في التحفظ والانقطاع من المسترخين والمتوانين، لأن منهم من يملك عليه الكسل
والرخاوة، ويمتلئ من كل الأهواء النجسة، ولأن منهم من يجب عليه أن يحذر المؤالفة
لئلا يتنجس ذهنه بفسق أفكاره.
(1) مَن منع فمه من الكلام حفظ قلبه من الأهواء. ومَن نفـّر قلبه منها يرى الله
كل حين. ومَن يهذ بالله كل وقت يطرد الشياطين من حوله ويهلك زرع خباثتهم. من يحدق
في نفسه كل حين يبتهج قلبه عند الاستعلانات، ومن يحول نظر ذهنه إلى داخله يرى شعاع
الآب. ومن احتقر التلهي رأى سيده داخل قلبه. أنت يا من ترغب في النقاوة التي يُرى
بها سيد الكل لا تفتر، ولا تسمع كلام الافتراء عن إخوتك. وإن حدثت حولك خصومة أو
سمعت رجزًا، شُد أذنيك واهرب من مكانك لئلا تموت نفسك عن الحياة.
(2) قلب الغضوب خال من أسرار الله. أما قلب الوديع والهادي فهو ينبوع أسرار
العالم الجديد. إن كنت طاهرًا، تكن السماء في داخلك وتر فيه الملائكة متلألئين،
وسيدهم فيهم وبينهم. والقلب الذي يُسبح حقا، لا يكون خاسرًا. إن عَذبَت له التسبحة،
يكن عاملا من دون أجرة. ذخيرة المتواضع في داخله هي الرب بعينه. وحذر اللسان لا
يسلب أبدًا. فم السكوت يترجم أسرار الله. ومن يتكلم كثيرًا يبتعد عن خالقه. نفس
اللطيف تفوق الشمس تنورًا، وهي تتنعم برؤية الاستعلانات الإلهية كل ساعة. الملتصق
بمحبة الله يغتني بأسرار الله. والملتصق بالجاهل والمفتخر يبتعد عن الرب ويزدريه
أحباؤه. من أسكت لسانه وأيضًا كل ظاهره يقتن ترتيب المتضع الوديع. وهكذا يكون
متسلطًا على الأهواء التي تضمحل وتتلاشى بالهذيذ الدائم بالله. هذا هو السيف القاتل
الأهواء.
(3) كما أنه، في هدوء البحر وسكونه، تلعب الدرافيل، هكذا في هدوء بحر القلب
وسكونه من الغضب والحدة، تتحرك الأسرار الخفية والاستعلانات الإلهية لتنعمه. من يرد
أن يرى الله، فليتدبر تطهير قلبه بتذكر الله المتواصل. ومن الآن بصفاء عيني ذهنه،
يرى الله في كل حين. وما يحدث للسمكة إثر تجربة اليبس، هو ما يحدث للذهن عند خروجه
من معرفة الله للانشغال بذكريات العالم. وعلى قدر ما يقلل المرء من مخالطة الناس
ومرافقتهم، يستحق بواسطة الذهن، أن يكلم الله وأن تكون له الدالة. وبقدر ما يقطع
ويرمي عنه التعزيات العالمية، يستحق الفرح في الله بواسطة الروح القدس. ومثلما
يضمحل السمك ويموت عند انعدام المياه، هكذا تضمحل الحركات النورانية التي يحركها
الله، من قلب المتوحد الذي يحب الحديث إلى العالميين ومرافقتهم. العالمي الذي ينشغل
بأتعاب العالم هو أفضل من المتوحد المنشغل بالعالميين. يخيف الشياطين ويحب الله
وملائكته، من بغيرة كبيرة يحصد من قلبه الزرع الذي ينبته الشرير.
(4) بلد النقي النفس هو في داخله، والشمس التي تشرق فيه هي نور الثالوث المقدس.
والهواء الذي يتنفسه سكانه هو الروح القدس، البارقليط. والديريون الذين يعيشون معه
هم الجموع القدوسة الروحانية. وحياتهم وبلدهم وفرحهم وابتهاجهم هو المسيح ضياء الآب.
وذلك المتوحد يبتهج برؤية نفسه كل حين، وبجمالها يتعجب، ويفوق حسنه مائة ضعف جمال
الشمس. تلك هي أورشليم وذلك هو ملكوت الله اللذان هما مختبئان في داخلنا، على حد ما
يقول ربنا. هذا هو بلد غمامة مجد الله: أنقياء القلوب فقط يدخلون لرؤية وجه ربهم،
ولكي تستضيء أذهانهم بأشعة نوره.
(5) الحرود والغضوب، ومحب المجد الباطل والشره، ومحب بطنه والمختلط بالعالميين،
والعنيد والحنجراني، والوقح والمليء بالأهواء، هؤلاء، في الظلمة، خارج بلد الحياة
والنور، ينتظرون. لهذا السبب، ذلك الميراث هو خاصة المتضعين والودعاء وأطهار القلوب:
لا يستطيع إنسان أن يرى الحُسن الذي في داخله قبل أن يطرد منه كل حُسن إلى الخارج،
ولا يشخص إلى الله إنسان قبل أن يحتقر العالم بالتمام.
(6) من يحتقر ذاته ويرذلها ينل الحكمة من الرب. ومن يحسب نفسه حكيمًا، تتخل عن
حكمة الله. بقدر ما يسكت اللسان عن الكلام، يستنير الذهن لتمييز المعاني. ومن كثرة
الكلام، يتوسوس العقل الناطق. الفقير من متاع الدنيا يغتني بالله، وصديق الأغنياء
يفتقر إلى متاع الله. لأن العفيف والمتواضع الذي يحتقر المؤانسة، وقد أبعد الحرد من
قلبه، أقول واثقا إنه متى شخص إلى ذاته في الصلاة، لا يمكن أن يعدم رؤية ضياء الروح
القدس في نفسه، فيستضيء بأشعة نوره ويبتهج برؤية مجده. وعندما تصبح نفسه شبهًا
للروح، فلا عمل يستطيع أن يهدم مواكب الشياطين النجسة مثل النظر إلى الله.
(7) قال لي واحد من الأخوة: {كنت مرة جالسًا، وسبت ذهني رؤية إلهية. وعندما تحرر،
تنهدت بقوة. وحين سمع الشيطان الذي كان قائمًا هناك، تنهدي، اضطرم مثل البرق، ومن
شدة ذلك، صرخ مندفعًا هاربًا}. طوبى لمن تذكر عبوره فيك أيها العالم أنه فطم شهوته
عن السعادة التي هي منك. إذ أخذ، بدلا، السعادة من ذبيحته، وليس له أن يمتنع عن أخذ
سعادته.
(8) ذلك هو المولود من الرب، وذلك هو الذي تكون مربيته الروح القدس، ومن حضنها
يرضع الحياة، ويستنشق رائحتها لتنعمه. أما بشأن من ارتبط بالعالم وراحته، مع مناظره
المحبوبة له، ليس لي إلا أن أنوح النواح المرّ لأن هذا انفصل عن الحياة التي سماعها
يشفي قلوب السامعين. أيها الساقطون في العمى ، ارفعوا رؤوسكم، ليشرق النور على
وجوهكم! إخرجوا من اهواء العالم، الجحيم الذي يخبئ المرخيين، لكي يخرج نور الآب إلى
لقائكم، فيأمر خدام جلالته بحل رباطاتكم، وتسيروا وراءهم نحو أبيه. الويل لنا بماذا
نحن مربوطون! وممن نحن ممنوعون لكي لا نرى مجده! يا ليت رباطاتنا تنقطع ليكون الله
نصيبنا.
(9) إن كنت تريد معرفة خفايا الناس، فليس لك أن تتعلم ذك بواسطة الروح. فمن
الكلام ومن السلوك تعلم ما في داخل كل إنسان، إن كنت حكيمًا. من كانت نفسه طاهرة
وسلوكه نقيًا، يتكلم كلام الروح كل حين بعفة، فبقدر ما تكون درجته، يتكلم على الله
وعلى الأمور الحاصلة عنده. والذي تتعب قلبه الأهواء، يتحرك لسانه دومًا بواسطتها.
وإن كان يتكلم على الروحانيات، فبوجع يتكلم، وينتصر جورًا. فالحكيم يميز هذا عند
لقائه والطاهر يشتم رائحته الكريهة. المتكلم دومًا بكلام اللعب والتلهي هو زان في
جسده ونفسه. ومن يكون انيسًا له، فهو فاسق. وإن كان يتبعه ويخالطه فهو شريك الأوثان.
الحب الذي يهوى الصبيان هو زنى يحتقره الرب ولا ضمادة لانكساره.
(10) أما الذي يثبت حبه ويكون هو هو تجاه كل الناس، فهذا قد بلغ الكمال، والشاب
الذي يصاحب شابًا، فليبك عليهما اهل التمييز. والشيخ الذي يهوى ملاحقة الصبيان تفوق
نجاسة أهوائه نجاسة الصبيان. وإن كان يكلمهم على الأعاجيب، فإن قلبه يكون غارقا في
الحمى. أما الشاب الهادئ، ذو القلب النقي من الغيرة والحرد، وهو منقطع عن كل إنسان
والخاشع في نفسه، فعليه أن يفهم بسرعة أهواء الشيخ المرخي. الشيخ الذي لا تكون عنده
الشيخوخة والصبوة واحدة هو بلا تمييز. ابتعد عن لقاءه كلما استطعت. الويل للمرخيين
الذين يتنكرون بالإسكيم المقدس، فليبتعدوا أهواءهم. من وصل إلى الشيخوخة بطهارة
الإفكار والسيرة وبحفظ اللسان، يتنعم، ها هنا، بحلاوة ثمار المعرفة. وعند خروجه من
الجسد يقتبل مجد الله. لا شيء يبرد نار الروح الذي يقدس النفس مثل المخالطة
والمؤانسة.
(11) ما خلا ذلك من يكون مع أبناء أسرار الله لتربية معرفته وهدايتها، تؤدي به
تلك الرفقة إلى الحياة وإلا تلاشي الأهواء والأفكار السمجة أكثر من الفضائل. لا يكن
لك صديق وكاتم أسرار إلا هذا، لئلا تضع حجر عثرة لنفسك وتحيد عن طريق الله. ليكن
كبيرًا فيك الحب الذي يوحد بالله لئلا يسبيك الذي غرضه فاسد. رفقة النشطاء تكون
ليغتني الواحد من الآخر بالله. ورفقة الكسالى وأهل الملل تكون لملء البطن بالزائد
عندما يتلهى الواحد مع الآخر. المتوحد يقل طعامه عندما يكون وحيدًا ويصعب عليه
كثيرًا أن يأكله من دون رفقة الآخر. ويقول: الويل لذلك الذي يأكل بمفرده، فإنه لا
يجد إلهنا. وهؤلاء الكسالى يتبادلون الولائم وهم أوفياء في ذلك. آه من ذلك الحب
النجس والفعل الطمث! فُرّ يا أخي من معتادي هذه الأمور، ولا تأكل معهم، ولا تصادقهم.
قبيحة هي مائدتهم، والشياطين يساعدون في إعدادها. مدعوو الختن، المسيح، لا يذوقون
منها. وليمة الطامع بالمأكل، فاعل شيطان الزنا، توسخ نفس الوديع. وكسرة خبز يابس من
مائدة نقي النفس تجليها من كل الأهواء. رائحة مائدة الشره الذي يقلي الطبيخ تكره
أحشاء الأطهار. الطفل يُجتذب نحوه مثل الكلب نحو الجزار. والمواضب كل حين على
الصلاة، تفوق رائحة مائدته رائحة المسك. ومن هو محب لله، يشتاق إليها كأنها الكنز.
(12) المائدة التي يتكئ إليها الساهرون والزهاد والصيام، أمض نحوها وخذ منها
دواء الحياة، وانعش به نفسك الميتة. الحبيب هو متكئ بينهم ويقدس مائدتهم، ليحول
مرارة مائدتهم إلى حلاوته التي لا تُفسر. وخدامه الروحانيون المرفرفون، يحلون عليهم
وعلى غذائهم الطاهر. أعرف واحدًا من الأخوة كان يشاهد هذا علانية. طوبى لمن فطم فمه
عن السعادة التي تجعله ينسى خالقه. فمن طوبى واحدة يأكل، من مائدة العليّ، من تلك
التي تغتذي منها قوات النور. طوبى للذي صار غذاؤه ذلك الخبز الذي نزل من الملاء
وأعطى الخلائق الحياة، وبه تقتات العوالم في العالم الجديد.
(13) طوبى لمن أصبح في الامتزاج الذي يصنعه شراب الحياة الذي جرى من أجلنا من
حضن الآب، وشخص إليه وهو يشربه، وسكر قلبه فرحًا. من ير ربه في طعامه، تشرق نفسه
ويأكل ذلك وحده، ولا يشارك في ذلك غير المستحقين لئلا يأكله من هو معرى من شعاعه.
من يختلط بوليمته سم الموت، لا يطيب له المأكل إذا لم يكن معه شركاؤه. إن الذئب
المعتاد أكل الجيف، إنما يفعل ذلك محبة ببطنه. لماذا أنت شره أيها الإنسان الجاهل
لتملأ بطنك من مائدة المرخيين، إذ منها يملأ نفسك كل الأهواء الشريرة. هذه
التحذيرات تكفي من يقدر أن يقمع شرهه في زمننا المائع، مشتهي التلهي والبطن، اللذين
منهما يتولد الهوى في النفس والنجاسة في الجسم. رائحة الصائم لذيذة، ولقياه يبهج
قلب الذي يمارس التمييز، أما الشره فهو يخاف من المرافقة، ويرى حيلة لكي يجد من
يأكل معه. نظام الناسك يحبه الرب. ومن هو مرتبط بالمقتنى، تصعب جيرته. والساكت
يمجده المسيح جدًا. ومن سبته الشياطين باللهو والتنزه، لا يطيب للمسيح أن يثبت
عنده.
(14) من لا يحبك أيها المتواضع الطيب، إلا المفتخر المفتري، الذي أنت غريب عن
ممارساته! قال لي إنسان من خلال تجربته هذه الممارسات: {في اليوم الذي يكون لي فيه
اختلاط بالآخرين، آكل ثلاث أو أربع قطع خبز. وإذا غصبت نفسي لكي تصلي، فلا يكون
لذهني رفيق، ولا دالة عند الله، ولا أستطيع أن أشخص إلى أقنومه. وإذا انقطعت نفسي
إلى الهدوء، ففي اليوم الأول، إذا غصبت نفسي، آكل قطعة خبز ونصف قطعة، ومن بعد ذلك
قطعة واحدة. وإذا ثبت ذهني في الهدوء، أحارب نفسي لكي آكل قطعة واحدة، فلا أستطيع
ذلك، بل بصعوبة آكل نصفها أو أقل من هذا، إذ إن ذهني يكلم الله بدالة وبدون انقطاع،
بلا اجتهاد ولا اهتمام مني، وضياؤه يشرق أيضًا عليّ، ويجتذبني لأنظر إلى حسن النور
الإلهي، الذي أشرق عليّ، وأفرح به.
(15) وإن كان يحدث ويصادفني إنسان في تلك الأيام، حتى ولو كان ذلك صباحًا ومضى،
فلا أحتمل في ذلك اليوم إلا أن آكل أكثر من الأيام السابقة، وبالرغم من أني أجهد
نفسي في الممارسة، تصبح صلواتي ناقصة وباردة. وذهني يبصر الضياء بتوان.
(16) يا إخوة، انظروا كم هو رفيع ونافع الثبات التوحدي، وكم يؤمن السهولة
للممارسات الزهدية. طوبى لمن ثبت فيه من أجل الواحد ويأكل قطعة خبز واحدة. فإنه في
كل ساعة يترافق مع الواحد، له المجد إلى أبد الآبدين. |