1. معنى الصوم:
لما كان الإنسان نفساً وجسداً، كان من العبث أن نتصور ديانة روحية محضة. إن النفس،
لكي تلتزم بشيء ما، تحتاج إلى أفعال الجسد وأوضاعه الخارجية. فالصوم المصحوب دائماً
بصلاة التضرع إنما يعبّر عن تواضع الإنسان أمام الله. ولا غرو، فالصوم (لاويين 16:
31) يعادل "إذلال النفس" (16: 29).
إذن فليس الصوم بمأثرة نسكية، ولا من أهدافه الحصول على حالة من الاختطاف النفسي أو
الديني وإن كان لمثل هذه الاستخدامات شواهد في تاريخ الأديان. أما في الكتاب
المقدس، رغم أن الإنسان يعتبر الطعام هبة من لدن الله (قضاة 20: 26، 2 صموئيل 12:
16- 17، يونان 3: 7، تثنية 8: 3)، فهو بامتناعه ليوم كامل يقوم بعمل ديني، ينبغي أن
نفهم دوافعه بدقة؟ الأمر الذي ينطبق أيضاً على الامتناع عن العلاقات الزوجية (يوئيل
2: 16).
إننا بالصوم نتّجه نحو الرب (دانيال 9: 3، عزرا 8: 21) في وضع تبعية واستسلام كامل:
قبل القيام. بمهمة شاقة (قضاة 20: 26، استير 4: 16) أو لطلب الصفح أيضاً عن خطاً (1
ملوك 21: 27)، أو لالتماس شفاء (2 صموئيل 12: 16، 22)، أو في الانتخاب أثناء مناحة
(دفن) (1 صموئيل 31: 13، 2 صموئيل 1: 12)، أو بعد ترمل (يهوديت 8: 5، لوقا 2: 37)،
أو بعد نكبة وطنية (1 صموئيل 7: 6، 2 صموئيل ا: 12، باروك 1: 5، زكريا 8: 19)، أو
لنيل وقف كارثة (يوئيل 2: 12- 17، يهوديت 4: 9- 13)، وتفتح القلب للنور الإلهي
(دانيال 10: 12)، أو ترقب النعمة الضرورية لإتمام رسالة ما (أعمال 13: 2-3)،
والاستعداد لملاقاة الله (خروج 34: 28، دانيال 9: 3).
من ذلك يتضح أن الأسباب والدوافع هي متنوعة. إلا أن الأمر في جميع هذه الأحوال
يتعلق بوضع الذات بإيمان في موقف، لحمته وسداه التواضع، لتقبل عمل الله والوقوف بين
يديه.
إن هذه النية العميقة تكشف عن معنى الأربعينات التي قضاها موسى (خروج 34: 28)
وإيليا (1 ملوك 9 1: 8) دون طعام. وأما بخصوص الأربعين يوماً التي صامها يسوع في
البرية، والتي تتّخذ لها مثالاً ذلك النموذج المزدوج، فلم يكن الغرض منها إعداد
يسوع لتقبّل روح الله، وهو المملوء منه الملء الكامل (لوقا 4: 1-4)، بل ليفتتح يسوع
رسالته المسيانية بفعل تسليم لأبيه بثقة كاملة (متى 4: 1- 4).
2. ممارسة الصوم:
كانت الليتورجيا اليهودية تقيم صوماً كبيراً، في يوم الكفارة (راجع أعمال 27: 9)
وكانت ممارسته شرطاً للانتهاء إلى شعب الله (لاويين 23: 29). كانت ثمة أصوام جماعية
أخرى في الذكرى السنوية للنكبات الوطنية. فضلاً عن ذلك، كان اليهود الأتقياء يصومون
بدافع من تقواهم الخاصة (لوقا 2: 37)، مثل تلاميذ يوحنا المعمدان والفريسيين (مرقس
2: 18)، الذين كان يصوم بعضهم يومين في الأسبوع (لوقا 18: 12).
إنهم كانوا يحاولون بذلك إتمام عنصر البر كما حدّدته الشريعة والأنبياء. على أن
يسوع، وإن لم يفرض على تلاميذه شيئاً من هذا النوع من البر، فهذا لا يعني أنه
يزدريه، أو أنه يريد أن يلغيه، بل أنه أتى ليكمله من أجل ذلك فإنه يمنع الإعلان
عنه، ويدعو إلى تجاوزه في بعض النقاط (متى 5: 17، 20، 6: 1). ويلح يسوع أكثر ما يلح
على التجرّد من حبّ المال (متى 19: ا 2). وعلى ممارسة العفة الاختيارية (متى 19:
12)، ولاسيما على إنكار الذات لحمل الصليب (متى 10: 38- 39).
إلاّ أن ممارسة الصوم، في الواقع، لا تخلو من بعض الأخطار، كخطر التمسك بالشكليات،
الذي سبق وندد به الأنبياء (عاموس 5: 21، إرميا 14: 12)، وخطر الكبرياء والتظاهر،
إذا صام الصائم "ليظهر للناس" (متى 6: 16). لكي يرضي الله، يجب أن يكون الصوم
مقروناً بحب القريب، وأن يتضمن سعياً وراء البر الحقيقي (إشعيا 58: 2- 11)، كما لا
يجوز فصله بعد عن الصدقة والصلاة. وأخيراً، يجب أن يكون حبنا لله الدافع الأول
لصومنا.
كذلك يدعو يسوع إلى القيام به في تكتم تام، فمثل هذا الصوم المعروف من الله وحده،
سيكون التعبير الصادق عن رجائنا فيه. هذا هو الصوم المتواضع الذي يفتح القلب للبر
الباطني، الذي هو عمل الآب وهو الذي يرى ويعمل في الخفاء (متى 17:6- 18).
حافظت كنيسة المسيح في العهد الرسولي، فما يتعلق بالصوم، على العادات اليهودية،
المؤداة طبقاً للروح التي أملاها يسوع. وتذكر أعمال الرسل بعض احتفالات العبادة،
التي تتطلب الصوم والصلاة (أعمال 13: 2-4، 14 و 23).
ولا يكتفي بولس، خلال عمله الرسولي المضني، باحتمال الجوع والعطش، اللذين تفرضهما
عليه الظروف، بل يضيف إلى ذلك أصوامأ عديدة (2 كورنتس 6: 5، 11: 27). وظلت الكنيسة
أمينة على حفظ هذا التقليد، وهي تحاول بفرض ممارسة الصوم أن تضع المؤمنين في حالة
تفتح كامل لنعمة الرب، إلى أن يجئ.
فان كان مجيء المسيح الأول قد وضع حداً لانتظار إسرائيل، إلا أن الزمن الذي يتبع
قيامته ليس هر بعد زمن الفرح الكامل، الذي يستغنى فيه عن أعمال التوبة.
إن يسوع نفسه، يدافع عن تلاميذه، لعدم قيامهم بفريضة الصوم، بقوله: "أيستطيع أهل
العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم، لا يستطيعون أن يصوموا، ولكن
سيأتي زمن فيه يرفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون" (مرقس 2: 19- 20).
وإذن فإن الصوم الحقيقي هو صوم
الإيمان أي الحرمان من مشاهدة الحبيب، والبحث الدائم عنه. فإلى أن يأتي العريس
إلينا، يحتفظ صوم التوبة بمكانته بين ممارسات الكنيسة. |