ميمر مملوء من كل وعظ في سائر أنواع الفضيلة، وإيضاح كل تدبير
السيرة النفسانية التي هي الدرجة الوسطى في الرهبنة، وتحذير من الإهمال في قوانين
الوحدة والسكون في القلاية. ويغني بإيجاز عن كتب كثيرة، ويدل بإفصاح على كل سيرة
تدبير العقل، وخاصة في عدم وجود المرشد والمعلم.
1- بدء مخافة الله وأساس كل صلاح وباب عزاء الروح والتقرب إلى
الله هو الاحتراس في تدبير السيرة، وهو يتقدم على جميع أنواع خوف الله. فقبل كل شيء
اضبط هذا حسناً؛ لأنه ليس أحدٌ يتوَّج - حسب قول بولس الرسول الإلهي - إن لم يجاهد
بزِيٍّ وقانون تدبير ترتيب الجهاد. لأن سائر الأشياء لها ناموس وزِيٍّ وترتيب، سواء
في الجهادات العالمية، أو في أعمال الصناعات الجسدية، أو في سيرة الروح هذه. وكل
إنسان لا يجاهد حسب ترتيب وناموس الجهاد لا يأخذ تدبيره غياراً حسناً (أي أنه لا
يتقدم في طريقه). هكذا في هذا الجهاد غير المنظور الذي يفوق العالم، يوجد في مصافه
(أي في طقس جهاده) ترتيب وزِيٍّ، والذي يتخلف عن هذا فإن انغلابه موضوع تجاه عينيه
على الدوام.
2- فينبغي للذي يتقدم إلى طريق مخافة الله أن يغصب نفسه في كل
تدبير يقدمه لله إن كان في الصوم أو في الصلاة أو في بقية الفضائل. ولتعلم أيها
التلميذ أننا لا نستطيع أن نثبت في الأمور الإلهية كما ينبغي إن لم نغصب أنفسنا في
كل وقت في الأشياء التي تقرِّبنا إلى الله. حتى الذين يشقون في الأمور العالمية
أيضاً إن لم يستعملوا التغصب ليلاً ونهاراً لا يبلغون - ولو جزئياً - إلى حدود
إدراك إرادتهم؛ لأنه مثلما يتعب ويشقى الإنسان من أجل الله، هكذا يحيط به عونٌ إلهي
ويقويه، ويسهِّل عليه كل شيء، ويُصلح الطريق أمامه في كل موضع.
في التغصب والقسر
3- طوبى لمن غصب نفسه كل أيام حياته؛ لأنه من مزبلة الفقر
يتكَّرم بجنس المملكة العظمى. طوبى لمن غصب نفسه دائماً في طريق الله؛ لأنه يصير من
ذات الجنس الحقير مناسباً للجنس العظيم الشريف المعقول. فالتغصب هو مغني الفقراء،
ومكرِّم المحتقرين.
4- التغصب هو بدء طريق الوحدة، وبه يسعد النشطاء في طريق ملكوت
الله، وتُعد لهم التيجان من القوي القاهر. وإن كنت تسأل إلى أين وإلى أي حد أغصب
ذاتي؟ أقول لك: إلى حد الموت اغصب نفسك من أجل الله. وخذ لك حدود التغصب من الأشياء
الصغيرة النزرة.
5- أولاً، اغصب نفسك في صلاة الليل وزدها مزامير، حتى ولو كنت
مريضاً، إذا لم يكن مرضك شديداً لئلاً تضنك في مرض صعب، بل إذا كان ضعفاً (عادياً)
أو انحلال جسد، فاغصب نفسك قليلاً؛ لأنه يوجد رجاء عظيم ومعونة في التغصب من أجل
الله، ولو بمزامير قليلة تزيدها عن العادة أو نسك (قليل). ليس لأن الله ينتفع بشيء
(من ذلك)، بل لأنك بها تُقدِّم نفسك إليه.
6- اغصب نفسك قليلاً فتجد نعمة عند الله، وبقدر ما تغصب ذاتك
هكذا تدنو منك المعونة من عند الله، وتأخذ قوة من الروح في الخفاء. ولو كان مزموراً
واحداً أو انحناءً وسجوداً قليلاً زائداً عن العادة، فإن نفسك تنشو عند الله دون أن
تعلم، وتحل عليك قوة، وتؤهَّل لحفظ ملائكي، ولحركات وزيارات من عندهم في يقظتك
ونومك، وتاؤريات لذيذة يلقونها فيك كل حين.
7- اغصب نفسك في ضرب المطانيات دائماً لأنها تحرك الحزن في
بالصلاة. اغصب نفسك في هذيذ المزامير، وإذا حان وقت الصلاة اغصب ذاتك وقم للخدمة
وألقِ عنك ثقل الجسد الذي يجذبك أن تتخلف عن الصلاة. ولا تكن كمن ينتظر الساعات
والأوقات وتتماتن (أي تتثاقل). وفي الخدمة أيضاً اغصب نفسك وصلِّ بطول روح. وتأنَّ
في تلاوة المزامير بصبر وجَلَدٍ بعيداً عن كل ضجر، ولا تتلوها مثل مضغوط، بل مثل من
يفكر أنه واقف قائم قدام الله.
8- اغصب نفسك في الليل أن تقوم وتسجد قدام الصليب، ولو كان
النوم ثقيلاً عليك، والجسد يؤخرك؛ فهذا هو الوقت المقبول، وهذه هي ساعة المعونة.
جميع الآباء كانوا يصلُّون في الليل حسب المثال الذي أخذوه من ربنا؛ لأن الليل هو
مفروز لعمل الصلاة مع البلد القفر.
9- اغصب نفسك أن تثبت في قلايتك في السكون، وتأكد أنه طالما أنت
فيها، فحواسك مصونة وأفكارك وحزن قلبك (أي تخشعك) محفوظ، وتكون شيئاً آخر غير ما
أنت في كل أمورك، (وذلك) بالصلاة المتألمة في خفاياك.
10- إذا ما اشتهى فكرك مآكل مختلفة، اغصب نفسك أن تكمل شبع شهوة
بطنك بالخبز فقط، واذكر أتعاب القديسين العادمة من شبع الخبز كل أيام حياتهم.
11- كل تغصِّبٍ سواء كان بالإرادة أو بغير إرادة يعطي ثقة
وأجراً وعزاءً. فأعمال التغصب نوعان: من الإرادة ومن غير الإرادة، والضيقة التي من
كليهما هي لأجل مخافة الله. أما أعمال التغصب الإرادي فهي: الصوم والصلاة والسهر
والتجرد والسكون والبعد من الناس والدموع والقراءة واشتياق ضرب المطانيات المنسحقة
وما يشابه ذلك، وهي التي يقبل الإنسان على نفسه عملها لأجل خوف الله. وأعمال التغصب
غير الإرادي هي: المؤذيات والأحزان والأمراض، وما يتولد منها ويحدث للجسد، وصعوبة
المرض وعوز الغذاء، والضيق من الحبس والوحدة، وتخويف وعذاب الشياطين، والجوع المضني
وانعدام المعونة من البشر، وضغطات وضيقات من قلة الكسوة بسبب المسكنة، وأحياناً
تحصل عثرات في الجبال والمواضع العسرة التي يعيش فيها القديسون من أجل الله.
12- من دون التغصب لا صوم يوجد، ولا عفة الجسد، ولا صلاة حزن،
ولا خدمة إلهية، ولا ضرب مطانيات متعبة، ولا تزمير بغير ضجر، ولا تلاوة بألفاظ
هادئة، ولا مفاوضة سهر الليالي.
من أجل الصلاة
13- كن مداوماً الصلاة، وألزق بها أنواعاً حسنة؛ لأنه بالأنواع
الجيدة والتدابير الصالحة يتزين الإنسان أولاً، وبعد ذلك يتقدس بالصلاة، فالصلاة
التي لا تقترن بأفكار عالية فاضلة هي كلام ساذج ليس لها قوة عند الله. أما إذا
اقترنت قوة حسن السيرة بالصلاة، فإنها تكون مثل لهيب نار في حركتها. لأن «عظيمة هي
قوة الصلاة التي يصليها البار»، تأمَّل قوله إنه ليس كل من اتفق بل تلك الصلاة التي
يصليها البار. فالقوة ليست للكلام والصلاة، بل للبر. وهوذا موسى ويشوع وإيليا
وأليشع من غير صلاة كانوا يفعلون المعجزات.
14- الصلاة هي عمل مرتفع متعال على جميع الفضائل، وفضيلة أشرف
من كل الأعمال. وليس منها أو بها تقتنى الصلاة، بل إن الصلاة تتولد عند الإنسان من
أمور أخرى، والذي لم يقتن واجباتها لا تصدِّق أن له صلاة . فالصلاة هي ذكر الله
الدائم الذي يكون في قلوب خائفيه، أعني بذكر الله شخوص النظر الفاضل الذي يكون في
قلب الإنسان. فهذا العمل هو الذي يكمل لنا الصلاة، إذا كان منا بإفراز.
15- الصلاة هي أمر موضوع بين النفسانية والروحانية، كشيء متوسط
ضابط للسيرتين ومحركاً إياهما. فبها يكمل عمل التوبة الذي هو ندم النفس والحزن،
وبها أيضاً تتحرك النفس بحركات تفوق سائر الحركات الجسدانية والنفسانية، وهذا هو ما
يسميه الآباء «التدبير الروحاني»، والدخول إليه يُعطى إنعاماً من الله وليس من حركة
أو استعداد أو إرادة. فالذي يتهاون في الصلاة ويظن أن له باباً آخر للتوبة هو مخدوع
من الشياطين.
16- جمع العقل والطهارة في الصلاة، لا يمكن أن يكونا بدون
الاحتراس الكثير في الكلام والأعمال، مع حفظ الحواس. كما أن المعرفة التي تمنحها
النعمة لا يمكن أن تأتي ما لم يقتنِ الإنسان الإفراز الكثير بواسطة السكون.
17- وبحسب الكرامة التي يظهرها الإنسان في شخصه تجاه الله أثناء
الصلاة، بجسده وعقله كليهما، هكذا ينفتح له الباب لقبول المعونة، وتقوده إلى نقاوة
الحركات والاستنارة في الصلاة. لأنه على قدر اهتمامه بالزي الحسن أثناء الصلاة، إذ
يظهر الحشمة والتوقير، ويبسط يديه نحو السماء ويقف بوداعة، أو يقع على وجههِ على
الأرض، هكذا يؤهل لنعمةٍ عظيمة من العلاء (من أجل هذه الأفعال المتضعة). فمن يزين
صلاته على الدوام بمثل هذا الزي الخارجي، يؤهل سريعاً لفعل الروح القدس، من أجل أنه
يعظِّم الرب في عينيه بالوقار والتكريم الذي يظهره في الذبائح التي يقرِّبها أمام
الرب (أي الصلوات) في الأوقات المحددة بناموس الحرية.
18- فاعلموا، يا إخوتي، أن الله يطلب (أن نهتم) جداً جداً أن
نُظهر في كل الأعمال التي من أجله، الزي الخارجي الحسن وأنواع التوقير والتكريم
اللائق بكل اهتمام. وذلك ليس من أجله، بل من أجل منفعتنا نحن؛ لأنه هو نفسه لا
ينتفع بأشياءٍ مثل هذه، ولا يُضار (إذا نحن أهملناها)، بل إنها بالأحرى تكون من أجل
طبيعتنا الضعيفة، ولو لم تكن ضرورية لَما اتخذ لنفسه مثل هذه الأشكال وهذا الزي في
تجسده بنوع من السياسة، وهكذا تكلم معنا في الأسفار المقدسة.
19- إن كثيرين استهانوا بهذه الأشكال الخارجية، وزلُّوا
بأفكارهم معتبرين أن الصلاة في القلب تكفي لله، وأنه لا يريد منا شيئاً آخر؛
ويدَّعون أنه إذا كانوا مضَّجعين على ظهورهم أو جالسين باستحقار، يكفي أن يكون لهم
فقط تذكار داخلي لله؛ ولا يهتمون أن يزينوا عملهم الظاهر بالوقوف الحسن حسب قوة
أجسادهم وترتيب الحواس وبرسم علامة الصليب عليها. كما أنهم حين يسجدون على الأرض لا
يهتمون أن يعملوا ذلك بتوقير ورعدة كمن يتقدم إلى لهيب نار، ولا يعتنون أن يتخذوا
لأنفسهم أشكالاً حسنة وزياً وتوقيراً من الداخل والخارج، أو أن يقدِّموا للرب
توقيراً وكرامة خاصة بترتيب أعضائهم، والخشية والحياء على وجوههم. وذلك لأنهم لم
يفطنوا إلى مكر العدو وصعوبته، ومن هنا أُسلموا لفعل الزور والبهتان، ولم يفهموا
أنهم ما زالوا إلى الآن مائتين وقابلين للميالة بحركة نفوسهم التي صارت خاضعة
للانحراف، ولم يتحققوا من أنهم لم يبلغوا بعد للدرجة الروحانية.
20- ولستُ أعني بقولي هذا أن نغصب المرضى والضعفاء أن يكونوا
تحت هذا الناموس، أو إنه ينبغي للإنسان أن يتدبر بما هو غير مستطاع، بل قولي هو أنه
ينبغي أن يكون عملنا بخوف ورعدة ووقار. فكل شيء يُعمل بوقار ورعدة يقبله الله
كالقربان المختار، حتى ولو خرج عن حد الناموس وعُمل بخلاف العادة تحت الاضطرار. وهو
لا يلوم الشخص الذي يعمل هكذا، وليس هذا فحسب، بل إنه يقبل بمسرة تلك الأشياء
الحقيرة الضئيلة التي تُعمل لأجله بإرادة جيدة كالأشياء العظيمة الكاملة. فحتى إن
كانت بغير الواجب، فإن فاعلها يُحمل بالرحمة من قِبل الله؛ لأنه عارف بضروريات
طبعنا من قبل أن يخلقنا.
21- لأن الله رحوم متحنن صالح، لا يحاسب ولا يدين الإنسان على
عوارض الطبع وضرورياته (أي الأعمال التي تعمل عن اضطرار)، حتى ولو كانت تستوجب
اللوم، لكنه يدين على الأعمال المستطاعة لدينا إذا اُحتقرت وأُهملت منا. إنه لا
يدين حتى على ميالة الطبع (نحو أي شيء) حتى ولو كان خطأ عظيماً وبالإرادة، إذا كان
حدوثه بنوع عارض، [ولكنه يدين على الفعل الذي ينتهي إليه، ويؤدب بالعدل]، لعلمه أن
ذلك سيقود فاعله إلى الندم وحزن الضمير، وبالأكثر إذا لم يُسِّلم الشخص نفسه
بالكمال للهلاك. وإن كنا قد تكلمنا بهذا كله، لكننا نلوم الذين يفسدون ترتيب الصلاة
بعنادهم، إذ أنهم بحماقة فكرهم يتصورون أنهم صاروا كاملين، وبمعرفة كاذبة يخترعون
لأنفسهم شيئاً أو آخر بجهالة.
22- [إن القلب يقتني حرية أعظم في الحديث مع الله في الصلاة
(الخاصة) أكثر مما يفعل أثناء خدمة الأوقات (أي المزامير). ولكن الإهمال التام
للخدمة يقود إلى الكبرياء. وبسبب الكبرياء يبتعد الإنسان عن الله. والحقيقة أن
الإنسان حين يغصب نفسه أن يخضع للقانون - في الوقت الذي يكون فيه حراً تماماً في
تدبير سيرته - بهذا يحفظ نفسه متواضعاً، ولا يعطي لشيطان الكبرياء أية فرصة ليعرض
له أفكاره الشريرة. وإذ يداوم على اعتبار نفسه أنه حقير وغير أهل للحرية، فإنه يتضع
ويمكنه حينئذ أن يُخضع أي فكر كبرياء. فليس هناك لجام أكثر من هذا فاعلية يضعه
الإنسان في فم العقل الذي يعظِّم نفسه. وهذا هو السبب في أن الآباء القديسين، رغم
أنهم كانوا يقتنون الصلاة الدائمة، وكانوا ممتلئين من الروح، وكانوا لا يتوقفون
أبداً عن الصلاة لحظة واحدة، إلا أنهم كانوا يهتمون بالترتيب الموضوع لكل وقت (من
أوقات الصلاة) على حدة، وبالعدد المحدد للصلوات بما في ذلك مشاركة الجسد التي تتمثل
في السجود، ويلاحظون ذلك ليس فقط في خدمة الأوقات بل وأيضاً في تلك الصلاة
(الدائمة)؛ وكانوا يعملون هذا كله بموجب القانون الذي قرروه لأنفسهم].
23- في الصلاة والخدمة يوجد ناموس حرية وناموس عبودية، والاثنان
يتدبران من الإرادة. أما ناموس العبودية فهو كقولك: سوف أتلو كذا وكذا مزمور في كل
صلاة من صلوات الأوقات بعدد محدد دون تغيير، فتكون مرتبطاً بهذه المزامير جميع
الأيام. ومن يعمل هكذا يكون قد ربط نفسه بهذا الالتزام (بحدود العدد والطول ونوع
المزامير) التي قررها وجزم بها على نفسه. وهذا بعيدٌ تماماً عن معرفة الحق؛ [لأن
مثل هذا الشخص لم يأخذ في الاعتبار لا عمل النعمة ولا ضعف الطبيعة أو خطر القتالات
المتعددة. إذ في الحالة الأولى قد تعطى النعمة حتى أنه يتأخر أكثر مما وضع لنفسه؛
وفي الحالة الثانية قد يتبين ضعف الطبيعة الشديد تحت ضغط صعوبة قتال الشياطين الذين
يهاجمونه، وهذا يكون - بصفة خاصة - بهدف قمع الكبرياء].
24- أما ناموس الحرية فهو أن تحفظ بتحرِّز (أي باهتمام بالغ)
عدد السبعة أوقات التي حددها مجمع نيقية في البيعة المقدسة على (لابسي) هذا الإسكيم
لحفظ حياتنا؛ وحاشا لنا نحن المتوحدين أن نحرج عن طاعة وحدود قوانين البيعة
ورؤسائها وسننهم. ولأجل هذا نحن نحفظ (بتدقيق) حدود سبعة أوقات الخدمة حسبما وضعتها
علينا البيعة كالبنين. ولكن هذا لا يعني أنه يجب على الإنسان أن يلتزم في كل صلاة
وفي كل يوم بعدد محدد من المزامير، أو أن يجزم على نفسه بعدد ثابت من الصلوات
(الخاصة) يصلي بها بين هذه الأوقات في الليل والنهار، [أو يحدد فترة معينة لكل صلاة
من هذه الصلوات، أو يلتزم بكلمات معينة يقولها]. بل بالأحرى ينبغي لنا أن نثبت في
كل صلاة على قدر القوة التي تكون من النعمة، وعلى قدر الوقت. ونطلب بحسب ما تدعو
الضرورة إليه في تلك اللحظة، ونصلي بأي صلاة نتحرك بها، فإذا ما صلينا (بهذا
الأسلوب)، فإننا نكون حينئذ بعقل منجمع ومنقبض من الطياشة [بسبب لذة هذا النوع من
الصلاة. وعلى الإنسان في مثل هذه الصلوات أن يوازن بين طلبته وقوة الطبيعة البشرية
والحكمة التي يمنحها له الرب].
25- [وقد يقتني الواحد تقدماً أكثر في الحرية مما لو كان خاضعاً
للقانون، إلا أنه كثيراً ما يتفرَّع عن الحرية سبل كثيرة تقود إلى الخطأ؛ لأنه في
الحرية تتخفى أنواع كثيرة من السقطات، بينما مع القانون لا مجال مطلقاً لأن يضل
أحد. فالذين يثبتون تحت نير أي قانون، قد ينقادون للسقوط متى أهملوا القانون
واستهانوا به. ولهذا فالقديسون القدامى، الذين أكملوا سيرتهم دون أن يضلوا، كانوا
يضبطون أنفسهم بواسطة القانون. وكثيرون آخرون تركوا متطلبات قانونهم، ومع أنهم
أضافوا إلى جهادهم أعمالاً أكثر مما هو موضوع لهم، إلا أن أتعابهم التي زادوها لم
تمنعهم من الوقوع بين أيدي الشياطين، وذلك لأنهم تركوا قانونهم. ولا يستطيع أحد أن
ينكر هذا، لأن أخبار هؤلاء الأشخاص تضيئ أكثر من أشعة الشمس لإنارتنا].
26- كن متقدماً على الدوام في صلواتك قبل وقتها، لكي تكون خفيفة
عليك. وإذا اتفق أن فاتك وقت من أوقات الصلاة بسبب أي أمر عارض فلا تضطرب، ولا
تتسجس من هذا، ولا تهملها أو تتهاون في تكميلها. فمثلاً إن كانت هي صلاة باكر، ولو
كان قد مضى من النهار ساعتان، ابدأ واخدم مزاميرك بحرية، وأكملها بلا نقص بجميع
واجباتها بهدوء وبغير خباط (أي ارتباك)، حتى ولو كان هو وقت العشاء لا تتكدر ولا
تضطرب بل (أكمل صلاتك) بهدوء عقل؛ لأنه ليس لك عمل آخر ضروري تكمِّله أعظم من
الصلاة. فإن كان الراهب يتهاون في تكميل صلوات الأوقات فما ينبغي له أن يجلس في
القلاية، ولو أراد أن يثبت فيها فلن يقدر؛ لأن أصل العمل مع الله في الرهبنة هو
الصلاة، وهذا قد أبطله فأي شيء آخر له أن يعمله؟ لأنه ليس للراهب عمل آخر في
القلاية غير الصلاة والمزامير، فإن تخلف عن ذلك فمن أجل أي شيء يجلس في القلاية؟
27- حياة المتوحد وعمله المكرم عند الله هو الصلاة. والذي ليس
له خدمة ولا صلاة بحسب واجباتها، والذي خدمة الأوقات مهملة عنده، فهو كسلان
وبطَّال.
من أجل المزامير
28- لتكن لك محبة بلا شبع للمزامير ولتماجيد الله، لأنها مفاوضة
الروح. واعتنِ أن تبتعد عن كل تصرف ردئ قبل أن تبتدئ في قراءتها؛ لأنك إذا ما
زيَّنت ذاتك بأنواع حسنة وابتعد عقلك عن كل فكر عالمي، عند ذلك في وقت الخدمة تحل
على عقلك قوة الروح وتكون خدمتك رائحة زكية أمام الله.
29- كل لفظ فيه ذكر الاسم المسجود له، وبالأكثر في التسبيح،
أحْنِ رأسك بالسجود؛ لأنه بكل نوع ينبغي لنا أن نكرِّم الله: في وقتٍ بالقيام
أمامه، وفي وقتٍ بالانحناء، وفي وقتٍ بالسجود. ليس لأن الله يكرَّم بهذا، بل لأنه
في الحال يتغير نوع فكرك، ويتعفف داخلك من الأنواع الحسنة التي تصنعها بجسدك؛ لأن
العقل يقبل في الأمور الإلهية تغييراً عجيباً وحرارة، ويلتهب في الله بحركاته.
من أجل المطانيات
30- لا تحسب أنها بطالة كثرة الثبات في السجود الكثير قدام
الله، حتى المزامير ليست أعظم منها؛ لأنه ليس شيء من الفضائل التي يعملها الناس
مثلها، وليس شيء محبوب عند الله أكثر منها. وليس شيء مكرم في عيون الملائكة، وقاهر
للشياطين، ومرعب للجن، ومفيض للمعرفة وجاذب للرحمة ومُقني للاتضاع ومفرِّح للعقل،
مثل هذا الشيء: أن يكون الإنسان جاثياً على الدوام قدام الله على الأرض. هذا هو
مجمع التوبة الذي يهدف إليه وينتظره كل مجمع أفكار الندم مع الدموع. هذا هو ذخيرة
المغفرة، وغسل القلب وسلام العقل. هذا هو الذي يجعل العقل شبه الله.
31- وليس شيء أيضاً مثل مداومة المزامير بشكل ونوع متعفف.
مستوجب كل ملامة هو التهاون بقراءة المزامير إذا تخلَّف الإنسان عن ذلك بسبب
العظمة. وأما الإنقاص منها بنوع الاتضاع في السجود الذي لا ينقطع، فهذا هو كمال
الأعمال، وليس هو بطالة، حاشا أن يكون كذلك. فهذا الأمر (أي السجود) يجعل الجسد
مروَّضاً والعقل مجدَّداً محكَّماً بروح المواهب.
ضبط الفكر
32- لا تشتهِ أن لا تصلي إلا عندما تتنقَّى من طياشة الأفكار،
بل اعلم أن من مداومتك على الصلاة وكثرة التعب فيها تبطل الطياشة وتنقطع من القلب.
فإن كنت لا تصلي إلا إذا ارتفع الفكر تماماً من تذكار هذا العالم، وإذا نظرته هكذا
عندئذ تبدأ في الصلاة، فإنك لن تصلي إلى الأبد. لأن انقباض الفكر من الطياشة إنما
يكون من الصلاة.
33- قد يهدأ الفكر وقتاً ما ويجتمع إلى ذاته (ويصمت) من الصلاة،
وهذا الأمر سمعنا أنه يعرض - حسب قولهم - للذين يداومون الصلاة مدة طويلة من
الزمان، فيجدون من أنفسهم هذا الاحتراس الحقيقي بعد جهد، (ولكن) لوقتٍ قليل وليس في
كل وقت. لأن هذا الأمر (أي صمت الفكر) يعرض أحياناً بسبب الدوام في الصلاة، وما
سمعنا أن أحداً نال هذا من غير مداومة الصلاة، ولا سمعنا قط أنه ما ينبغي أن نصلي
إلا إذا ما ارتفع الفكر تماماً من أشكال الأمور الحاضرة وعندئذ نسجد ونصلي. والذي
يخرف (يهذي) بكلام مثل هذا إنما يطلب الكمال من قبل العمل، وهذا شيء لا يمكن أبداً.
لأنه إذا صمت الفكر من كل ذِكر وطياشة في الأشياء الحاضرة، فإنه لم يعد محتاجاً إلى
الصلاة؛ لأن العقل يكون حينئذ قد كمل واتصل بالله وصار الله فيه.
34-
فأنت أيها السائر قبالة وجهه، إن كنتَ تريد أن تكون منقبض الفكر من وقت لآخر فقط،
فبئس ما ترى؛ لأن الشيء الذي يمكن دوامه أنت تطلبه جزئياً. وإن كنت تريده على
الدوام ههنا، فاعلم أنك تطلب الكمال من غير عمل كبدعة المصلين (1).
أما أننا لا نوافق الأشياء التي تتشكل للعقل عندما نصلي، فهذا مرده إلينا (أي في
مقدورنا)، وأما أن يمكث الفكر في الصمت مبتعداً عن كل ما يظهر له ومتعالياً عن كل
شكل وجهاد، فهذا ليس في قوة الطبيعة.
35- فإن كنت تريد أن تنقبض من طياشة الأفكار وتجد فسحة للصلاة
بعقلك، اجمع ذاتك من الهيولي (الأمور المادية)، ومن الاهتمام بالأشياء، ومن الطموح
والطياشة بالحواس؛ لأنه كلما نقصت هذه الأشياء وَجَدْتَ للصلاة الطاهرة موضعاً
وفسحة من الطياشة. وهذا الهدوء يمكن أن يحصل جزئياً وليس على الدوام، وذلك مع
الاهتمام الدائم (بجمع النفس من الهيوليات ومن الطياشة بالحواس).
36- إننا لا نُدان لأجل تحرك الأشكال والأفكار فينا بل نجد نعمة
إذا لم نوافقها وقاتلنا معها. ولكننا نُدان إذا كنا نوافقها ونعطيها موضعاً فينا.
ولست أعني بقولي هذا أن نعطي للطياشة فسحة فينا، بل أن لا نكف عن الصلاة بسببها،
وأن نحذر من أن نتخلف عن العمل. لأنه من حين يبدأ الإنسان بتدبير سيرة العقل - التي
هي الهذيذ الدائم بالإلهيات - إلى حيث يبلغ التدبير الروحاني الذي هو الدهش بالله،
فهو أكثر من كل الأعمال يكون مفتقراً إلى الصلوات الغصبية التي تكمل بضرب
المطانيات، ولا يبطل الصوم أبداً، ويأخذ من القوت حسبما يكفي الجسد للقيام بالصلاة
والعمل فيها.
في الانفراد والسكون.
37- لا تصدِّق يا أخي أنه بدون الأعمال ينعتق الإنسان من
الآلام، أو يشرق له نور النعمة. لقد رأينا أن كثرة المواهب لا يعطيها الله إلا
لأناس عمالين. فبالأعمال تعرَّى آباؤنا القديسون القدماء من الإنسان العتيق. ولا
تظن أن النسك عن الأطعمة فقط هو العمل، أو أن القيام في الخدمة يُبلِّغ الإنسان إلى
النقاوة، بل الصبر عن مفاوضة الناس، والجثو دائماً قدام الصليب، ومشاركة هذه مع تلك
حسب قوتك.
38- احذر أن تبطل شيئاً من خدمة الأوقات، بل قبل أن تنام أتعب
جسدك في الصلاة، لكي في وقت نومك تحفظ الملائكة جسدك ونفسك من المناظر المخوفة
والخيالات السمجة، ومن أذية الشياطين طوال الليل؛ لأن سريرك يكون قد تقدَّس بتماجيد
الروح وعمل الصلاة. وبدون تعب كثير أو مرض لا تنام إلا إن وجدت جسدك متعباً جداً من
كثرة القيام في الصلاة والترتيل والسجود؛ لأننا إذا نمنا ونحن مستريحون تسخر بنا
الشياطين الليل جميعه.
39- من السكن في البعد والانفراد كم من وقت يحس المتوحد بأفكار
تفوق الجسد، ولو أنه قليل الأعمال، وهذا من أجل فضيلة البعد من الناس. لأنه بمقدار
ما يبعد الإنسان من العالم ومن الأماكن المأهولة، ويتداخل في القفر والبراري، فإنه
يقبل سكون وهدوء الأفكار، ولا يشقى كثيراً في الجهاد معها. لأن نظر القفر فقط هو
بطبعه يميت القلب عن الحركات العالمية. فإذا كنا في سكن الناس (أي في مواضع
سكناهم)، فإن أفكار السكن تحدث لنا، أما إذا كنا في قفر البرية فإن أفكار القفر
تحدث لنا. وإذا كنا مع كثيرين فأفكار الكثيرين تحدث لنا، وإذا انفردنا من الكل،
فإننا نقتني ضميراً منفرداً.
40- الطهارة لا تُحفظ مع البشاشة، والاهتمام بالأفعال والخلطة
بالأمور. واعلم أن كل ألم (أو شهوة) يرتبط القلب بحبه، فبألف حيلة من الأفعال
وربوات صلوات ودموع ما ينعتق منه. هكذا أيضاً محبة السيرة (إذا ارتبط بها القلب لا
ينفك منها). لقد حذر الآباء من التفاوض مع الذين هم لابسون أسكيمك وليسوا مشاركيك
في السيرة بالتاؤريا وبالفكر الذي ينمو به الهذيذ (أي أنهم غرباء عن قصدك)، وذلك
لأنهم يعوِّقونك عن سيرك فتبرد حرارتك؛ أما هم فلا يُلامون لأنهم سائرون في طريق
أخرى إلى الملكوت في هذا الشكل من الرهبنة، ولأن تدبيرك مغاير لهم فإنهم يخيبونك من
سيرتك.
41- إذا ما فرزت نفسك للتوبة فكل يوم لا يصادفك فيه محقرة فلا
تحسبه يوماً تاماً.
42- الذي يتهاون بالصلاة ويقول إن له باباً آخر للتوبة فهو مسكن
للشياطين. والذي لا يداوم قراءة الكتب فهو يسير في التيه؛ لأنه إذا أخطأ لا يحس.
43- احذر من أن تكون جالساً وتفكر في أخيك (بالسوء)، فهذا يقلع
جميع بنيان برج الفضيلة ولو كنت قد وصلت إلى حد الكمال؛ لأن الهذيذ في الأفكار
الرديئة يقسي القلب. ولهذا فلنقبض حواسنا من الملاقاة ومصادفة (الآخرين) لكي تهدأ
الحركات الداخلية، وتعطي أثماراً لله.
44- حسب انحلال طرق تدبيرنا هكذا تضطرم فينا أتون البطن، فتطلب
مآكل مختلفة.
45- إن من يجلس في الوحدة والحبس والسكون - وبالأكثر الأخ
المبتدئ - هو محتاج قبل كل شيء إلى هذه الثلاثة أمور: الغرض والقصد المستقيم، خدمة
الأوقات، والمرشد؛ إلى هذه الثلاثة مفتقر كل أخ بالضرورة.
46- أما القصد المستقيم فالمتوحد مضطر إليه، لأن بدونه تكون
جميع أعمال الفضيلة باطلة وليس له مكافأة (عنها). والقصد المستقيم هو أنه من أجل
الله ومن أجل محبته يسكن في هدوء الحبس، ولا ينتظر بفكره أن يأخذ جزاء عمله شيئاً
من هذا العالم: لا نياحاً جسدياً ولا ربحاً بشرياً ولا رئاسة وتدبيراً ولا مديحاً
أو مجداً أو كرامة، بل يكون كل قصده وسيره أن يؤهَّل لحب ربنا يسوع الكامل ولنظرته
بالروح. هذا هو القصد المستقيم الممدوح الذي هو مضطر أن يقتنيه المتوحد.
47-
والمتوحد محتاج أيضاً إلى تكميل خدمة الأوقات في السكون، لأنها تحفظه من أذية
الشياطين أعدائه، حسب قول الأب إشعياء: «لا تهمل خدمة أوقاتك لئلا تقع في أيدي
أعدائك». وأيضاً لأنه منها وبها - أي خدمة الأوقات - تتقوى نفسه وينير عقله، ويُعطى
له واجبه (أي أجرته) مثل الرزق والجوامك (2)
لجند الملك، كقول الأب مرقس: «إننا إذا أكملنا خدمتنا وحفظنا الوصايا أخذنا من الرب
رزق واجبنا».
48- ويحتاج أيضا الأخ الحبيس إلى المرشد ليفتقده ويتكلم معه من
الطاقة في الأمور التي يحتاج إليها. ويقدِّم له المشورات الصالحة عما ينبغي له أن
يعمل؛ لأن قتاليْن صعبيْن يواجهان المتوحد المبتدئ: أحدهما هو الضجر الصعب، والآخر
هو الغلوة (أي الحرارة) الشيطانية، وهما ضد بعضهما، وفي هذين الأمرين هو مفتقر
بالضرورة إلى أحد الشيوخ العارفين ، لكي إذا كان محزوناً بالضجر يعزيه ويسليه، وإن
أضلته الشياطين بحرارتهم (الكاذبة) يعلِّمه ويعظه ويبكته.
49- ويجب أيضاً على الأخ المتوحد في الحبس ألا يتكلم مع إنسان
كل أيام حبسه؛ لأنه إن لم يقبض الراهب حواس جسده، وبالأكثر النظر والسمع واللسان،
فإنه لن يجد سكون نفسه، لأن الذهن ما يسلم من دون الجسد. وقد قال الأب مرقس: «إن
المتوحد الذي يترك قلايته وسكونه وتوحده، ويخرج بانحلال في كل وقت يريد لكي يأكل
ويشرب ويتحدث مع كثيرين، فهو إن كان مع واحد ينبغي أن يُدعى ثانياً، وإن كان مع
اثنين ينبغي أن يُدعى ثالثاً، وإن كان مع كثيرين ينبغي أن يُدعى كثيراً (وليس
متوحداً)».
50- جميع الآباء الذين أحبوا السكون والحبس الكامل لم يعتنوا
بحب القريب لكي يكلِّموه بانحلال ذواتهم، وما كانوا يستحون من الفرار من ملاقاة
الوجوه الذين يُظَن أنهم أجلاء. أنبا أرساني ما كان يرى أن يلاقي إنساناً، وأنبا
تادرس إن صادف أحداً كان مثل السيف في ملاقاته، وإذا عرض أن وُجد خارج قلايته ما
كان يسلِّم على أحد، كما أن القديس أرساني ما كان يسلِّم ولا على الذي كان يمضي
ليزوره؛ لأنه قيل له من الصوت الإلهي: «اهرب من الناس فتحيا».
51- إن اتفق لك سكون جيد، ولا تريد أن تخرج من قلايتك ولا أن
تتناول من الأسرار المحيية، فعليك أن تجوز ليلة الأحد ونهاره كله (وأنت في قلايتك)
بأفكار متضعة وحزن، وافرز لك عملاً ما لأجل كرامة ذِكر جسد الرب دمه. وإن لم تقدر
أن تعمل بالجسد شيئاً يزيد على قانونك بسبب الضعف، افرز بفكرك حزناً وندماً قائلاً:
«إني خاطئ ومذنب، والذي وقع في خطية يمنعه قانون البيعة من تناول الأسرار المقدسة
وقتاً معلوماً لكي يرضي الله بالتوبة حسب مقدار خطيته».
52- فإن كنت، يا أخي، تحب تدبير السكون الجزئي أو الكلي،
ويستضيء ضميرك، وتَدق (أي تتعمق) حركات نفسك بحذق لكي تتفرس في حركات الآلام
المختلجة فيك من تذكار خطاياك القديمة، وحسب قول الأب إشعياء، ترصد ما يأتي
بمجاذبات الآلام التي هي أفكار شيطانية، هذه التي ليس لها عليك سلطان سوى أن
تذكِّرك بالخطية فقط وتخضِعك بمجاذباتها للتنازل معها، أعني مع سماجة الشهوة، بذِكر
امرأة أو تذكر أخ قد أحزنك، مع ما تبقى من ذِكر الآلام، فعليك أن تتعلم القتال
والمجاهدة معها؛ لأنه ليس في جميع المعارف ما هو أفضل من أن يعرف الإنسان ويَخْبِرَ
آلامه (أي يدرك حقيقتها) ويقاتلها ويستعبدها إلى سيادة إرادته. فمن هذا الجهاد
يقتني الإنسان سريعاً طهارة القلب وينظر الله.
53- كل وقت تحصل لك فيه مفاوضة مع متوحد عمَّال عارف، تكلم معه
بغير شبع عن نقاوة القلب التي منها وبها وعد سيدنا أن يعاين الإنسان الله كقوله:
«طوبى للنقية قلوبهم لأنهم ينظرون الله». فإن كنت بالحق تحب الله، ليكن اشتياقك
لنقاوة القلب أكثر من كل شيء، وإليها صوِّب كل قصدك وغرضك وسيرتك، واسأل وأقرأ
وتعلَّم ما هي نقاوة القلب ومن أي شيء تُقتنى.
54- فلتكن لك هذه العلامة في كل درجة ابتدائك: أن تميز وتعرف
أنك عندما تكون متيقظاً ومحترساً في خدمة الأوقات (أي صلوات المزامير) وحفظ قوانين
السكون، فإنك لا تطيش كثيراً. أما عن تحريك الأفكار الرديئة فاعلم بالحقيقة أنها
ليست أفكار آلامك، بل مجاذبات الشياطين؛ لأن الأفكار الألمية التي من العادات
القديمة لا تتحرك في الإنسان ما دام متيقظاً ونيَّراً وحريصاً في عمله الروحاني،
وإن تحركت فهي سريعاً تضمحل بسبب يقظة وحرص عمله وبغضته لها. أما مجاذبات الشياطين
فما دام الإنسان عقله متيقظ ومضيء ومحترس في عمل البر، وبالأكثر في خدمة المزامير
وصلاة أبانا الذي في السموات وكلام التلاوة الذي يرتبه الإنسان من عنده ويصلي به
بغير فتور إن أكل أو شرب أو نام أو مشي، فإن هذه الأعمال وهذه اليقظة وهذه الصلوات
بالأكثر تحرِّك الشياطين بالحسد مقابله؛ لأنهم يخافون أن يقتني منها سلاحاً ضدهم.
ولهذا فهُم على الدوام يحرِّكون فيه مجاذباتهم وأفكارهم، لعله ينحل ويرتخي من
الأعمال ويملّ من تدبيره.
55- لأن خدمة المزامير وصلاة أبانا الذي في السموات وصلاة
التلاوة التي يرتبها الإنسان من ذاته، ويمجِّد بها الله من أجل عظم مجده، ويعترف
بها بالخيرات التي أعطانا إياها ووعدنا بها، وبها (أي بتلك الصلوات) يتضرع ويطلب
الرحمة والشفاء والخلاص - هذه الثلاثة أنواع من الصلاة تكون للشياطين كمثل السهام
المتقدة المسمومة فتقتلهم وتستأصلهم.
56- وإذا ما طشت بأفكارك وأنت في السكون، ثم تهاونت بتكميل خدمة
المزامير وقوانينك، فإن أفكار آلامك أنت هي التي تنمو بالأكثر داخل قلبك وتضغطك
أزيد من مجاذبات الشياطين.
57- ومع معرفة الآلام هذه، والجهاد مقابل مجاذبات الشياطين،
والاعتناء بنقاوة القلب ونقاء الضمير وصفاء النفس، تعلَّم أيضاً، بشوق زائد ومحبة
وأعمال مفروزة بالعقل، أن تقتني حقاً الصلوات التي بغير فتور ولا طياشة. لأن كل
تدبير العقل حسب شريعة السكون هو محدود، كما قلنا، بهذه الصلوات. فبالصلاة التي بلا
فتور وهدم الأفكار، إذ لا يتلذذ الإنسان على الإطلاق بإرادته في شيء من دغدغات
الخطية بالتنازل مع الأفكار ما خلا ما يكون من غصب وضغط صعوبة القتال، بل يقتني
بغضة كثيرة لهذه الأفكار - فبهذه الصلاة التي بلا فتور مع هدم الأفكار يحلو للإنسان
تدبير السكون.
58 - إن كنت ما تتعب جسدك وتفني نفسك في كل حين وفي كل شيء وكل
موضع وبكل فعل، ولو أن فكرك قد يطيش من أجل ترتيب ابتدائك، فلن تُعطى لك الصلاة
التي بلا فتور. وإن لم تتيقظ نفسك في هدم أفكار الآلام والشياطين، فلن يجود الله
عليك بجمع العقل والانقباض من طياشة الأفكار.
59- إن هاتين الفضيلتين: أي الصلاة بلا فتور ونقاوة الأفكار، محدود بهما ومحصور
فيهما جميع سيرة العقل. وهما مرتبطتان الواحدة مع الأخرى ومركَّبتان ومتحدتان معاً.
وكما أن طبع الجسد شيء وطبيعة النفس شيء آخر، وباتحادهما ببعض يكوِّنان إنساناً
واحداً، ومن غير اتحادهما وشركتهما معاً لا يكمل لهما فعل، هكذا أيضاً فالصلاة شيء
ونقاوة الأفكار شيء آخر، ولأجل شركتهما واتحادهما معاً يقام منهما تدبير سيرة واحدة
تُسمى من الآباء سيرة العقل، وكل واحدة منهما مفتقرة إلى تكميل الأخرى حسب قول
القديس مرقس: «إن النية الصالحة بالصلاة توجد، والصلاة بالنية الطاهرة توجد، وكل
واحدة منهما محتاجة إلى رفيقتها كمثل الطبيعة».
|