لن يُفهم من قِبَلهم إلاّ عندما يُصلب، لهذا قال لهم بعبارةٍ صريحة: مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ [28]، هل تذكّر اليهود عمود النور الذي قادهم في البرية، وكان معهم لبرهة قصيرة من الزمن؟ لو عرفوا ذلك لأدركوا هذا الذي يقوله لهم الآن: أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَم، إنه النور الحقيقي الدائم إلى الأبد. هل قرأوا من جديد ما كتبه لهم إشعياء النبي: أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْداً لِلشَّعْبِ وَنُوراً لِلأُمَمِ [29]، لم يفهم اليهود أن يسوع المسيح حقيقةً هو نور العالم. حتى عندما فتّح أعين العميان بالفعل.

 

(7) لم يفكر الفريسيون أو الصدّوقيون أو الكتبة، في إعادة قراءة كتب الأنبياء، فعندما قال لهم يسوع المسيح: أَنَا هُوَ الْبَابُ، إِنْ دَخَلَ بِي أَحَدٌ فَيَخْلُصُ وَيَدْخُلُ وَيَخْرُجُ وَيَجِدُ مَرْعًى... وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ [30]. لم يتذكّر اليهود، وقادتهم، كلام صاحب المزامير هَذَا الْبَابُ لِلرَّبِّ. الصِّدِّيقُونَ يَدْخُلُونَ فِيه [31]. وحتى عندما كلّمهم بأمثال كانت أذهانهم بعيدةً عن إدراك المعنى الحقيقي وراء المثل الذي ضربه يسوع لهم، فمثل الحكيمات الخمس، والجاهلات الخمس، اللواتي أخذْن مصابيحَهنَّ ووقفْنَ عند الباب، ولم تدخل إلاّ المستعدات، أمّا العذارى الجاهلات فطرقْنَ على الباب، قائلات: يَا سَيِّدُ يَا سَيِّدُ افْتَحْ لَنَا [32]، ولم يُفتح الباب في تلك الساعة، لم يعرف الملتفون حول السيد المسيح أنه هو الباب الذي جاء من أجل خلاص الإنسان.

 

(8) إن رسالة السيد المسيح إذاً كانت لتقرّب إلى أذهانهم شرح ما ورد في أسفار العهد القديم، فبعد أن قال لهم: أنا هو نور العالم، وأنا هو الباب ينتقل إلى صفةٍ أخرى من صفات المخلّص، فيقول: أنا هو الراعي  الصالح!! أما كيف يكون الراعي صالحاً، وليس أجيراً، فالجواب هو عندما يبذل الراعي نفسه عن الخراف. غريبٌ عجيبٌ أمر اليهود، لا يفهمون كنه رسالة السيد المسيح، فهو جاء ليولد في مغارة بيت لحم، ولكنه في الوقت ذاته هو الذي سيُرفع على خشبة العار!! فقط ساعتئذٍ سيفهم اليهود عبارة: إني أنا هو.

وها الراعي الصالح يتحدث مرة أخرى عن البذل، الذي يعني قمة العطاء، وكيف يبذل الإنسان نفسه عن الخراف عندما يُصلب. فالصلاح لا يكون فقط في الرعاية وإنما في الثبات، فالأجير عندما يرى الذئب مُقبلاً يترك الخراف ويهرب، فيخطف الذئب الخراف ويبددها، أما السيد المسيح فليس بالأجير الذي لا يبالي بالخراف، إنه الراعي الصالح، صاحب الخراف ومالكها. وكما قال حزقيال: وَأُقِيمُ عَلَيْهَا رَاعِياً وَاحِداً فَيَرْعَاهَا [33]، والرعاية الصالحة تكون في البذل، في التضحية، في نكران الذات، أي حتى إذا اضطر الراعي أن يقدّم نفسه فداءً عن أحبائه، يمكن أن يفعل ذلك دون تردد. ألا نتذكر هنا قول السيد المسيح  لبطرس: أَتُحِبُّنِي أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلاَءِ؟ فعندما قال له: نَعَمْ يَا رَبُّ أحبّك، أكّد عليه ثلاث مرّات، ﭐرْعَ خِرَافِي! ﭐرْعَ غَنَمِي! ارع حملاني! لأنه كان يريد أن يُعرِّف بطرس وأخوته الرسل، بأن الرعاية الصالحة للرعية المباركة قد تؤدّي إلى بذل الذات.

 

(9) لم يكن من السهل أن يفهم اليهود السيد المسيح وهو يقول لهم: أنا هو [34]، فعندما أشبع الآلاف من خمسة أرغفة شعير وسمكتين، فرح اليهود لأنهم أكلوا وشبعوا، ولكن عندما قال لهم: أنا هو الخبز النازل من السماء، تساءلوا أَلَيْسَ هَذَا هُوَ يَسُوعَ بْنَ يُوسُفَ الَّذِي نَحْنُ عَارِفُونَ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ. فَكَيْفَ يَقُولُ هَذَا إِنِّي نَزَلْتُ مِنَ السَّمَاءِ [35]، كان جواب يسوع لهم: لاَ تَتَذَمَّرُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ... أَنَا هُوَ الْخُبْزُ الْحَيُّ الَّذِي نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ. إِنْ أَكَلَ أَحَدٌ مِنْ هَذَا الْخُبْزِ يَحْيَا إِلَى الأَبَدِ. وَالْخُبْزُ الَّذِي أَنَا أُعْطِي هُوَ جَسَدِي الَّذِي أَبْذِلُهُ مِنْ أَجْلِ حَيَاةِ الْعَالَمِ [36]. نحن نتوقع كما كتب الإنجيلي يوحنا أن يخاصم اليهود بعضهم بعضاً، لأنهم لم يفهموا معنى البذل الذي من أجله جاء السيد المسيح. فولادته بالجسد عندما بلغ ملء الزمان على حد قول بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية، في مغارة بيت لحم، كانت لكي عندما يأكل المؤمن جسده، ويشرب دمه، عندئذٍ تكون له حياة أبدية. والسيد المسيح يقيمه في اليوم الأخير. وبوحنا الرائي يصف لنا حالة التلاميذ بعد سماع هذا الكلام، ويقول: كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِذْ سَمِعُوا إِنَّ هَذَا الْكلاَمَ صَعْبٌ! مَنْ يَقْدِرُ أَنْ يَسْمَعَهُ، عرف يسوع أفكارهم فوبخّهم بعبارة أَهَذَا يُعْثِرُكُمْ [37].

 

(10) ثم نقلهم يسوع ذاته إلى الجلجلة، إلى البذل الحقيقي، وإلى ما بعد القيامة عندما قال: رَأَيْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ صَاعِداً إِلَى حَيْثُ كَانَ أَوَّلاً [38]. وبما أن هذا الكلام كان صعباً وغير مفهوم، لهذا يقول يوحنا أيضاً: مِنْ هَذَا الْوَقْتِ رَجَعَ كَثِيرُونَ مِنْ تلاَمِيذِهِ إِلَى الْوَرَاءِ وَلَمْ يَعُودُوا يَمْشُونَ مَعَهُ [39]. المشكلة أنهم كانوا على مسافة بعيدة من المعاني الحقيقية لكلمات السيد المسيح. فعندما كان يقول لهم: أنا هو نور العالم، أو أنا هو الباب، أو أنا هو خبز الحياة، كانوا يستغربون، لأنهم لا يعيشون في أجواء العائلة الصغيرة، ولم يخرجوا من مغارة بيت لحم، إلى الناصرة، أو إلى الهيكل، ولم يعرفوا حقيقة رسالة يسوع المسيح الخلاصية.

 

(11) ها هو يعلن فكرة جديدة لرسالته العلنية: أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ... أَنَا الْكَرْمَةُ وَأَنْتُمُ الأَغْصَانُ... كَمَا أَحَبَّنِي الآبُ كَذَلِكَ أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا... لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ [40]. هكذا يصوّر السيد المسيح شكل الكنيسة بالكرمة، وعلاقته الدائمة بالمؤمنين، برسالة الخلاص. إن سر دوامها وديمومتها وقوتها يكمن في المحبة، وعندما تجابه التحديات الصعبة، وتدخل الكنيسة في عالم الاضطهاد، عندئذٍ هذه المحبة تتجلى في الفداء، لهذا فيسوع المسيح عندما يقول: أنا هو الكرمة، يُعيد إلى أذهانهم عبارة يوحنا الرائي، والكلمة صار جسداً ليصبح كنيسة، والكنيسة لها أغصان أي أعضاء، هذا الترابط العجيب، هو سر ديمومة الكنيسة، فكل غصن في هذه الكرمة لا يأتي بثمر يُنزع، وأما الذي يأتي بثمر فينقّى ويأتي بثمر أكثر [41].   

 

(12) لو أردنا أن نختصر رسالة يسوع المسيح الخلاصية لوجدنا أن قوله: أنا هو الطريق والحق والحياة، هو الحل المناسب لكل إشكاليات الانتماء إلى السماء، فالطريق لم تكن معبّدة أمام الإنسان ليصل فيها إلى الله من خلال علاقاته، لأن الحق كان بعيداً عن الإنسان، الذي عاش في ظلام كل الزمن الذي بقي فيه بعيداً عن الله ومعرفة الحق. السيد المسيح قالها بعبارة واضحة جداً لا تقبل الشك: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي [42]. من يستطيع أن ينكر هذا المفتاح الجديد الذي قدّمه السيد المسيح على طبقٍ من ذهب للإنسان أولاً: بدّد كل معاني القلق والاضطراب من قلوبهم لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فَآمِنُوا بِي [43]. ثم تساءل: تعلمون حيث أذهب وتعلمون الطريق.

وعندما تقدّم توما الرسول وسأل سيده بجرأة قائلاً: يَا سَيِّدُ لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ [44]، فجاء جواب قوي وواضح من السيد  المسيح: أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ. لَيْسَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَى الآبِ إِلاَّ بِي [45].

لا ننسى أن يسوع المسيح كان في موقفه الأخير، يستعد للذهاب إلى الجلجلة، وهو يُعد كل شيء أمام تلاميذه، فهو الطريق التي تقود إلى الملكوت، وإلى الإيمان به وبالآب والروح القدس معاً، وأنه الحق الذي ينير، النفوس ويطرد عنها ظلام الضلال، وأنه الحياة الحقيقية، لأن من وجده وجدها فيه، إذاً مولود بيت لحم يدعونا اليوم لنفهم ما هي رسالته إلى العالم إنها: الطريق والحق والحياة.

 

(13) لا نستطيع أن نفهم كل هذا الكلام، إلاّ إذا توقفنا عند عبارة أخرى معبّرة جداً عن العلاقة بين الميلاد والفداء. السيد المسيح قبل أن يذهب إلى الصليب، ذهب إلى بيت عنيا لأن لعازر شقيق مريم ومرتا كان مريضاً. لم يكن مرضه للموت، كما ورد على لسان السيد له المجد، وهو يتحدّث إلى تلاميذه، بل لأجل مجد الله، أي ليتمجّد ابن الله به [46]. وكانت مناسبة ليؤكّد الإله المتجسد لكنيسته المقدسة أنه إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر، ولكن إن كان أحد يمشي في الليل يعثر، لأن النور ليس فيه. وقبل أن يذهب إلى قبر لعازر عاتبته مرتا بمحبة كبيرة قائلة: يَا سَيِّدُ لَوْ كُنْتَ هَهُنَا لَمْ يَمُتْ أَخِي،  قال لها يسوع: سيقوم أخوكِ ، قالت له مرتا: أنا أعلم أنه سيقوم بالقيامة في اليوم الأخير،  قال لها يسوع: أنا هو القيامة والحياة من آمن بي وإن مات فسيحيا [47]. مرةً أخرى يفاجئ يسوع المسيح مولود بيت لحم العالم اليهودي بعبارة أنا هو... أنا هو القيامة والحياة.

من منا يدرك أن يسوع المسيح بعد ولادته في مغارة بيت لحم، سيذكّرنا بالمغارة التي دفن فيها، وأنها ستكون طريقاً للقيامة والحياة. عندما نسمع الرب يسوع يقول عن نفسه: أنا هو نور العالم، أنا هو الطريق والحق والحياة، أنا هو الكرمة الحقيقية، أنا هو الباب، أنا هو خبز الحياة، كل هذه العبارات تدخل في صلب عمل السيد المسيح لبناء الإنسان، وقيادته إلى حيث الطريق والنور والحياة، هذا البناء الروحي سيؤدّي حتماً إلى الحياة الأبدية، أما عندما يقول: أنا هو القيامة، فهذا استعلان لحقيقة كائنة فيه، فالرب لا يحيي الأجساد فقط، بل يعطي الحياة الأبدية، فمن آمن بي ولو مات جسدياً، فسيحيا للأبدية المجيدة.

يقول شارح هذه الآية المطران مار يعقوب ابن الصليبي أن المسيح بهذا القول أعلن عن لاهوته بأجلى بيان، وتعني عبارته: أنا الله، بأمري تكون القيامة، وبسلطاني الخاص تكون الحياة، والمؤمن بي، وإن مات، فسأعطيه الحياة في السماء، وأقيمه أيضاً في آخر الأزمان. لا بل هذا المؤمن بالمسيح يسوع تزداد فيه حياة النعمة في الأرض، وينال أيضاً حياة المجد في السماء.

نحن نرجو عندما يسألنا الله، ونحن نحتفل بعيد ميلاد ابنه الحبيب الطفل يسوع في مغارة بيت لحم، إن كنّا مؤمنين بأن يسوع هو القيامة والحياة كما سأل مرتا، أن يكون جوابنا: نعم يا رب أنتَ ولدت في مغارة بيت لحم، وبعد أن سبحّك الملائكة في السماء، وزارك الرعاة وفرحوا بكَ، ثم جاءتك شهادة من المشرق من المجوس الذين تبعوا النجم، فعرفوا أن الملك قد ولد حقيقة، وزاروك في بيت لحم، نحن أيضاً مع مرتا آمنا أنّك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم. 

 


المراجع:

1- إنجيل متى 1 : 18

2- إنجيل متى 1 : 20  

3- إنجيل متى 1 : 21

4- إنجيل متى 2 : 2  

5- إنجيل متى 2 : 4  

6- إنجيل متى 2 : 16

7- إنجيل متى 1 : 23  

8- إنجيل متى 2 : 6  

9- إنجيل متى 2 : 15

10- إنجيل متى 2 : 18  

11- إنجيل متى 2 : 23  

12- إنجيل لوقا 1 : 34 و 35

13- إنجيل لوقا 1 : 35 

14- إنجيل لوقا 1 : 46 و 47   

15- إنجيل لوقا 2 : 1

16- إنجيل لوقا 2 : 5-7 

17- إنجيل لوقا 2 : 8-14 

18- إنجيل لوقا 2 : 21

19- إنجيل لوقا 2 : 25-38  

20- إنجيل لوقا 2 : 39 

21- إنجيل لوقا 2 : 41-50  

22- إنجيل يوحنا 1 : 14  

23- إنجيل يوحنا 1 :18 ...ألخ

 
 

Copyright©  www.karozota.com

 
  
 

English