مقدمة:
في نص رؤيا القديس يوحنا دُعي المسيحيون "ملوكا وكهنة" وبالتالي افرزوا من البشر
لخدمة الله والوعد الذي جاء في سفر الخروج يكون قد تحقّق {رؤ 6 :1 و 10 : 5 و 6:
20 وخر 6 -5 :19}: "وجعلنا ملكوتا وكهنةً لله أبيه له المجد والعزّة إلى دهر
الدهور. آمين وجعلتنا لإلهنا ملكوتا وكهنة ونحن سنملك على الأرض. سعيدٌ ومقدّس من
له نصيبٌ في القيامة الأولى إن هؤلاء لا يكون عليهم للموت الثاني سلطان بل يكونون
كهنةً لله وللمسيح ويملكون معه ألف سنةٍ. والآن إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي
فإنكم تكونون لي خاصة من جميع الشعوب لان جميع الأرض لي. وانتم تكونون لي مملكة
أحبار وشعبا مقدّسا. هذا هو الكلام الذي تقوله لبني إسرائيل".
غير أن النظام الجديد لا يعرف أي هيكل وذلك: "ولم أر فيها هيكلا لان الرب الإله
القدير والحمل هما هيكلها" {رؤ 22 :21 }. "وأمّا أنتم فجيلٌ مختارٌ وكهنوتٌ ملوكيّ
وأمَّةٌ مقدّسةٌ وشعبٌ مُقْتَنًى لِتُخبِروا بفضائل الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره
العجيب" {1 بط 9: 2}. والوعد في سفر الخروج { 6 :19 }: "وانتم تكونون لي مملكة
أحبار وشعبًا مقدّسًا. هذا هو الكلام الذي تقوله لبني إسرائيل".
يختلف مفهوم الكهنوت بشكل جوهري بين العهد القديم والعهد الجديد، ولن ندخل هنا
بمفهوم الكهنوت بالعهد القديم حيث خصّصنا لذلك تلخيصا سينشر لاحقا.
في العهد الجديد أبطل الرب يسوع المفهوم القديم وأقام الجديد {عب 9 :10}: "ثم قال
هاءنذا آتٍ لأعمل بمشيئتك يا الله. إذن فقد نزع الأول ليقيم الثاني".
إن كمال الكهنوت يأتي أولا في يسوع الرب ثم يعطى لتأسيسه {أف 16 :4}: "فننْمو في كل
شيء للذي هو الرأس للمسيح الذي منه كل الجسد يُنسق ويتلاءم بكلِّ المفاصِل
المتعاونة فبِحسب العمل الذي يناسب كلّ عضوٍ يُنشىء لنفسه نموّا لبنيانه في
المحبّة".
أيها الكاهن
–
من أنت؟!
إن يسوع الرب لم يسلّم سلطته لتلاميذه وللكهنة من بعدهم وكأنّه أصبح غائبًا وانهي
دوره فكافر من يفكّر هكذا. عند التمعّن بأيقونة العنصرة نرى الرسل الشّرفاء يمينا
ويسارا وتترك للمسيح الرب غير المنظور موقع الرأس والوسط حيث الروح القدس النازل
على التلاميذ يشهد له ويجعله حاضرا في الكنيسة دومًا. والتمعّن في صلاة سيامة
الشمّاس وهي جدا واضحة : "ليس بوضع يديّ أنا، ولكن بكثرة رافاتك...". إن مدلول وضع
اليد
–
علامة تسليم النعمة من العلى من الرب وإشارة إلى تحديد إرادة الرب وإعلان خياره في
الترشيح للكهنوت.
الكهنوت ليس سلطة {أو} تنقل بالوراثة وليس الكهنوت مهنة أو غطاء للعمل كرجل أعمال
أو سياحة، الكهنوت هو عمل الروح القدس في الكاهن لإتمام عمل المسيح الرب وليس
لخيانة عمل الروح القدس وخيانة تعاليم الربّ له المجد وهي خدمة شريفة مقدّسة.
إنّ سر الكهنوت "دون أب ودون أم" {عب 3 :7} وهو خارج أي مؤسسة بشرية إنسانية: "ليسَ
أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتنطلقوا وتأتوا بأثمار وتدوم أثماركم لكي
يعطيكم الآب كلّ ما تسألونه باسمي" {يو 16 :15}. أي ليعملوا الصالحات والتوحيد وليس
بضرب الأسافين والشقاق على مبدأ "فرق تسد" وليس وراء جني الثمار الوقتية الفانية
وان صرخة الشعب "مستحق" هي ضرورية والسؤال لماذا؟ أيها الكاهن! لأنها شهادة على
حضور الروح القدس والعمل الإلهي وعمل الكاهن في الكنيسة التي هي جسد الرب له كل
المجد وهي إلهية {راس} وإنسانية {جسد}.
إن الكهنوت خدمة وهبت مجانا من الله، لذا الكهنوت أكرم وأسمى من كل الخدمات الأخرى
الدنيوية، حقًّا إنها تعمل على الأرض ولكن غايتها وثمارها في السماء عند رب المجد
وبالتالي هي خدمة ملائكية وعمل الملائكة، والكاهن ينطق بكلام الله ورسله وقال صاحب
المزامير: "ليلبس كهنتك البر وليرنّم أصفياؤك" {مز9 :131}.
للكهنوت طابع قدسي مقدّس ولأسباب عدّة منها:
+ إن خدمة القداس الإلهي والذبيحة الإلهية غير الدموية هي أعظم هدية للبشرية وعند
الكهنة ولم تعط للملائكة.
+ سلطة الربط والحلّ، وهي التي أعطيت من الآب للابن ومنه للرسل والكهنة.
هاتان السلطتان تكفيان لفهم سموّ ورقيّ وكرامة هذه الخدمة، أليس كذلك أيها الكاهن؟!
لذلك مُنح الكاهن سلطان غفران الخطايا الذي "لابن البشر" سلطة الحل والربط كما
أسلفنا، وهذه السلطة ليست سحرية ولكن سرّ الكهنوت يتطلب جهدا بشريا وموقفًا
تقديسيًّا.
الكاهن هو ملاك الرب يتكلم عن السيد المسيح ويخدمه، فعندما يتكلم يُعير لسانه
للمسيح لذلك يجب عليه أن يكون طاهرا مثل الملائكة.
على الكاهن أن يعمل لينمّي المؤمن في سرّ الشكر الإلهيّ ويلد المؤمن في ملكوت الله
بالمعمودية ويتمّ تحقيق ذلك بواسطة الأسرار المقدّسة والتعليم والإرشاد وبصلوات
الكاهن لذلك أيها الكاهن لم تعد تحيا لذاتك بل للذي جنّدك ولرعيته ولخدمة الكنيسة
وحين تطلب منك خدمة، فلا تقل: سأكون بأحضان عائلتي، أليس كذلك؟!
عائلتك هي رعيتك ورعيتك هي عائلتك وليس عائلتك البيولوجية.
إن شروط الكهنوت ليست بيسيرة بدءًا من فحص الذات والأمور الجسدية ومن ثم الأخلاقية
والعلمية
والروحية. وإذا وُجد ما يعيق الخدمة الشريفة فعليه أن ينتبه لذاته، لماذا؟ لأنّ
عقاب الله سيكون قاسيًا.
لا يجوز ولا يمكن مقارنة ضعف الفرد بذلك الذي عند الكاهن من حيث عثرة الفرد فهو
يتعثّر لوحده أو مِمَّن حوله. ولكن ضعف وخطأ الكاهن يراه الجميع وكأنه في وسط
الظهيرة يسطع، ومنها يعثر الكثير وشتّان ما بين هذه العثرة وتلك، فعثرة الكاهن
خطيئة لا تغتفر وتقاس المسؤولية هنا على حجم العثرة التي يسببها الكاهن لكثيرين.
يجب على الكاهن أن يتحلّى بالحكمة والنضوج والعفّة والثقافة وقدرة على التعليم
وكذلك على الكاهن أن ينال ثقة الرعيّة بحكمته ونسكه وتقواه واستقامته وحفظ وديعة
المخلِّص بأعماله وحياته ومواهب إدارية والعمل على تنفيذ الخدمة المقدسة كما يليق
وليس من اجل إرضاء هذا النفر المتقوقع بجهله المدقع وخيانة تعليم الرب المسيح
وانحرافات رهيبة في خدمة القداس الإلهي؟. {هذا عنوان مقالنا القادم}.
إن الكنيسة هي جسد السيد المسيح له المجد وعلى الكاهن أن يحافظ على هذا الجسد
المقدس وعلى الكاهن أن يكون قويا حازما صارما جازما في مواجهة الأمور الخاطئة
ويواجه العديد من الناس الذين لا يقدّمون أية خدمة لهذا الجسد المقدس ولا يحملون
أية مسؤولية في الكنيسة لكنهم لا يفتأون يعترضون ويناوئون ويتّهمون الآخرين مدافعين
عن ذاتهم، متّهمين الآخرين بعدم الفهم وعليهم الكفّ عن الخدمة الكنسية وتحمّل
المسؤولية ويدينون أعمال وأقوال القيمين على هذا الجسد الشريف المقدس وبدون حقّ
ويشيّعون أن القيّمين يضرّون وكفاهم عملا وبهذا السياق يقول الذهبي الفم: "إن سلطة
الكاهن ليس فقط لا تقدّم أفراحًا بل هي أقسى عبودية".
وما قول الكاهن: "لا يضرّ
- الهدف أن يرضى الشعب" وكأنّ بيت الرب للإرضاء - أليس كذلك أيها الكاهن؟!.
إن رعاية النفوس والذود عن الجماعة الخادمة وحمايتها وتنميتها هي أمور تتطلب مواهب
روحية جمّة يجب أن تتوفر عند الكاهن، والعمل على جذب الجهَلة لتعليمهم وتأديبهم
وليس بهدف حضورهم للكنيسة وبقائهم بجهلهم وعدم ردعهم عن جهلهم المطبق فانّك خسرت
خدمتك ورسالتك الكهنوتية وأبعدت الذين يحافظون على جسد الرب المقدس
-
الكنيسة - وبهذا أيها الكاهن خُنت وصية الرب واقترفت خطيئة مميتة مزدوجة فمن ناحية
قرّبت الجهلة وأبقيتهم على جهلهم ومن ناحية أخرى أبعدت المحافظين {والعارفين} على
جسد الرب المقدس - الكنيسة ليتسنى لك التصرف كما تشاء - فبئس وبؤس هذا السلوك!؟.
للكهنوت فضائل عدّة، نسرد النزر القليل:
+ محبة الرب يسوع وكقول الرسول بولس: الرب يسوع هو "كمال الناموس والأنبياء".
+ محبة الرعيّة حيث قال الرب لبطرس الرسول: "أتحبني، ارع غنمي" وحتى الخطأة فمن
اجلهم جاء الرب المسيح ولكن ليس تشجيعهم وحثهم على الحضور للكنيسة وتمسكهم بجهلهم
الفظيع.
+ الغيرة على التعليم والوعظ فلا يمكن فهم كاهنا لا يعلِّم ومن يعلِّم عليه أن
يتعلّم أولا ويدرس ويبحث ولا يستكفي بالوعظ الإنشائي والكلام الطنّان الرنّان خالٍ
من الفحوى والمضمون فنحن اليوم بتنا مجتمعا مثقّفا متعلما دارسا باحثا ويتحتّم على
الكاهن أن يميز بين الوعظ والتعليم والتفسير وتحليل النص الديني المقدس فشتان ما
بين الوعظ وقراءة نصٍ دينيٍ مقدسٍ وتحليله وتفسيره. فالكاهن هو "فم المسيح له
المجد" فهو يعلن كلمة الله ويفسّرها ويشرحها ويحث على تطبيقها أم أن الكلام والشرح
بوادٍ والتطبيق في عالم آخر؟! أو أن سيامة الكاهن أضحت "دورة مكثفة لشهرين" ومن
بعدها: قدس الأب...؟!
أهمية التعليم، تتمحور في التنشئة الصالحة لأبناء الرعية والدور التأديبي يجب أن
يفرز ويدحض المسيئين للكنيسة، والكلمة الإلهية الحيّة هي المعيار والمقياس لحياة
الكنيسة.
التعليم ليس دائما بالضرورة تنشئة بل أحيانا تأديب لان القيمة والكرامة هي في نظر
الرب وليس في عين ابن الناس هذا أو ذاك؟!
التعليم هو الزرع {البذور} والكاهن كالزارع ومن يزرع الخطأ أو لا يصلّح الخطأ فيحصد
الجريمة بحق الرب ويخون الوديعة الإلهية والرب لن يغفر له حتى ولو {كاهنا}!
كيف يجسر ويجرؤ كاهن بالسماح بتجاوزات تعليميّة لاهوتية رهيبة؟ فان كانت هذه
التجاوزات عن معرفة فالويل لنا من هذا الكاهن وان نبعت عن جهل مطبق فبئس وبؤس
الحال!
يجب أن يكون التعليم مستقيما قويمًا
-
أرثوذكسيًّا - وكما قال الذهبي الفم: "إن لم يسمع الجميع سيسمع نصفهم وان لم يسمع
النصف سيسمع الربع وان لم يسمع عديدون سيسمع ولو واحد وهذا كافٍ". أجل هذا يكفي
أفضل من أن نعدّ عشرات وآذان لهم ولن يسمعوا.
إن فرح الكاهن يأتي من إتمام دوره أمام الله ولا يهمّه أن ينتظر إرضاء هذا العبد أو
ذاك النفر واضعًا شروط عودته للكنيسة بتراس أو قيادة مجموعة غير موجودة "الخطيئة
ليست ألا تقنع الآخر بل ألا تعلّمه". وما حالنا اليوم؟!
التعليم يقضي ويتطلّب التوبيخ والتأديب وان لم يفعل ذلك الكاهن فقد أجرم بحق الرب
وبحق العبد وهي خطيئة وجريمة فادحة لا تغفر له. فكيف يرضى الكاهن عند إقامة زياح
للعذراء والدة الرب بأيقونتين {للعذراء والدة الرب} لان هذه المرأة لا تتبارك بهذه
الأيقونة بل بالأخرى ومعلنة ذلك بكل وقاحة وخساسة أمام الكاهن وخلال القداس
الإلهي؟! إنني اضرب هذه الأمثلة من واقع الحياة الكنسية، أي أمثلة حقيقية وليست من
نسج الخيال، أو قل كيف يوافق الكاهن المحترم بمثل هذه الحالة والدافع: الإرضاء
والمسايرة! فأين هو من تعليم الرب؟! ومن المسؤول أو قل أين هو؟! وهذه من مسؤولية
مَن؟! او كيف تقدّم ذبيحة على نيّة فلان ويذكر اسمٌ آخر؟! ففي هذه الحالة لا بد من
سؤال: ما معنى تهيئة الذبيحة الإلهية المقدّسة؟! وما معنى تقدمة الذبيحة على نيّة
علاّن من الناس؟! مجرّد تساؤل وسؤال؟!وكيف يَرضى الكاهن بان يحضر القربان للكنيسة
بعد بدء القداس الإلهي؟! مجرد سؤال لأتعلّم؟! وبعد صلاة تغطية القرابين؟! فسؤال: هل
يجوز هذا؟!وان يذكر الكاهن: على نية....أسئلة بحاجة لإجابة؟!
التأديب صعب وشاق ففي هذه الحالة الكاهن معرّض لأحد احتمالين:
+ ألا يؤدّب بل يستمرّ في المديح والمسايرة ليربح رضى قلّة جاهلة بالمفهوم الديني.
+ أن يكون خادما صادقا للكلمة ويعلنها كما هي دون رياء ومحاباة وعندها سيخسر محبّة
فتات الجهلة لفترة ما ولكن حتما فعل الروح القدس سيردهم للطريق القويم، وهل يفعل
الروح القدس دون تأديب الكاهن؟!
إن المعلّم
-
الكاهن - يعرف حاجة أبنائه فلا يخضع لشهواتهم ورغباتهم وان التفسير والشرح والتعليم
والحزم والجواب الصحيح القويم الصارم سيجلب أكثر نتائج سلامية ويذلل الخلافات
ويقلّل الجهَلَة.
إن التعليم والتأديب والتوبيخ عند الخطأ مؤلم، ولكن لا محالة. فالكاهن مُصلح
كالطبيب يؤلم طورا بعلاجه ولكن الألم زمني وقتي عابر، ولكن يدوم الصواب بعدها لان
لا شيء سيء لنا إلا خطيئتنا ولا يجب أن نصبر عليها ونصمت إزاءها بل نصلحها فورا
لأنه "إن عشنا للرب نحيا وان متنا فللرب نموت". ولكن إن نبع الخطأ من المعلّم، فما
الحال؟!
حدد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني في رسالتين: أعطيتكم رعاة وفي دليل خدمة
الكهنة وحياتهم يقول قداسته (دليل في خدمة الكهنة وحياتهم صـ10):
"هويّة الكاهن تنبع من مشاركته المميّزة في كهنوت المسيح التي يصير بها بعد السيامة
الكهنوتيّة في الكنيسة ومن أجل الكنيسة، صورةً للمسيح الكاهن صورة حيّةً وشفّافةً،
ممثلاً حقيقيّاً وسريّاً للمسيح الرأس الأعلى. ينال الكاهن، في سرّ الكهنوت، موهبة
"سلطة روحيّة، مستمدّة من سلطة المسيح التي يقود بها كنيسته بروحه القدّوس، هذا
الاتّحاد السريّ بين الكاهن الأعظم، الأبديّ، وبين الكاهن المرتسم يضمّ الكاهن
بطريقة مميَّزة في سرّ الثالوث المقدّس وبالمسيح في كلّ نعمة الشركة الكهنوتيّة
التي تخدم بها الكنيسة شعب الله".
لقد نال الكاهن في سرّ الكهنوت هويّة روحيّة مقدّسة لخدمة الكلمة والأسرار، بها
يشترك في محبة الآب (يو17: 6-9، 1:24، 1كو1-2، 2كو 1:1) وفي تجسّد الابن الذي يتحد
به دوماً (مر15:3) وفداءه وفي محبّة الروح القدس (يو21:20). وكأنّ نعمة الثالوث
المقدّس قد سكبت في روحه ليقود شعب الله بلهيب الغيرة الرسوليّة المقدّسة. وتدفّقت
في ضميره ليظل سراجاً يوضع فوق المكيال لينير للداخلين الحياة، وامتلأت بها إرادته
المطيعة ليتقبّل التضحيات كلّها التي لا بدّ منها ليكون عوناً لمن سقط في عثرة،
نوراً لمن سار في ظلمة، حباً لمن حُرم من الحبّ، رجاءً لمن ليس له رجاء، قوةً
للضعيف، سنداً للمعوزين، بلسماً للمجروحين، أملاً لليائسين، وباختصار يكون المسيح
الذي يجول يصنع خيراً، ذلك كلّه في شركة مع الكنيسة من حيث هي سرّ وهي جماعة، سرّ
اتحادها بالثالوث المقدّس، برأسها ومؤسّسها وفاديها المسيح الكلمة الإلهي الذي أخلى
ذاته ليصير منّا ولنا ومعنا، وجماعة يقودها الحبر الأعظم، الذي يتّحد به الكاهن
اتحاده مع أسقفه ومع إخوته في الكهنوت ومع المعمَّدين جميعهم.
أن من يبحث عن إرضاء الناس، يحيا حياة ملؤها الشقاء والشعور بالألم، لأنه لا يستطيع
إنسان مهما وهبه الله من مواهب وخصال، أن يرضى جميع الناس. وفوق كلّ ذلك يجب
الإيمان بأن القاعدة الَّتي يجب أن يتخذها الكاهن هي: "فأجاب بطرس والرسل وقالوا
إنّ الله أحقُّ من النَّاس بأن يُطاع" {أع 29 :5}. أي تصرف بحسب التعليم القويم
السليم وليس بحسب نيل رضاء هذا الفرد أو ذاك.
إن الكاهن مسؤول بحياته قبل كلماته عن كلّ الجسد الكهنوتي، بمعنى أن الكاهن الَّذي
يتقدس يقدّس كلَّ الجسد الكهنوتي ومن ثمَّ كلَّ الكنيسة، والذي يخطئ يكون سبباً في
إيلام كلّ الجسد.
4. أن الكاهن بدون معونة الله سرعان ما سيتسرب اليأس إلى قلبه، وسرعان ما سيقول:
"زمرنا لكم فلم ترقصوا، نُحْنا لكم فلم تبكوا" {لو 32 :7}، وبالتالي "لا فائدة".
واليأس هو تلك الخطيئة الموجهة للروح القدس، أي تلك الخطيئة الَّتي لا تُغفر، لأن
مَنْ ييأس هو إنسان لا رجاء له ولا إيمان ولا فائدة منه.
5. أن الكهنوت مرتبط في أذهان الناس بالله، لدرجة أن الناس إذا أحبوا الكاهن أحبوا
الله، وأحبوا الكنيسة، ومارسوا إيمانهم، وإذا كرهوا الكاهن كرهوا الله والكنيسة
وكفّوا عن الصلاة ومحبة الكاهن من تصرفه بحفظ وديعة الرب يسوع وعدم خيانة تعليمه
بغية نيل المحبة الفانية الزائفة من قلّة قليلة غبيّة.
6. أن أسطورة "الكاهن العارف بكلِّ شيء" قد انهارت؛ فالكاهن الَّذي يدّعي العلم بكل
شيء سرعان ما سينكشف أمام شعبِه، وسرعان ما سينعته شعبُه بالكاذب والمضلل ويفقد
مصداقيته أمام جماعة المؤمنين.
7. إن على الكاهن أن يترك دائماً بينه وبين من يرعاهم "مسافة من الاحترام"، فالكاهن
الَّذي باسم البساطة والسذاجة والمسايرة يهدّم حائط الاحترام، هو أكثر الكهنة
شقاءً. وبعبارة أخرى، إذا لم يترك الكاهن مسافة من الاحترام بينه وبين كلّ أفراد
الرعيّة، حتى أرفعهم علْماً وثقافة وروحانيّة، {مسافة من الاحترام وليس من التعالي
أو التباهي}؛ سيفقد حتماً وسريعاً سلطته التعليمية إن كان يعلّم، أي سلطته كمعلم
وكمرشد وكأب وكقائد، لأن المعلم إذا هبط بمستواه إلى مستوى الطالب قاد الطالب إلى
هبوط أعظم وانحطاط أشد.
8. أن لا ينسى الكاهن أنه عندما يفعل أيَّ شيء، إنّما يفعله ككاهن، أي أنه، على
سبيل المثال، عندما يضحك أو يقود الرعيّة في السَّمر، يفعل ذلك لهدف تربوي {خلافاً
للآخرين الَّذين يقومون بذلك بهدف الانشراح والانبساط}، أي أنه يقوم بالضحك ليوصل
من خلال الابتسامة ما لا يستطيع أن يوصله من فوق المنبر، وليوصل بطريقة أبسط
مفاهيماً وقيماً يصعب توصيلها بالطرق المباشرة، أي ليوصل الحقيقة {المسيح} أو
بالقيام برحلة دينية من اجل التثقيف والتعليم الديني وليس كالآخرين بسبب الربح
المادي.
9. أن يعي الكاهن أن عبارة "الشعب لا يفعل شيئاً إلا العودة إليَّ"، هي عبارة لا
تعبّر إلا عن رعيّة هزيلة تعيسة لا رأي لها، ساذجة سخيفة غير واعية غير فاهمة وعن
راعٍ منتفخ من ذاته، لحوح، لا يعلَم ما يعْلم ويجهل ما يعلم ويعمل هذا إن علم النزر
القليل من المفهوم الديني الذي اكتسبه "بالدورة المكثفة ".
فالخطيئة الكهنوتيّة العظمى هي قيادة الشعب ليقول: "سمعاً وطاعة"، "الَّذي تراه يا
أبونا" لأن القائد الحقيقيّ هو الَّذي يقود مَنْ أُؤتمن عليهم إلى القيادة
الذاتيّة، والمعلمُ الحقيقي هو ذاك الَّذي يقود مَنْ يعلمَّهم إلى الاستغناء عنه،
والراعي الحقيقي هو ذاك الَّذي يرعى شعبه إلى أن يكونوا أصحاب رأي ورؤية؛ ومن
البديهي أنه لا يستطيع أن يقوم بذلك إلا مَنْ امتلأ بالمسيح، مَنْ أفرغ ذاته من
أنانيته {ولا يقبل بعمّاد يوم العيد لاختلائه مع عائلته البيولوجية}، ومن تلك
الرغبة {الَّتي غالباً ما تأتي بأشكال مقدسة} في جعل الآخرين في حاجة دائمة إليّه
وهؤلاء هم ضعاف النفوس وعديمو المعرفة.
10. أخيراً أن الكاهن محتاج إلى ضمير مستقيم، ضمير يستطيع ألا يفقد الرؤية عندما
يتلبد الجو بالغيوم، ضمير يستطيع أن يرى الحقيقة، عندما ينغمس الجميع في الباطل،
ضمير مثل النور في أوقات الظلام، ضمير مثل الصديق عند الإحساس بالوحدة، ضمير قوي
كالقائد وديع كالأم، ضمير يسكنه حب الله، وحب الآخر، لأن كاهن بلا حب هو كاهن بلا
الله، وكاهن بلا تأديب وتصحيح هو خائن للربّ له المجد، وأخيراً ضمير يستطيع أن
يقول: "له ينبغي أن يزيد، ولي ينبغي أن أنقص". وضمير كهذا لا يُمكننا الحصول عليه
بالتمني وإنما بالعمل الدؤوب وبالصلاة الحارة وبالانفتاح على نعمة الله والدرس
والبحث والتنقيب، وبالثقة في من قال "قد كلمتكم بهذا ليكون لكم فيَّ سلام، في
العالم ستكونون في ضيق ولكن ثقوا فإنّي قد غلبت العالمَ" {يو 33 :16}.
يرى الذهبي الفم إن سيامة هذا الكاهن الذي تنقصه بعض الفضائل آنفة الذكر هي إساءة
للكنيسة وعبء على جسمها والمسؤولية تقع على الأساقفة أوّلا!
لهذا، في اختيار الكهنة لا تقوم معايير كالغنى والأصل والفصل والشهادات الفارغة
وَجاهة للضغط على الأسقف ولكن بمعايير الفضيلة. وهناك قوانين كنسيّة واضحة جدا
تتطلّب ذلك وليس كما يطلب هذا الأسقف أو ذاك بان يكون خريج هذه الكلية أو تلك غير
المعترف بها وما الهدف إلا الربح المادي.
ينصح القديس الذهبي الفم إن شعر احد الكهنة بعدم أهليته
-
حتى بعد سيامته - ألا يتردد عن الاعتذار عن هذه الخدمة السامية.
أقوال للقديسين حول الكهنوت:
+ قال القديس توما الاكويني
-
Tommaso d'Aquine:
"إن عظمة وكرامة الكهنوت تفوق عظمة وكرامة الملائكة ".
+ والقديس امبروسيوز
-
Ambrogio:
"الكاهن أعظم من الملك بمقدار ما الذهب أعظم من الرصاص".
+ القديس فرنسيس الاسيسي:
"إذا رأيت ملاك من الملائكة وكاهن، اسجد أولا للكاهن ثم بعد ذلك اسجد للملاك".
+ كتب الأب بيو Padre Pio:
"الكاهن يجب أن يكون مسيح آخر، مفكّرا دائما في المذود، يجب أن يكون متواضعًا
وفقيرا، لأنه كلما صار كذلك كلما أعطى مجدا أكثر لله، يجب أن يكون متحرّرا من كل
شيء".
+ من افراهاط الحكيم ص 26: "هل ترعونهم حسنًا وتدبّرون أمورهم؟ لأنّ الراعي الذي
يهتم بقطيعه لا ينشغل بشيء آخر من القطيع. لا يغرس كرمًا ولا حدائق ولا ينشغل
باهتمامات هذا العالم. لم نرَ قط راعيا يترك قطيعا في البرية ويصير تاجرا، أو يترك
قطيعه يجول ويصير مزارعا، لكن إن هجر قطيعه ومارس هذه الأمور يسلّم قطيعه للذئاب.
أسألكم أيها الرعاة ألا تقيموا على القطيع قادة أغبياء، حمقى طمّاعين محبّين
للقنية...".
"يا إخوتي لا تلبسوا إيمان ربنا يسوع المسيح المجيد بمحاباة الوجوه. أيها الأبناء
إني اكتب إليكم بهذه لئلا تخطأوا وان خطئ أحدكم فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح
البار. وبهذا نعلم أنّا قد عرفناه بان نحفظ وصاياه فمن قال إني قد عرفته ولم يحفظ
وصاياه فهو كاذب وليس الحقّ فيه. ومن قال انه ثابت فيه فقد وجب عليه أن يسلك كما
سلك هو".
ما أروع أن اختم بكلام الرب المحب يسوع المسيح المخلّص رجاؤنا وعزاؤنا: "وكونوا
انتم أيضًا مبنيين كالحجارة الحيَّة بيتًا روحيًّا وكهنوتًا مقدَّسًا لإصعاد ذبائح
روحيَّة مقبولة لدى الله بيسوع المسيح. لأكون خادمًا للمسيح يسوع في الأمم وأُباشر
خدمة إنجيل الله الكهنوتية حتى يكون قُربان الأمم مقبولا ومقدَّسًا بالرّوح القُدُس
ولأجلهم أُقدّس ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدَّسين بالحقّ فمن يقضي علينا. المسيح هو
الذي مات بل قام أيضًا وهو عن يمين الله وهو يشفع أيضًا فينا. وليس أحد يأخذ لنفسه
هذه الكرامة إلا من دعاه الله كما دعا هرون. ما المنفعة يا إخوتي إذا قال احدٌ أن
له إيمانا ولا أعمال له. ألعلَّ الإيمان يستطيع أن يخلّصه كذلك الإيمان أن كان بغير
أعمال فهو ميت في ذاته. يا إخوتي لا تلبسوا إيمان ربنا يسوع المسيح المجيد بمحاباة
الوجوه".
أخي الكاهن: طريق الكهنوت لا يحتمل ولا يقبل "الوسطيّة
-
بينَ بينْ - " فإمّا أن تكون مع المسيح أو ضدّه.
بعض المراجع:
+ يوحنا الذهبي الفم: الكهنوت المسيحي.
+ المتروبوليت بولس يازجي: شرح القداس الإلهي.
+ يوحنا الذهبي الفم: المقال الثالث والعشرون، الليتورجيا والمناولة.
+ الأب ليف جيلله من أجل فهم أفضل للقداس الإلهي: تعريب إيلي عبيد.
+ المقال القادم :الانحراف والانفلات في القداس الإلهي {على ضوء سرد وطرح أمثلة من
الواقع}. |