سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

في معنى القتال الذي تصنعه الشياطين بالأفكار

 

القديس مار اسحاق النينوى

   

 

1- إن الجهاد مع الأفكار الرديئة الذي يكون في السكون يحدث بهذا المعنى: متى سكن الإنسان في الهدوء والحبس إلى الموت، فكل واحد حسب عمله وبمقدار اجتهاده وحرصه هكذا تتصعب عليه الحروب وتشتد مقابله يوماً بعد يوم ووقتاً بعد وقت كلما تقدم إلى قدام إلى أن يبلغ نقاوة القلب، وقبل وصوله إليها بقليل تحدث عليه قتالات صعبة أكثر من العادة وتشتد علية جداً. فإن تجلَّد المتوحد وثبت في الحبس ولم يرتخِ من الجهاد، فهو يبدأ أن يجد راحةً قليلاً قليلاً، ويُعان على الدوام من النعمة. وفي كل وقت تدنو إليه الشياطين لتقاتل معه بمجاذباتها النجسة، فإنه حالما يدعو سيدنا يُعان سريعاً وتُطرد عنه الشياطين بفعل الروح القدس اللاصق به بالغمز الإلهي (أي بإشارة من الله)، وبعد زمان قليل لا يُسمح للشياطين أن تعود لتقاتله بمجاذباتها بل باللمس والنظر فقط من أجل نقاوة القلب وعدم التألم الذي قد اقتناه. لأن عدم التألم لا يقبل حروباً، كما قال الأب إشعياء، لأنه أخذ إكليله وابتعد من الهم. وعدم التألم هذا الذي تكلم عنه الآباء ليس هو ذاك الذي يكون بعد القيامة، بل يعنون به صحة النفس وعافيتها من مرض وسقم الآلام الذي كانت فيه أولاً.

في معنى الأفكار الرديئة التي تقاتل معنا بقلوبنا

2- لا يمكن للآلام أن تدخل الضمير الذي فيه الهمّ بالله، لأن به فقط يكون مَحق الآلام واضمحلالها. أما البطالة والراحة فتتولد منها طياشة الأفكار، ومن الطياشة تكون سلطة الأفكار على القلب، وبالأكثر إذا اشتركت معها الحرارة المتحركة من الجسم بألم الدغدغات الصعبة والتنازل معها.

3- أما فضيلة العقل التامة فهي مداومة تذكار الله. وما هي مداومة ذكر الله عند القديسين؟ هي طاعتهم له بحفظ وصاياه. فإذا كان هذا الرأي والعزم للإنسان، كان الله موجوداً في الضمير العمال بهَمِّهِ، فإذا ملك في نفسك الهذيذ بالله والهمّ به، اعلم أنك قد قربت أن تستريح من الجهاد المتعب والحرب مع الآلام؛ لأن المفاوضة بالله هي كمال الضمير.

في حركة أفكار الزنا

4- كل أفكار تجذبك إلى السكون اعلم أنها تدعوك إلى العفة. وكل أفكار تجذبك إلى المفاوضة (معها) اعلم أنها تدعوك إلى النجس كمثل الطير إلى اللقط الذي على الفخ، فهكذا هي أسباب الآلام. والمبتعد عن العالم هو الذي يبغض المفاوضة مع الأفكار، ومع اهتمامات هذا العالم؛ لأن الذي يحب الأفكار معلوم أيضاً إنه يحب العمل بها، لأن من يبغض شيئاً لا يُقاتل به بضميره، كما أنه لا يكون مفتقراً لشيء يغصب به نفسه لكي يبتعد عنه، لأن من يبغض إنساناً فإنه لا يحب أيضاً أن يلاقيه. فإن كان هناك أمر من الأمور نبغضه، ومع ذلك يتعبنا الفكر به ويقاتل معنا، فمعلوم أننا وإن كنا لا نحبه هو إلا أننا نحب أسبابه. أما إن كنا لا نحب أسبابه فهو يكون فكراً ساذجاً ليس له قوة أن يقاتلنا.

5- فإذا ما أراد الشيطان أن يدنس العقل النقي بأفكار الزنا، فهو أولاً يمتحنه بالمجد الفارغ، لأن هذا الفكر لا يُظن به أولاً أنه ألم. وبهذا المعنى يخضع الضمير المتحفظ، لأن الشيطان لا يقدر أن يلقي فيه (أي في العقل النقي) من البداية فكراً سمجاً عارياً، لكنه إذا أخرجه من حصنه بمعنى ضمير هذه الأفكار، فإنه بعد ذلك يلاقيه بمادة الزنا. ثم يعبر العقل على أمور كثيرة من السماجة والشغب، فينزعج في البداية بملاقاتها من أجل عفته واستحيائه من الأشياء التي يصادفها وقد كان متنسِّكاً عنها، ولو أنه لم يتنجس ضميره، إلا أنه يكون قد أسقطه من علوه. فإن لم يرجع ويدرك الأفكار الأولى بحدة ويهدمها، فإنه بملاقاته هذه الأشياء دفعات كثيرة، تُعمي العادة إفراز النفس لأجل دوامها. وإذا ما خرجت الآلام من بلدها وأظهرت نفسها في القتال، عند ذلك ترتسم الصور والأشكال في الضمير، وتصير كتمثال اقتنى قوة عظيمة على العقل، ويُسجس الضمير جداً ويكدره.

6- هناك أفكار جيدة وإرادة صالحة، وهناك أفكار سمجة وإرادة سمجة. والأولى من غير الثانية (أي الأفكار بنوعيها من غير الإرادة بنوعيها) الجزاء عنها قليل. أما الأفكار فهي حركات تجوز في البحر فترتفع أمواجه، وأما الإرادة (بنوعيها) فهي الأصل، وبحسب ضبط الأصل والأساس تكون المكافأة إن كان جيداً أم رديئاً وليس بحسب حركة الأفكار. لأن النفس ما تهدأ من حركة الأفكار المختلفة، فإن كان ليس لها أساس وأصل عميق (أي بالإرادة) فما أقربك كل يوم أن تغيِّر صالحك ورديئك ألف دفعة.

7- إذا ما ظهرت لك أثناء النوم أحلام رديئة بطياشة الشهوات، فاعتنِ أن تنقي ضميرك بالدموع، وامنع عن جسدك كثرة الغذاء لكي ينسحق ويتضع. وقد قال القديس أوغريس: «إن شيطان الزنى يهرب من قمع الجسد وإذلاله بالصوم وبالأعمال الأخرى».

8- الإنسان الصائم يغصب نفسه أن يتشبه بطبع الروحانيين. والإنسان المداوم في عمل الله بخفاياه يُفرز من سكونه وصومه. لأنه بهذه الأسرار أيضاً تُكمِّل القوات غير المنظورة خدمة تقديس الأزلية سيدة العوالم.

9- كما أنه من عرق الصوم ينمو سنبل العفة، هكذا من الشبع يتولد الفسق، ومن الامتلاء النجاسة. فالبطن الجائعة لا تقوى عليها أفكار السماجة. فاعترف بعجزك واستعن بالبساطة لكي تحيا قدام الله حسناً. لأنه لا يمكن بعد شبع البطن ألاَّ تدنو إلينا تجارب الأفكار وحركة الأعضاء. فيا للعجب من الذين يشتهون الشبع من المآكل، كيف يمكنهم أن يحفظوا العفة ولا تتنجس نقاوتها، ما لم يُمنح العقل حركات إلهية.

10- إن الشيطان إذا نظر المتوحد قد أعدَّ نفسه للجهاد مقابله، فهو عندئذ يتحايل بكل وسيلة أن يربط عقله بالعلمانيين؛ لأنه ما يعرف فخاً أقوى من هذا يعده له، ومن ههنا ففي كل وقت يشاء يستطيع بسهولة أن يخضعه بالسقوط في ثلاثة آلام كبار هي: الحسد والغضب والزنا.

11- كل أمر يكون الإنسان متفكراً فيه، واهتمامه متحرك به، فهو بالضرورة ينفعل بقوة هذا الشيء، وإليه يميل، وتتصاعد في قلبه كل ساعة أشكال تشبهه. كذلك أفعال النهار وأنواع تصرفه، فإن الفكر في النوم يتخيل أحلاماً تناسبها. فإن كنت متفاوضاً بالله، فإن همه يحرك ضميرك، وإن التفتَّ إلى الشهوة ارتسم تصورها فيك. فلو أنك أخفيت في ثيابك روائح ذكية، فإن رائحتها تفوح في أنفك من غير أن تشاء، وإذا حملت سمكة نتنة في ردائك فرائحة نتنها تفوح لك. كما أنه إذا دخل إنسان بيت الطيب، فإنه ولو لم يشترِ منه تلصق الرائحة بثيابه؛ فخذ هذا الدليل في معنى الفكر وجنسه. فان لم يكن في عقلك قوة للهذيذ في الروحانيات كي تحفظ بها ضميرك من السماجات، أحضر على بالك انحلال هذا العالم وزوال أموره، والحزن الذي يُدرَك في منتهاه، وحَل تركيب أعضائك.

12- وأنا أتضرع إليك، أيها الأخ، ألا تملّ من أعمال النسك، ولا تتهاون عن السكون. لأن سكون الجسد يولّد سكون القلب، وضوائق السكون تعد لك نياحات إلهية. ولتُسر جداً بالضيقات الحادثة عليك لأنها ميناء العفة لجسدك، وهي تقدِّس ضميرك.

13- كما أنه لا يمكن للإنسان أن يضبط النار المنظورة ويستعملها بالفعل من دون الأجسام التي هي أنواع الوقود، هكذا أيضاً من دون العمل المحسوس بالجسد لا يمكن أن يؤهل الإنسان لنار النعمة الإلهية في قلبه ولا أن يقتني حرارة وقود الحب ومعرفة الله. فإن كنا نهتم بطهارة الضمير ولكننا نبطل الجسد من عمل فلاحة الفضيلة والاهتمام بها، فإن شوكاً وقرطباً ينبتان في حقل ضميرنا عوض الزرع الجيد. لأنه بالنار تُنظف الأرض وبحرارة الأعمال ينقى القلب ويقبل الزرع الطاهر الروحاني. والأعمال التي لأجل الله هي أوانى القدس التي توجد فيها النياحة الإلهية، وبها تُقبل النعم الروحانية والمواهب المقدسة والقوات السماوية.

14- الذي استحق أن يكون بهمِّ الله الدائم هو الذي يؤهل للدهش الدائم بالله. والذي يُشقي ذاته من أجل الله، ولأجل الخوف من الخطية، هو الذي يستحق أن ينظر في نفسه أعاجيب الله. والذي يحتمل الضيقة بإرادته يحمله الله كما على راحة يده في كل مكان. ولا يدنو منك شرٌّ إلا بنوع التجربة، وهذا لكي يعرِّفك الله بعنايته بك، كما كُتب: «إننا نتضايق ولكن لسنا نختنق».

15- ينبغي أن نعلم، يا إخوتي، أنه بضغط الضيقات نقدر أن ندخل ملكوت الله. كما أن النفس محتاجة إلى أن تتضايق بإرادتها لكي تستطيع أن تقهر عادات الانحلال، ولكي تؤهل للنعمة حسب قول القديس باسيليوس معلم الحق: «من هو الذي نال روح الله بالاتساع والنفخة من المأكولات؟!».

16- إن طريق الله لا يتطلب أشياء غير مستطاعة، بل ما هو مستطاع أن يكون وما يسمح الوقت بعمله. لأن الذين هربوا من الضيقات وتهاونوا بالأتعاب هم الذين سقطوا بيد شيطان الزنا بالكمال، وإليهم أشار أوغريس في قوله: «عذِّب أفكارك بقلة الأكل ليكون هدسها (أو تفكيرها) في الجوع وليس في الزنا». والأب بيمين قال: «إن الجوع والسهر لم يتركاني أن ألتفت إلى السماجات». وقد أظهر بقوله هذا أنه بالجوع وعدم راحة النوم تصمت الأفكار من النفس؛ لأنه من شدة الضيق لا يتفرغ (العقل) أن ينظر في شيء آخر. وكما أن الجوهرة لا يُحفظ شعاعها بغير فساد وسط النار، هكذا العفة لا تثبت بغير فساد وسط الراحات.

17- أساس دلائل الوحدة وعلامتها هي: عفة الجسد بالطهارة، وصيانة الحواس بحياء العفة، ومن ههنا يتولد حفظ القلب كالتاج الذي هو كمال الوحدة. فالسكون هو ميناء العفة الذي فيه بالصلاة نتكلم مع الله. وكما بلباس القدس بنقاوة الحركات من أجل دالة الأفكار النظيفة من كل وسخ، وكما بحلَّةِ العُرس، نتزين كل وقت أن ندخل قدامه بعفة ونقدسه بالنفس والجسد معاً.

18- نوعان من الطهارة نعرف أن الكنيسة تسلمتهما من تعليم تدبير السيرة الجديدة في المسيح: النوع الواحد هو طهارة الطبع، والنوع الآخر هو الطهارة التي فوق الطبيعة. فبقداسة الجسد لا ينظر العقل بعد إليه بحسب ترتيب ناموس الطبع؛ لأن العفة مفروشة كالرداء على وجهه لئلا تنظر الأفكار إلى تذكارات حركات الجسد.

19- بأربعة أشياء تُحفظ الطهارة بعفة عند من يشاء أن يحفظها في نفسه ويكون فوق القتال، وحتى الشيوخ وكل رتب المتوحدين لا يمكنهم أن ينقُّوا الفكر من دونها، وهى: الاحتراس بالأعضاء من الدالة والانحلال مع ذاته، وهذا النوع يمنع عن المتوحد قتالاً عظيماً؛ ونظر حي متعفف حتى في زمان الشيخوخة، لأن التهاون في ذلك يرمي الإنسان في خطر عظيم على الدوام ويجعله متسخاً، فحفظ النظر واللمس هو الذي يحفظ المتوحد من قتالات صعبة؛ وأن لا يجسر أن يتطلع في وجه امرأة حتى ولو كانت عجوز رديئة؛ وأخيراً أن يحفظ سمعه من كل سيرة تُقال عن النساء، وهذا النوع أعني سماع الأخبار عنهن يثير على النفس راموزاً (أي قتالاً) أكثر من النظر، وحتى الأطهار يتسجسون بهذه التذكارات. ولهذا ينبغي أن نحترس بالعقل حتى لا يصعد فيه فكر شيء من هذا، فلا تَمِلْ بسمعك إلى أي حديث حتى ولو كان عن عفة وطهارة امرأة في شكلها وتصرفاتها، ذلك إن أردت أن تكون عفيفاً.

20- إن طبيعة النفس تشبه النار، وكما أن النار محتاجة إلى مواد هيولية لكي تشتعل بها ويستمر اشتعالها دائماً، هكذا النفس هي مفتقرة في كل وقت لأن تحرك فيها مواد التذكارات الجيدة لكي تسخن حركاتها وتسير بخفة في الروحانيات، وإن نقصت هذه التذكارات فإنه قليلاً قليلاً تنطفئ حركاتها من الحرارة في الإلهيات.

21- هناك خمسة أسباب - أعني فضائل - من دونها لا يمكن لكل رتب الناس أن يكونوا بلا لوم، إن كانوا رهباناً أو علمانيين. وهذه الفضائل إذا ما حفظها الإنسان تخلَّص من كل مضرة، وصار محبوباً عند الله والناس، وهي: جسد عفيف؛ لسان محترس؛ زهد عن الرغبة والشره؛ كتمان السر في سائر الأمور بغرض مستقيم إلهي؛ وأن يكرِّم كل مقادير ومنازل الناس فوق ما يستحقون. لأن الذي يكرِّم الناس يكرَّم هو أيضاً منهم ويأخذ المجازاة من الله؛ لأن الكرامة توجب كرامة والازدراء يجلب ازدراء، والذي يكرِّم الله يكرَّم هو أيضاً منه.

22- أربعة آلام كل من كان مستعبداً لها يسقط في كل ظنون رديئة سمجة، وهي: جسدٌ مشاغب؛ الرغبة في أشياء جسدانية؛ لسانٌ قاسٍ؛ ونقل الكلام من واحد إلى آخر بنوع المثلبة، وهذا الفنّ مبغوض من كل أحد لأن الله يبغضه، والذي يمارسه يقع في كل خطية سمجة في كل موضع.

23- والذي يتخلى الله عنه لأجل تعظمه يسقط في واحدة من هذه الأنواع الثلاثة: إما في فسقٍ سمج، وإما في ضلالةٍ شيطانية، أو في أذيةٍ عقلية.

 24- العفيف حقاً فحتى نظر عينيه لا يتركه مكشوفاً بلا غطاء، وينبغي أن يستحي حتى من ذاته. فكما أن الكرم لا يُحفظ من المفسدين بدون سياج؛ هكذا العفة بدون الحياء. كذلك لا يُحفظ الفكر والقلب أيضاً بلا لوم بدون الحياء، لأنه إذا كانت الأعضاء بلا حياء كان الفكر والقلب أيضاً بغير حياء. فالقلب الذي لا حياء فيه يترك حواسه بغير حفظ، وفي كل وقت يتنجس منها.

25- خَفْ من الله، أيها الأخ، ولا تترك عنك مخافته، وبغير تدبير نظام عقلي تترك بيتك أي جسدك الذي هو هيكل الله. خَفْ من الزلل أيها العفيف واقتن لجسدك حياء واستحياء، ولحواسك قبضاً، وبالأكثر في موضع ينبغي فيه الخوف.

26- كن مداوماً هذيذ الكتب وسير الآباء؛ لأنه من التذكار والنظر الدائم في الكتب وفي الطرق التي سلك فيها الآباء تكثر فيك أفكار حارة وعدم تضجر، وتجعل جميع أعمال مخافة الله خفيفة وسهلة في عينيك.

27- العفة هي ميناء القداسة. والقداسة هي قلب نقي من كل رذيلة. وبحقٍّ هذا هو قديس الله الفاضل: الذي لا يتبكت من نيته أنه يوافق الشرور في خفاياه. والفضيلة ليست عملاً متعباً أو فعلاً عسراً، بل هي قلب بغير لوم يرضى الله، ولهذا لا يعرف (الفاضل) ولا يُفرز للعين الجسدية، بل لتلك العين الخفية الفاحصة مخازن القلب. فالذي يريد أن يحفظ قداسته بنقاوة ولكنه لا يهتم بواجباتها يسقط عنها ويخيب، لأن الذي بنظره وسمعه يخضع بلذة ويميل لنظر ولكلام يوسخ العفة، فإنه أيضاً يحب هذه السماجات في قلبه.

28- طوبى لمن تأدَّب بالأحزان اللائقة بطريق القديسين، لا بالمحن والأضرار البشرية.

29- الجسد المتفرد يلد ضميراً متفرداً، وحسبما يختلط الجسد كذلك يختلط العقل.

30- المتوحد هو الذي يجعل مسكنه خارجاً عن مناظر العالم، وله طلبة واحدة فردية في صلاته هي شهوة العالم الجديد.

31- البتولية ليست هي أن يحفظ الإنسان جسده فقط من الفساد والنجاسة، بل وأن يستحي من ذاته أيضاً إذا كان وحده.

32- إن تهاون المتوحد بخدمة السبعة أوقات الموضوعة كقانون لازم لخلاص الذين يجاهدون مع الشياطين، وأهملها من غير ضرورة أو بفعل سبب ما من الأسباب، ثم يقول لك إنه يتخلص من الخضوع لروح الزنا، فحتى ولو كان شيخاً له مدة كبيرة في هذه السيرة إما بالفعل أو بالفكر؛ فاعلم عن تحقيق بغير شك أنه يُتوِّه بك ويتحايل أن يستر ويخفي خجله ويُبعد الحس عن النفس لكي لا يترك عنه الراحات ويخضع للقانون.

33- آلام الجسد هي: الغضب والشهوة ومحبة المفاوضة والحديث الباطل وما شابه ذلك، وهي تهدأ وتصمت بالصوم وخدمة الأوقات والجلوس المنفرد بغير طياشة. وآلام النفس هي: الطياشة وعدم المعرفة والحسد والمجد الفارغ والعظمة وما تبقى، وهي تبطل بالصلاة والقراءة والمعرفة المتولدة منها. والذي من دون هذه يروم أن يُسكت آلام الجسد أو ينقي العقل إنما يشقي نفسه ويتعبها باطلاً.

34- في وقت القتال والظلام علينا أن نثبت في الصلاة وضرب المطانيات على الأرض حتى ولو كنا بالطياشة. وإذا لم يكن تواتر قتال، بل هو ظلام محزن أو طياشة العادة وأفكار الهمج، فلنفضِّل جزء القراءة أكثر من الصلاة ولكن نمزجهما مع بعضهما، ونأخذ من الكتاب دواءً نقدمه للصلاة. ولا ينبغي أن نبطل الصلاة مع قوانينها لأي سبب من الأسباب. وطوبى لمن يثبت دائماً على باب الصلاة فإنه لا يخزى.

35- مكرمة عند الله الضيقات التي لأجل البر أكثر من النذور والقرابين، ورائحة عرق تعبها أكثر من كل بخور وعقاقير ذات رائحة زكية. كل فضيلة لا يتضايق فيها الجسد فلتكن عندك كالسقط بغير نفس. قرابين الصديقين هي دموع أعينهم وتنهدهم في الأسهار. يصرخ الصديقون بأنين من ثقل هذا الجسد فيستريحون، ويرفعون صلواتهم بحزن إلى الله فتأتى القوات المقدسة إلى صراخ ضجيجهم؛ لأن الملائكة القديسين يشاركون القديسين في تجاربهم لقربهم منهم.

36- الأعمال والتواضع تجعل الإنسان إلهاً على الأرض. وطوبى للإنسان الذي يعرف ضعفه، لأن هذه المعرفة تكون له أساً وبدءاً لكل صلاح وفضيلة.

37- محب الأعمال ليس هو الذي لا يحب راحة الجسد، بل هو الذي لا يحب مفاوضات الجسد ومحادثاته. كذلك ليس كل من كانت أعماله قليلة هو محب للراحة، ولا كل من كانت أتعابه كثيرة هو محب للأعمال. فثمة من تكون أعماله قليلة ولكن نفسه مملوءة حزناً، والأعمال التي عدمها بالجسد بسبب ضعفه وانحطاطه يوفيها بعمل القلب وبالانقباض مع نفسه، إذ يلجم أفكاره لئلا تثواثب على نفسه آلام الجسد. وثمة من يعمل كثيراً حسب القوة التي في جسده، ومن وقت لآخر يضيع أعماله بانحلال الراحة وبالطياشة في كذا وكذا، وبسبب ذلك لا ينتج فيه من أعماله شيء من المنفعة، كما وينشأ فيه الافتخار من وقت لآخر.

38- اعلم أن الآباء العارفين لم يضعوا قوانين محدودة على أعمال الجسد لكل منازل ورتب الإخوة السكان في الهدوء بالتساوي، بل أذنوا لكل واحد أن يتدبر حسب مقداره وحسب مزاج جسده وموضع سكنه، وحسب سنه. كما أن أعمال الجسد من دون حفظ العقل هي بطن مقفرة وثدي ناشفة، ولا توصل الإنسان إلى مخافة الله حتى ولو كان الجسد عمالاً للمواهب الإلهية.

39- كما أن المواد الدهنية تزيد اشتعال النار، هكذا طراوة (أي دسومة) الأطعمة تنمى ألم الشهوة.

40- معرفة الله ما تسكن في جسد محب الراحة. فالإنسان الذي يحب جسده لا يؤهل لمواهب الله. وكما يشفق الأب على ابنه، هكذا يشفق المسيح على الجسد العمال، وهو في كل وقت قريب من فمه (أي يسمعه). ومن نصيب الشيطان ومرذولة عند الله هي الفضيلة التي تكمل بالراحة.

41- ليس فكر فاضل ما يكون حدوثه موهبة من فوق. هكذا أيضاً الأفكار التي تضاد عمل الوصايا بقوة، إنما تكون بنوع التجربة من العدو.

42- فلاح الحقل الناطق (أي العقل) هو الله وزرعه هو الأفكار الفاضلة الحارة المتحركة بضميرنا في كل وقت. وزوان الإنسان العدو هو الأفكار الرديئة التي يبذرها وسط الحنطة زريعة صاحب الحقل الجيدة. أما أنت فاقلع الزوان واحفظ الحنطة ونَمِّها لتكون غذاء حلواً للنفس.

43- إن لم تقتنِ مادة تنفع بها المحتاجين وتعاضد المضنوكين، فكن مشاركاً طوبى الرحومين بشفقة قلبك عليهم، وإن اضطرك أمرٌ لذلك فلا تضيع بعدم شفقك دالة قلبك قدام الله الرحوم وفي وقت الصلاة تخيب من الدالة إليه التي هي هي تنعم القديسين قدام الله وقت الصلاة، وإذا كنت هكذا وما تنخسك نيتك فاعلم أنك متدبر بلا إفراز.

44- كلما احتُقر العالم عندك، كلما تزايدت فيك محبة القريب، وتتبعها نعمة الروح القدس فترفع أفكارك لمحبة الله مثل ترتيب السيرة. وحسبما يتزايد فيك التمسك بالعالم، هكذا تنقص عندك محبة القريب.

45- كل تدبير لا يوافق الوقت عليه ولا السبب، لا يُطالَب به مَن لم يعمله، أما إن كان هناك تدبير يوافق الوقت لعمله، ثم يتهاون به الإنسان فإنه يكون في ناحية المذنبين.

46- الرحوم الحقيقي هو الذي في استعماله الرحمة لا يفرز المستحق من غير المستحق، ولا يميز شيئاً من الرتب.

47- البر هو إفراز النية قدام الله بعمل الجسد. والفضيلة هي حكمة القلب، وحيثما توجد هناك يسكن الله، وهي مفتاح ملكوت السماء. القلب غير الحكيم عديم الإفراز لا ينتفع ولا من الأعمال الجيدة؛ لأنه بجهل ضميره يفسد أعماله. أما القلب الحكيم فهو من غير عمل يتكلل لأجل المشيئة التامة التي يظهرها قدام الله العارف بالكل.

48- ندم النية هو هو التوبة، والاتضاع هو أن يلوم الإنسان نفسه، فهذه هي ندامة النية. ومثل هذا الإنسان (الذي يلوم نفسه) يكون محبوباً من كل أحدٍ لأن الله قد أحبه. وإذا لم يجد الله هذا في شعب إسرائيل، لامَهم على يد إرميا النبي قائلا: «ليس من يندم على شروره ويقول بئس ما صنعت، بل الجميع سالكون في أهوية قلوبهم كالفرس الذي ينجذب للقتال».

49- الغريب هو الذي تغرَّب بفكره من جميع أمور هذا العالم. والنوَّاح هو الذي بالجوع والعطش يخرج كل أيامه بهذه الحياة من أجل انتظار الرجاء السمائي. محب المديح ليس هو الذي إذا مُدح يستريح بالمدح ويفرح، بل هو الذي يتحيل أسباب المديح.

50- المتواضع العقل هو الذي إذا مُدح ولو عن استحقاق لا يستريح قلبه بذلك. المتواضع هو الذي ما يقاوم في شيء؛ لأن من كان متواضعاً لا يكون مقاوماً. والذي يشتعل بالغضب في تقويم الآخرين، ليس هو متواضعاً؛ لأن المتواضع الحقيقي هو مبتعد من كل غضب، ونقي من سائر حركات الغيرة، وهو يسأل بمحبة وما يتألم ولا يتكدر. لأن المتواضع تلازمه بالضرورة قوة الاحتمال والصبر؛ لأنه بدون قوة الصبر على الأحزان والضيقات ما تُعرف قوة التواضع.

51- المضبوط بأمور هذا العالم، والمرتبط بشيء من الأمور الزائلة ما يستطيع أن يكون متواضعاً قدام الناس ولا غير متسجس في كل وقت ولا نقي القلب. فالمتواضع هو المائت بالحقيقة الذي قلبه ليس مرتبطاً بشيء من أمور هذا العالم؛ لأنه ما يتسجس من محبة شيء من الأمور (الزائلة). فإن أردت أن تكون متواضعاً، فحُلَّ ذاتك من أمور العالم، واتبع الواحد (الله) بالإيمان والرجاء والحب، وعند ذلك تجد عوض العالم الواحد الذي تركته سلطان العالمين الاثنين.

52- في الوقت الذي تكون فيه بطالاً من العمل بسبب ضعف الجسد ومرضه، استعمل اتضاع العشار الخاطئ الذي - من غير عمل الجسد - يتفاضل الإنسان به عند الله ويتبرر.

53- لتكن نفسك محتَقَرةً في عينيك، وازدر بها في كل وقت، فتتضع قدامك جوقات الشياطين. واتعب ذاتك في الركوع قدام الرب، فتنحل من قدامك كل حيل الشيطان، وينفتح داخلك ينبوع المعونة والمعرفة. فما دمت في هذا الحياة حقِّر نفسك على الدوام بذِكر خطاياك، واعترف بها قدام الله وأنت منسحق على الأرض، فتتولد لك من هذا دالة القلب قدام الله؛ لأنه ليس يبقى بلا عزاءٍ قلبٌ منسحق خائف من الرب. لأن «ذبيحة الله هي قلبٌ منسحق وروحٌ متواضعة لا يرذلها الله»، والذي هو غريب عن هذا هو غريب عن مراحم الله ومعونته.

54- إذا ما انسحق قلبنا دنت منا الرحمة والنعمة، أما إذا وثق قلبك بأعماله، فافهم أن مجيء التجارب قريب منك. والأعراض المؤذية والمحزنة للجسد يكون حدوثها للإنسان بسماح من الرب لكي تسبب له التواضع والخوف. ولا تظن أنه بدون سماح من الرب تصادفك تلك التجارب التي تؤذي وتحزن وتوجع وتسحق، إن كانت من طبيعة الجسم بالأوجاع والأمراض، أو من مضادة الأشياء التي تؤذي، إن كان من الوحوش أو من لدغات دبيب أو من عثرات في الأحجار، أو كان بتوسط الناس والشياطين. فإننا نقع فيها بسماح من الرب، وبسياسة منه تتحرك علينا لأجل مقتنا (أي إذلالنا) وتوضيعنا.

55- ليس عزاء لخواص الرب خارجاً عنه؛ ولا ضغطات وأحزان ومشقات من كل بُدٍّ ونوع إلا ويكون حدوثها منه. وهي لا تبطل بتحيلنا وتدابيرنا، لأنها قد أخذت قوة علينا بسماح منه. فإذا قسينا قلوبنا مقابل التجارب، فهذا علامة ودليل أن ضيقتنا سوف تتصعب جداً، ويسمح الله بذلك. وإذا استعددنا قبالة التجارب بقلب منسحق واتضاع، فهذا علامة ودليل أن الرحمة ممتزجة بالتجارب. وطوبى لمن يخاف دائماً كقول الكتاب، أما الذي يقسي قلبه فيقع في الشرور، لأن القلب القاسي تكثر أوجاعه.

56- وينبغي أيضاً أن نعلم أن المحزنات تجمع العقل إلى الله. وكل شيء نفعله بغيرةٍ وخوفاً من الخطية هو فضيلة تامة وشهادة من أجل الله؛ لأن العقل يهذ بالموت لأجل وصايا الرب، وهو يحفظ الوصايا بسبب الخوف من الخطية. والخطية هي أن يوجد فينا شيء من الأمور التي قد حُدِّد علينا أن لا نفعلها ونوجد لها مدينين؛ لأن الاحتراس من هذه الأمور بحكمة في أي نوع كان، يكمِّل فينا الحب لله والقريب، ويُحسب لنا فعل شهادة. كقول أحد القديسين: «إن كل شيء يُفعل بآلام (رديئة) بشرية هو خطية، وكل اضطرار وضيقة من أجل الله هو اعتراف». وباختصار فإن الفضيلة هي الهذيذ بالموت من أجل الله. وهذه هي الفضيلة: أن يصبر الإنسان على الضيقات لأجل مخافة الله، وإذا ما أدَّبنا الرب في شيء من الأشياء، فلنتخذ ذلك بنوع التوبيخ والتقويم، ونَتَّجر فيه لنربح ونشكر الذي في كل أمر يطلب ربحنا ويشاء خلاصنا، ولا نفتح فمنا بوقاحة وقساوة ونلوم سياسة الله وتدبيره كما لو أنه بظلم يجلب علينا التأديب.

57- كلما كانت مخافة الله لاصقة بقلبك، اعلم أن عناية الله تتبعك في سائر أمورك، وتفهم هذا من عنايته بك في الأشياء الجسدانية حيث تجد المعونة منه في الأمور الظاهرة من جهة احتياجك الضروري، وفي أوقات كثيرة تجد فُسحة وسهولة في الأمور العسرة الصعبة. كذلك فهو يمزج لنا العزاء في التجارب العارضة لنا في طريق مخافة الله، لكي إذا تضايقتَ من ناحيةٍ بالتجارب يدبر لك عزاءً ومعونةً من ناحية أخرى إن كان في مرض أو في عائق أو في عوز شيء ما، فهو في كل أمر يَعرض لك يعزي ويسلي بالمعونة.

58- في خمسة أبواب يدخل الإنسان إلى حكمة الروح، وإلى كل معرفة إلهية: الأول الهذيذ في الكتب، الثاني الهمَّة بعمل الفضيلة والاهتمام بها، الثالث التجربة (أي الخبرة) بالحروب ومقاساة التجارب التي لأجل الفضيلة، الرابع أخذ تجربة عناية الله التي تعين في وسط التجارب والعوارض الصعبة. هذه الأبواب الأربعة تقدِّم الإنسان إلى معرفة الله بمادة من خارج. أما الباب الخامس فهو بدون مواد خارجية يُوصِّل إلى معرفة أفضل، وهو الموهبة التي تُعطى لنا من نعمة الروح القدس داخل القلب. هذه (الموهبة) هي: النبوة وقوة سبق المعرفة ووجود الأسرار والاستعلانات غير المحسوسة بالعقل، واستضاءة الأفهام. فمن يقرع باب الكتب بإفراز ينفتح قدامه باب الفضيلة، ومن يدخل باب الفضيلة ينفتح عليه باب التجارب، ومن يدخل في باب التجارب التي لأجل الفضيلة فإنه يأخذ تجربة (أي يختبر) عناية الله ويكون لصيقاً بالملائكة. ومن يدخل في هذا الباب فهو بتوسط التعزيات والمجاذبات التي تصادفه، يؤهل لعناية الروح القدس.

 59- التجارب الحادثة لنا وتعرض بدون إرادتنا بنوع من السياسة الإلهية، هي تعلِّمنا محبة الأعمال وتجذبنا إلى التوبة من غير إرادتنا. ولهذا فإن القلب المؤمن ما يخاف من شيء، بل يحتمل كل الأشياء ويُصدِّق أن الله قد جلب عليه (التجارب) بسياسة منه. لأن الله ينظر في تواضع قلبنا، ولا يتركنا أن نقع في شيء ردئ أو أن نضل منه ونهلك. فالأعمال التي لأجل الله تتبعها معونة، وباختصار فإنه بالضيقات توجد كل الخيرات، وبالضيقات يقتني الخطاة درجات القديسين، وهي رسم التوبة.

60- لأنه إذا ما ثبَّتت النعمة الإنسان في الاتكال على الله والثقة به، عند ذلك تبدأ أن تدخله في التجارب قليلاً قليلاً، وتسمح أن تنطلق عليه التجارب التي تكون في منزلته كفاية ومقدرة على حمل صعوبتها. وفي وسط التجربة تدنو منه النعمة بمعونتها (بنوع) محسوس، وذلك لكي يثق ويتشجع ويتخرج (أي يتدرب) قليلاً قليلاً، ويقتني حكمة وفهماً، ويجسر على أعدائه بثقته بالله. لأن الإنسان لا يستطيع أن يتحكم (أي يقتني حكمة) في القتال الروحاني بدون هذه (التجارب)، ولا أن يعرف مُدبِّره ويحس بالله وتثبت أمانته فيه خفياً بالقوة التي قبلها في نفسه بالتجربة (أي بالخبرة). وإذا نظرت النعمة أنه قد بدأ يتحرك فيه فكر عظمة ما أو ظنون بنفسه (أي غرور)، فإنها تسمح بأن تشتد التجارب عليه وتتصعب، لكي يعرف ضعفه فيهرب ويلتجيء إلى الله باتضاع. لعجيبة هي معونه الله مع الإنسان وتُعرف إذا حصل في وسط أمور خطرة مملوءة من قطع الرجاء واليأس، حيث هناك يُظهر الله قوته ويخلِّصه منها. فالإنسان لا يعرف قوة الله أبداً في الراحة والسعة، ولا يظهر قط فعله محسوساً، إلا في موضع هادئ وبرية ومواضع خالية من الاضطرابات والمفاوضات ومن مساكن الناس.

61- لا تعجبن من هذا، أنك إذا بدأت بالفضيلة فللوقت تنبع عليك ضيقات صعبة من كل ناحية؛ لأنها لا تُحسب فضيلة تلك التي لا يتبع عملها تعب ومصاعب، لأنه من هذا قد سُميت فضيلة، ومن عادة هذا النشاط أن تحيط به المصاعب. ومرذولة هي الفضيلة التي تكمل بالراحات. فكل فضيلة تُسمى صلباً، لأنها تكمِّل وصية الروح: «لأن جميع الذين يريدون أن يحيوا بمخافة الله بيسوع المسيح يتضايقون ويطردون»، «ومن يريد أن يتبعني يكفر بنفسه ويحمل صليبه ويأتي ورائي»، «ومن يريد أن يحيى نفسه بالراحة يهلكها، ومن يهلك نفسه من أجلي يجدها». ولهذا سبق فوضع قدامك الصلب والموت حتى تضع ذلك على نفسك وتسير وراءه وتتبعه. فليس شيء أقوى من قطع الرجاء (باستعداد الصلب)، هذا لا يعرف الانغلاب من أي شيء سواء كان في أمور يمينية أو شمالية، لأنه إذا قطع الإنسان الرجاء من حياته، فليس لبيبٌ مثله، ولا عدو يقدر أن يلاقيه. فطوبى لمن يتهاون بهذا العالم ونياحاته، ويتبع الرب ويسير وراءه، لأنه يفرحه معه في العرس في عالمه الجديد.

62- أيها التلميذ الذي يريد أن يجد نفسه فيما لله اطلب هذا: أن تهلك جسدك بأعمال مخافة الله، وأن تحزن نفسك بالتنهد والألم على شرورها، لكي تجدها في الراحة التي لا تفسد. وصلِّ في وحدتك بهذه الصلاة قائلاً: يا لله أهلني لحزن النوح في قلبي، يا رب استأصل من قلبي مفاوضات العالم.

63- الوقت الذي تريد فيه أن تترك بلدك من أجل الله، هذا هو بدء الفضيلة. فاترك الموضع الذي تتنيح فيه بالجسد وارفض أسباب الراحة من أجل الخوف في أمور النفس لئلاً تخسر في الروحانيات. وإن كان الفكر يسجِّسك ويخوفك، اذكر هذا وصدِّق أن الله يوفق لك موضعاً أفضل وأوفق من ذلك، ويكون الله لك مرشداً إلى حيث تمضي. ولأنك بنوع الفضيلة قبلت على نفسك أن تقطع الهوى الجسداني الذي يريد الراحة وتهتم بفوائد الروح وتتضايق في فكرك حتى تعتاد ذلك، وتغصب ذاتك وتتبع سيدنا، فهو يصوِّب لك موضعاً يعزي أكثر من الموضع الأول لكي تحمل المصاعب بفرح بقوة يهبك إياها.

64- ينبغي أن يكون لك إيمان تام بالله، وهذا ضروري للإنسان، لكي يقتني به شجاعة الأفكار حتى يستطيع أن يترك بلد وموضع الراحات بقصد وغرض الفضيلة، ويؤمن أن الله يكون له مدبراً ومرشداً ومصوِّباً ومعيناً. لأنه ليس كل أحد يرفض الراحات لأجل الفضيلة ما لم يثق بسياسة الرب وتدبيره الخفي وغير المنظور. فإذا ما بدأ الإنسان بالأعمال الصعبة من أجل الرب، وبدأ يُدخل ذاته بالفعل تحت الصعوبات، فهو إن لم تكن لديه هذه الثقة، لن ينظر هذه السياسة الخفية المدبِّرة لجميع الخليقة وخاصة للقديسين. فإن لم يتشجع الإنسان بفكره ويدخل إلى الجهاد، فهو لا يستطيع أن ينظر معونة الله التابعة لطريق الفضيلة.

65- لأن الذي يشتاق إلى الروحانيات فبالضرورة يتهاون بالجسدانيات ويرفضها بفرح ويستخف بها. والإهمال والكسل يخيِّبان الإنسان من معرفة الله، ومن أنه بالتجربة بإيمانه يثبت في الإلهيات. لأن الذي لا يؤمن يكون دائماً متعبداً للجسد. والخوف من أجل الجسد والحرارة من أجل الله لا يثبتان معاً في نفس واحدة، كما أن عدم الإيمان والإيمان كليهما لا يكونان في نفس واحدة. فالاهتمام الزائد وشك القلب وتَقسُّمه يتبع قلة الإيمان. لأن الإيمان يعرف أن الأمور غير المستطاعة عند البشر هي مستطاعة عند الله، لأنه ليس شيء يعسر على الله فكل شيء مستطاع للإيمان لأن المؤمن إنما يكون نظره إلى الله وليس في الأمور.

66- النفس التي تحمل غيرة الفضيلة وأعمال مخافة الله لا يمكن أن تكون بلا أحزان كل يوم؛ لأن الفضيلة والأحزان هي بالضرورة مشتبكة بعضها ببعض. فالذي يهرب من الضيقات يخيب من الفضيلة أيضاً، والذي يثبت في الفضيلة يقاسي أيضاً الأحزان. فإن اشتقت للفضيلة أسلمت نفسك لكل ضيقة. فالفضائل تولِّد الضيقات والضيقات تولِّد التواضع.

 67- إن الله لا يشاء أن تكون النفس بلا اهتمام، فالذي يريد هذا (أي أن يكون بلا اهتمام) قد أوجد عقله خارجاً عن إرادة الله. والاهتمام ليس هو الذي يكون من أجل الجسدانيات، بل هو الهم من أجل الضرر الذي يتبع الفضيلة. فإلى أن نبلغ إلى معرفة الحقائق التي هي استعلان الخفايا، لا يمكننا أن ندنو من الاتضاع إلا بواسطة التجارب. والذي هو بلا أحزان في الفضيلة فإن باب العظمة ينفتح له؛ لأنه لا يمكن من غير أسباب المقت (أي المحقرة)، أن يكون الضمير في التواضع. كما أن الله لا يرفض الإنسان بالكلية أو يَكرهه لأي شيء من الخطايا، إلا إذا وجد عقله متفاوضاً بأفكار العظمة والافتراء والتجديف، ولهذا تكون الأولى (أي العظمة) سبباً للثانية (أي رفض الله). والذين يخرجون من طريق التواضع بضميرهم، وبهذا يتعرّون من المعونات الإلهية، يسقطون: إما في سماجة الفسق، أو في التجديف على الأمور الإلهية، أو يتأذون في عقولهم. أما الذين يتعظمون بتدبير الفضائل فيسقطون بالأكثر في الفسق السمج، والذين يتعظمون بتدبير فضيلة العقل يسقطون في التجديف على الأمور الإلهية، أو يقعون في ضلالة العقل.

68- والعظمة ليست هي الفكر إذا عبر في الضمير، بل هي التي يثبت فيها الضمير. أما الحالة الأولى (أي مجرد عبور الفكر في الضمير) فمن الواضح أن الندامة تتبعها، وأما هذه (أي ثبوت الفكر في الضمير) فإذا ما أحبها الضمير لا يعرف الندم. وتلك الأولى هي دليل على ضعف الطبيعة، وأما هذه فهي من وقاحة الإرادة، وأحياناً تكون من مدح الناس أيضاً. فهناك من يتنجس عقله وينضرب بالتجنن، ويريد أن يكون فعل العجائب على يديه قدام الناس لكي يكثر مجد عظمته، فيحسّون أنه قريب جداً من الله.

69- كثيرون تفاضلوا بتدبير السيرة، وأُعطوا من الله مواهب كثيرة، وما قدروا أن يحتملوا كثرة المواهب التي حصلوا عليها، فانساقوا للعظمة ورُذلوا كالكُناسة، وابتعدوا عن الله وخابوا من عِظم الرتبة التي كانوا فيها. وكثيرون آخرون كانوا هادئين ومرتبين وذوي عقل رزين وكلامهم موزون، أعفاء في سيرتهم وفضلاء في المعرفة فصاروا علامة رعب لمن يعرفهم ومنظراً محزناً مبكياً لمن يبصرهم.

70- ليس كل هادئ متضع بل كل متواضع هادئ. متواضع غير حيي ولبيب لا تجد، حيي غير متواضع تجد مثله كثيرين. لأن المتواضع في كل وقت يكون هادئاً، فلا شيء يحرك ضميره أو يزعجه.

71- إذا أردت أن تخرج من العالم، وتترك الأقارب والأهل والبلد، وتتبع المسيح بسيرك في طريق الفضيلة، فلا تتسجس بأفكار الهمِّ بالقوت والكسوة؛ لأنه إذا كان عملك مع الله فهو الذي يهتم باحتياجك. وهذا (الهمّ) يعرض لك من قلة الإيمان. وبهذا الشك يتساوى المؤمن مع الكافر: فالوثني يعتقد أنه ليس إله غير الصنم الذي يعبده، أما المؤمن فيعتقد بالله ولكنه لا يثق به أنه يهتم باحتياجه! العالم يسرع بالسجود تحت أقدامنا ويسألنا لكي نعلِّمه الحق، ويقبل قولنا بإيمان ويسير في طريقه بفرح، ونحن نعلم الحق وبيتنا خراب من داخل! فيا من تفسر الحق لآخرين، اعرف أنت الحق من نفسك: أنه ليس أحد يتبع الله وينبغي له أن يهتم بالقوت، ولا يقدر أن يتَّكل على الله وقلبه متشكك. فالذي يثق بالله لاينبغي أن يهتم بشيء. وهذه هي وصية ربنا: «لا تهتموا أنتم بما تأكلون، وتقولون ماذا نأكل وماذا نشرب، بل اطلبوا ملكوت الله وبرَّه وهذه جميعها تزاد لكم».

72- والرب لم يقل لنا إنكم لا تذوقون التجارب، فهو لم يدعُنا للتنعم. فمن هو الذي يخرج في طلب اقتناء الملكوت ولا يشقى؟ لكنه (يقول) إنني إذا ما تركتكم تتضايقون في الأحزان حسب قوتكم، فإني أرجع وأفتقدكم لكي تعرفوا من هذا الموضع (مقدار) اهتمامي بكم بالتجربة (أي بالخبرة بما تنالونه) بعد الأحزان. لأن الذي يجوع من أجل المسيح، فهو يكون له مأكلاً، والذي يعطش هو يكون له مشرباً حلواً، والذي يتعرى هو يكون له لباساً، والذي يتعب راحةً، والذي يصلي رجاءً حقيقياً، والذي ينوح عزاءً. وهذا هو ما قاله القديس مرقس: «إن المسيح هو يكون كل شيء للذي يؤمن». ولهذا ينبغي أن يكون لنا إيمان حقيقي بالمسيح أنه يستطيع أن يجري من الحجر عسلاً.

73- إن كنت تثق في سياسة الله وتدبيره أنها ضابطة جميع أمورك، فلا تستعمل التحايل البشري. فإن كنت تشتغل بهذا (التحايل)، فاعلم أنك قد اقتنيت معرفة لا يتبعها إيمان، أعني أنك اقتنيت ظنوناً عادمة من معرفة الحق. فلا تتَّكل على إنسانٍ لئلا تخيب من النعمة. وإن ألقيت همَّك دفعة واحدة على الله، فاقفو (أي اتبع) بذلك إيمانك به. وإن كنت تؤمن فلا تخف، لا من شيء تحتاجه من ضروريات القوت الوقتي، ولا من شيء يؤذي الجسد، كما لو كانت الأشياء تأتي عليك كيفما اتفق أو كأنك خالٍ من العناية بهمج (أي بدون ترتيب). فحيث يوجد اقتناع الضمير لا يكون هناك رعب من الأفكار، وحيث يكون التقسُّم وشك القلب لا يهدأ الضمير من الرعب.

74- كثيرون من أجل أمل الراحة الجسدانية خيَّبوا أنفسهم من غنىً عظيمٍ ومن خيرٍ كثير. حتى ولا الذين هم في العالم يتصرفون في أمور جسدانية يبلغون مقاصدهم إن لم يقطعوا على ذواتهم أن يقاسوا المصاعب. فكثيرون يتخلفون عن طريق ملكوت السموات من أجل انتظار راحة قريبة. وكل أحد يعرف أنه حتى الطير بأمل الراحة يدنو من الفخ؛ وكم من وقت يسأل الإنسان، عندما يريد أن يبدأ بعمل ما من أجل الرب، إن كان فيه راحة وإن كان يسهل المسير فيه بلا عناء ولا تعب، ولا يكون فيه شيء يضغط الجسد! ماذا تقول أيها الإنسان الذي تريد أن تصعد إلى ملكوت السماء، وتنال تلك الحياة الروحانية، وتلك السعادة والخلطة مع الملائكة، أتسال إن كان في الطريق تعب وصعوبة؟! يا للعجب، إن الذين يشتهون أمور هذا العالم وغناه وسلطانه يجسرون على أمواج البحر ويسلكون الطرق المخوفة في أسفار مديدة مملوءة اتعاباً وضيقات، ويصبرون عليها جميعها وما يفكرون إن كان فيها عناء وتعب، ونحن في كل موضع نسأل عن الراحة!

75- اهتمام الأفعال يكدر النفس، ومجاذبات الأعمال تسجس العقل وتخرجه من هدوئه وتطرد منه السلام. فينبغي للمتوحد أن يكون بلا هم في فكره على الدوام، لكي يتلو في ناموس الرب ليلا ونهاراً من غير انجذاب (لأي شيء).

76- التدبير الروحاني هو الدهش بالسر الذي لا يتعلمه أحد، لا من الناس ولا من الملائكة، بل يظهر في النفس من الروح القدس بتكميل وصايا ربنا. والتدبير الروحاني ليس فيه أتعاب ولا حروب ولا ضنك جسد ولا مجاهدة مع الأفكار؛ لأنه ليس هو تحت اهتمام الحركات النفسانية. فكل تدبير موضوع تحت سلطة الإرادة فيه حروب، وهو مفتقر لتعب الجسد وعناء الضمير. وأكثر المتوحدين يسيرون بهذين التدبيرين: عمل الفضيلة وتدبير سيرة العقل الخفية؛ لأنهما موضوعان تحت سلطة الإرادة، وفيهما تعب وجهاد، وهما محصوران داخل الهذيذ والاهتمام البشري. أما الحركة الروحانية فهي ليست موضوعة تحت حرية الإنسان، ولا تُقتنى بالتعليم والتدريج والدربة (أي التمرين)، ولا تُعمل بالإرادة. لأنه لو كان التدبير الروحاني يُقتنى بالتعليم والدربة وأعمال إرادة النفس، لكان سائر المتوحدين الذين تحت السماء متدبرين بالروحانية؛ لأنه لا يوجد (أي التدبير الروحاني) إلا بنقاوة القلب، تلك التي لا تُقتنى إلا بالبعد من كل العالم بالجسد وبالضمير.

77- بين عشرة ربوات من المتوحدين تجد واحداً قد أُهِّل للتدبير الروحاني في هذه الحياة. لأنه من حيث يبدأ الإنسان بتدبير العقل الذي هو الهذيذ الدائم بالإلهيات، وإلى أن يبلغ إلى التدبير الروحاني الذي هو الدهش بالله، فهو محتاج أكثر من جميع الأعمال إلى الصلاة التي تكون بتغصب وتكمل بضرب المطانيات، ولا يبطل الصوم أبداً، وينال من القوت حسب ما يكفي الجسد ليقوم بعمل الصلاة.

78- لا تظن أن الله يدبرك في هذا العالم بغير تجارب، وبالأكثر إذا كنت محباً لله ولما يخصه. وإن عرض لك هذا الفكر فلا تثق به ولا تصدقه؛ لأن الله إنما قد حدَّ حياة بغير أحزان للعالم الجديد فقط. والذين لا يعرفون قصد الله وغرضه وسياسة تدبيره ولأي حكمة قطع الله بالأحزان على حياة هذا العالم، أناس منهم يظنون أنه لأجل مكافأة الشرور فقط يجلب الله الضيقات على الناس، وهذا فكر ناقص جداً عن سبق معرفة الحكمة في تدبيره، ولو أنهم أخذوا مادة لهذا الفكر بسذاجة من الكتب. فمَن مِن الناس خلا وتبرَّأ من الأحزان والضيقات؟ هوذا الأنبياء والرسل والصديقون الذين كانوا في كل الأجيال أيضاً، كم من ضيقات قاسوها وبكم من الأحزان أكملوا حياتهم في العالم، ألعل هؤلاء كانوا خطاة؟ ومن أجل أية خطية انقمعوا بالأحزان؟ وأنا أسكت عن ذِكر عملهم الصالح وسيرهم التَّعِب. أم لعلهم لم يكونوا قد انعتقوا بعد من الزلل حتى ينقمعوا لأجله؟ فمن هو الذي يعرف لأجل أي أمر أو سبب قاسوا تلك الأحزان؟ فينبغي لنا إذاً أن ننتظر الأحزان والضيقات مثل الأنبياء والرسل والصديقين، سواء كانت مكافأة من أجل خطية أو من أجل البر؛ فإنه ولا واحد منهم عاش بلا أحزان أو ضيقات.

79- ولنذكر أيضاً هؤلاء الذين لم يبلغوا بعد إلى الخطأ أو للتبرر، وهم كجزء من الطبيعة يشاركوننا في الأحزان والضيقات، وأعني بقولي هذا الأطفال البسطاء. فلمكافأة أية خطية ولقمع أي شرور أو لاختبار أية حرية يتضايق هؤلاء الأطفال الطبيعيون؟ فمع أنهم عادمون من هذه الأمور جميعها، إلا أنهم مثل التامين في القامة والمعرفة ينضغطون بأحزان الجسد وبأمراض مختلفة وأوجاع صعبة تُضنك أجسادهم، ويسلَّمون بيد الشياطين، وأكثرهم يخرجون من هذا العالم بضيقات مختلفة. فلأجل أي سببٍ ومكافأة لأي أمر بالعدل يؤدَّبون؟ غير أنه مثلما قلنا سابقاً إن الله قطع على حياة هذا العالم بالأحزان الدائم والضيقات. ولولا أننا قد نتمرمر بقلوبنا ونقع في أن نلوم الخالق تعالى، لكننا نقول بإفصاح ظاهر إنه يُسرُّ ويشاء أن نتضايق في كل حال، وقد رأى أنه هكذا ينبغي أن يكون سكنانا ما دمنا مقيمين في هذه الحياة. لأنه غير لائق أنه من أجل تلك المعرفة اللذيذة والسعادة المعدَّة قد سمح بهذا، وأخفى مشيئته، ولعل سبب ذلك إنهاء الخطية. أما نحن فنسجد لحكمته على سائر الأمور، وكيف أنه بسياسة لا يُنطق بها يدبِّر الكل. ولهذا فليس أحد من الحكماء العارفين يفكر أنه يُستطاع أن يكون الإنسان خالياً من حدوث التجارب والضيقات ما دام في الجسد، وفي تصرف تدبير الفضيلة.

80- اعلم أنه بحسب ما تعدم أُنس الناس، وبحسب بعدك وانفرادك من المسكونة، يفتقدك الله في جميع أحزانك بتعزيات متواترة، وتحس بهذا بالفعل في نفسك. لأن إلهنا الصالح الطيب لا يهمل الذي من أجل حبه يزدري ويترك الآباء والبلد ويحب القفر والبراري.

81- السكون هو مبطل ومبدِّد الآلام الوحشية، ومميت للتذكارات الباطلة، ومجدد للعقل العمّال، إذا قُرن معه هذان الأمران: نقص الغذاء؛ وهذيذ العقل على الدوام بأسرار العالم الجديد وربط الضمير بذكر الله بغير انقطاع، وإن انقطع نربطه عاجلاً كما علَّمنا الآباء وأفهمونا. فإن صحّ هذان الأمران فإنهما يقومان معنا ويصبحان لنا مثل اليد اليمين والشمال، وبمعونة ربنا بسهولة ندوس على رقبة الأعداء.

82- إن كنه السكون يدل على معنى فعله، أي الهدوء وعدم السجس وعدم الاضطراب. ولا ينبغي أن نتخذ الهدوء بجزء واحد فقط من أجزاء إنساننا ونترك بقية الأجزاء في المجاذبات والالتفاتات، بل نهدئ جميع أجزاء النفس والجسد. ومثلما نهدِّئ الجسد ونسكته بالحبس داخل القلاية، هكذا نكون بلا سجس في الأفعال البرانية التي تكمل بالجسد. وكما نمنع جسدنا من أن يضطرب بغير الواجب، كذلك أيضاً نجمع عقلنا من الهم والهذيذ بالجسدانيات ومن الملامة والحقد على القريب، ونسمِّره دائماً بالصليب. ونحرسه حتى لا ينحل وينزل من هناك. فإن داومنا على هذا بلا ضجر، وبالرجاء يوماً بعد يوم نصوِّب إليه كل غرض تدبير سيرتنا، فإننا لسنا نتعب زماناً كثيراً في التجارب، لأننا بذلك نُخضع الحواس ونقمع جميع لذاتها المتعبة التي تضطر عقلنا أن يكون تحت الخضوع لها، وتجتذبه وتحطه من القيام في بلده بهدوء، وتشغله بتحريش (أي بإغراء) الآلام الباطلة وأنواع الشهوات.

83- حبس الجسد والعمل داخل القلاية يقمع الجسد من الآلام اللحمية، أما الحواس فما يقدر أن يقمعها تماماً من الطموح إن لم يكن للقلب عمل خفي، الذي هو بلد السكون وبيت راحة وهدوء الحق بتحقيق. وكما نعتني أن نربط الجسد بالحبس فلنحرص أيضاً أن نكون في الحبس بلا سجس، ونضبط حواسنا من الطموح في الأفعال التي تشتت الفكر وتجعله يطيش، وذلك لكي نتمكن من حبس فكرنا داخل قلبنا بذكر ربنا وبنظرة مجده. وإن كانت هذه ليست لنا، فإن الرجل يسلك بالصورة، وكالبخار يتشتت، وكمثل ما يذوب الشمع قدام قوة النار، هكذا ينحل قدام الأفكار والآلام، ولا يقدر السكون المظنون به أن ينفعه بشيء.

 
 

Copyright©  www.karozota.com

 
  
 

English