إن التقليد السرياني بشكل عام غني بالدلائل الختنية [1] في حديثه عن العلاقة التي
تربط الله بالنفس، والمسيح بالكنيسة. فغالبًا ما يدعو النساك والمتصوفون السريان
المسيح "الحبيب"، ويتوقون للتنعم بالاتحاد به في الخدر السماوي الإسكاتولوجي. الخدر
العرسي الذي يشكل وعد الله بعد أن تخلف الإنسان عن الوعد باتحاد يفوق اتحاد جنان
عدن.
على سبيل المثال، تضع موشحات سليمان على المسيح الرب هذه الكلمات واصفة علاقة الرب
بالنفس: "مثل ذراع العريس حول عروسته، هكذا نيري على الذين يعرفونني؛ وكما يظلل
الخدر العرسي كل البيت العرسي، كذلك حبي يظلل الذين يؤمنون بي" (موشحات سليمان، 42،
8 – 9).
ويتحدث أفرهاط الحكيم الفارسي عن الرب فيصفه بـ "العريس"، بينما يعتبر الرسل
"الخِطَّابِين" – أي من يهيئ العروسة للعريس – ويعتبر المؤمنين كالعروس، ولذا
يحضهم: "فلنعد المهر إذُا" (راجع البراهين، 14، 68126 و 6841).
ويستحق اهتمامًا كبيرًا فهم السريان للراهب. فالرهبان بالغة السريانية هم
"يِحِدُيِا" ومعنى هذه الكلمة يذهب أبعد من الكلمة اليونانية (monakos) التي تعني
المتوحد، أي المختلي والمعتزل العالم للبحث عن الله. "يحديا" هو بحسب اللاهوت
السرياني "الابن الوحيد"، أي المسيح ابن الآب، و الراهب هو يحديا لأنه، في المقام
الأول، يسعى إلى التماثل بالوحيد وإلى الاتحاد به. الغاية من الحياة الرهبانية ليست
الهرب من العمل والاعتزال الرواقي، بل الاتحاد، الحب، التمثل بالحبيب والارتقاء
إليه.
سنسعى في هذه المقالة إلى تلمس هذا البعد الختني في بعض أناشيد وميامير القديس
افرام السرياني.
آنية القديس افرام
لن نتوسع في سرد سيرة القديس افرام لما يتوفر في الكتب وعلى شبكة الانترنت من سير
مقتضبة أو مسهبة عن القديس، اهتمامنا في هذا المقطع هو لفت النظر لآنية فكر افرام.
نكتفي بالقول أن افرام ولد في نصيبين، التي تقع تقريبًا على الحدود الجنوبية
الشرقية لتركيا، والحدود الشمالية الشرقية لسوريا. لا يعرف بالتحديد عام ولادته،
ولكن على الأرجح ولد في عام 306 من عائلة مسيحية. لنا شواهد على أصل عائلته المسيحي
في بعض قصائده حيث يخبر القديس أنه "ولد في طريق الحق". خدم افرام كشماس، وقضى
السنوات الأخيرة من حياته في الرها حيث مات في 9 يونيو 373. تعود أهمية افرام في
حياته، إلى تعبيره عن الإيمان القويم بألحان شعبية سهلة المنال والحفظ على مسيحيي
زمانه. سنتوقف الآن على اعتبار ثلاثة نقاط تعبّر عن آنية افرام وأهميته في الفكر
اللاهوتي اليوم:
الرمزية: تعود أهمية وآنية القديس افرام إلى خاصية فكره، شعره وعظاته. ففي فهمنا
الاعتيادي للاهوت وللإيمان نعتبر أن الإيمان هو الاعتراف بسلسلة من الحقائق
العقائدية. الإيمان يعني القبول بقانون إيمان. أما بالنسبة لافرام، فاللاهوت هو
واقع مختلف، فهو يتحاشى عادة "التحديد"، لاعتباره أن التعاريف تضع حدًا للمتناهي
الذي لا حد له. أسلوب افرام هو أسلوب العديد من آباء الكنيسة الأولين الذي يعتمد
المفارقة، المجاز، والرمز. هذا الفهم الآبائي هو متعمق في فكر الكنيسة الأولى لدرجة
أن ما نسميه بقانون الإيمان هو بحسب التعريف الكنسي الأصح "رمز" الإيمان.
السريانية: إن اللغة التي يكتب فيها افرام أشعاره ويعبر فيها عن أفكاره هي
السريانية، اللغة الأقرب إلى الأرامية التي نطق بها يسوع. إن الجذر الأرامي الذي
يربط بين السريانية، الأرامية والعبرية يجعل هذه اللغات قريبة جدًا بعضها من بعض
ليس فقط من ناحية الأثيمولوجيا، بل أيضًا من ناحية الحس. يلتقي افرام بالإيمان
المسيحي في منبعه اللغوي والحياتي، قبل مروره في وساطة الفكر اليوناني الهيليني. من
بين العوالم التي تميز لاهوته عن لاهوت الآباء الذين خضعوا لتأثير الأفلاطونية
الحديثة، نجد تقديره للجسد. ففي تعليقه على رسائل بولس على سبيل المثال نجد أن
الجسد (مثل سائر الخليقة) هو جزء من خليقة الله، وهذا الأصل هو عنوان كرامته. الجسد
بالنسبة لافرام هو "بيت ومسكن الثالوث".
محورية المسيح: يتميز فكر افرام أيضًا بقدرته على قراءة كل تاريخ الخلاص على ضوء
النقطة المحورية: يسوع المسيح. فنرى في كل أشعاره، وقراءته للعهد القديم، ولرمزية
تاريخ البشرية محورًا مغناطيًا يجذب التاريخ ويفسره هو يسوع المسيح. انطلاقًا من
هذه النقطة الثالثة، سنسعى في القسم التالي من المقالة أن نستخلص فكر افرام حول
موضوع الكنيسة عروس المسيح.
الخلق والعهد من أجل الزواج الصوفي
لقد خلق الله البشرية ليتحد بها باتحاد وزواج صوفي.هذه الفكرة تشكل خيطًا يربط سفر
التكوين بسفر الرؤيا، مرورًا بالأنبياء، وبالكتب الحكمية وعلى رأسها نشيد الأناشيد.
يمكننا أن نلخص تاريخ العهد القديم كدينامية جهد الله لكي يتحد بعروسته البشرية بعد
فقدانها لكرامتها كعروسة حرة وسقوطها في عبودية الخطيئة المتمثلة بالأنانية ورفض
الحب المحيي. بحسب فكر افرام، الخدر الختني معدّ منذ بدء الخليقة، والهدف من كل
تاريخ الخلاص هو إعادة إلباس آدم ثوب المجد الذي خسره مع الخطيئة. سنبرهن في وقت
لاحق أن "ثوب المجد" بالنسبة لافرام ما هو إلا "ثياب العرس". فثياب العرس التي
فقدها الإنسان بين أشجار عدن أعادها عري العريس الحق، يسوع المسيح، على الصليب.
بالطريقة عينها، تشكل الشريعة نوعًا من "عهد خَتْنيّ". الشريعة هي "حفل عرس نقي".
يقول افرام في أناشيد القيامة: "أقيم حفل عرس نقي في الصحراء ونصب الخدر الختني على
جبل سيناء. نزل الرب وأخذ خطّيبة هي ابنة ابراهيم، صديقه الحبيب" (أناشيد القيامة
3، 1 – 2).
ولكن هذه العروسة ستخون الرب عند عتبة الخدر، والرب سيخطب ابنتها (في إشارة إلى
إسرائيل بعد السبي على الأرجح). ولكن الابنة أيضًا سترفض عريسها خلال حفلة عرس
نيسان (أي عيد الفصح الذي صلب فيه يسوع)، ولذا فالرب سيطلقها ويختار عروسة الأمم.
العرس هو خبرة تقليد ملكي في الطقس السرياني الأنطاكي، ولهذا يرتدي العروسان خلال
الاحتفال بالزواج التيجان الملوكية. ونرى لهذا التقليد القديم أصداءً في تسمية
العرس في اللغة العامية في لبنان مثلاً، وفي اسم رتبة الزواج بحسب الكتب الطقسية
(رتبة الإكليل)، التي هي مرادف لكلمة "تتويج". في هذا الإطار يتحدث افرام عن سيخارة
(وهي الموضع الذي التقى فيه يسوع بالسامرية، وحيث آمنت به هذه المرأة والكثير من
أهل السامرة) كتصوير مسبق للكنيسة التي هي عكس صهيون التي رفضت الرب. في هذا الإطار
يستعين افرام بالسجع السرياني ليقيم ربطًا لاهوتيًا لافتًا: "مباركة أنت، أيتها
العروس المكللة (كَلْتُا و مْكَلَلْتُا) التي جاءها العريس الذي رفضته صهيون"
(أناشيد في البتولية 19، 2).
لهذا، كملخص لمبادرة الله في العهد القديم يمكننا أن نقول أن سعي الله على مدى
تاريخ العهد القديم هو إرجاع البشرية الحبيبة إلى خدر المحبة. هذه الأمانة التي هي
أقوى من الموت، موت الخطيئة تقف عاجزة أمام حرية الخطّيبة الرافضة لأن الحب لا
يجتاح الإرادة بل يجوهرها. ولكن رفض الخطيئة لا يطفئ حب الله الذي يعبّر عن أمانته
للبشرية باختياره لعروسة الأمم.
سر التجسد وثوب المجد
يقوم افرام بقراءة عمل المسيح الخلاصي على ضوء قصة آدم فيقول "كل هذه التحولات قام
بها الرحيم خالعًا المجد ولابسًا الجسد لأنه ابتكر طريقة يعيد فيها إلباس آدم بثوب
المجد الذي كان آدم قد خسره. الْتَحَف المسيح بالقماطات، التي توازي أوراق التين
التي لبسها آدم، ارتدى المسيح الثياب، بدل الجلود التي تغطى بها آدم واعتمد لأجل
خطيئة آدم، مُسح جسده لأجل موت آدم، قام ورفع آدم إلى مجده. مبارك الذي انحدر، لبس
آدم وصعد إلى السماء" (أناشيد الميلاد 23، 13).
يتضمن هذا النص إشارة إلى ثوب المجد الذي خسره آدم، وعمل المسيح الذي يهدف إلى
إعادة إلباس آدم بثياب المجد. تاريخ الخلاص هو إلى حد ما إعادة الباس البشرية بثوب
المجد الذي خسرته بين أشجار عدن. فالمسيح يأتي الأرض لابسًا ثوب بشريتنا لكي يعيد
في تجسده تألق المجد الذي خسرته هذه البشرية بالابتعاد عن الله. ثوب المجد بحسب
افرام هو بالحقيقة ثوب وليمة عرس الحمل، عرس الخليقة مع خالقها.
في إشارة إلى نص متى 22، حيث يتحدث الرب عن مثل الدعوة إلى العرس، نرى كيف أن الثوب
هو ثوب عرس الحمل يقول القديس افرام: "لبس بكر الآب جسدًا كوشاح ليخفي مجده. يتألق
العريس الذي لا يموت بثوبه. فليشابهه المدعوون إلى العرس في ثيابهم. فلتشع أجسادنا،
التي هي ثوبك فلتشع لكي لا يكون لها مصير ذلك الرجل الذي كان جسده غير نقي. يا رب
اغسل بنورك دنسي في وليمتك" (أناشيد نصيبي 43، 21).
في النص أعلاه نجد إشارتين هامتين، الأولى إلى البعد الخَتني للتجسد، فالمسيح هو
العريس الذي يرتدي ثوب عرسه الذي هو في نهاية المطاف جسدنا البشري. والإشارة
الثانية إلى قدسية الجسد البشري، فالجسد هو ثوب المسيح المتجسد، لذا يقول افرام:
"فلتشع أجسادنا، التي هي ثوبك".
يعلق افرام على إنجيل متى 22، 1 – 14، فيشرح أن الرجل الذي يُطرد من حفلة العرس، لا
يُطرد لأنه لم يكن لديه ثوب العرس، فكل منا ينال ثوب عرسه عند المعمودية. الرجل
يُطرد لأنه دنس ثوبه أو فقده. هذا التفسير كان متفشيًا في زمن افرام، فافراهاط
يتحدث عن موضوع مماثل في البراهين 6، 1 حيث يدعو إلى "ارتداء ثياب العرس". وافرام
يتحدث عن هذا الموضوع في أناشيد البتولية 33: "اجعلني يا رب مستحقًا الدخول في خدر
عرس مجدك، مرتديًا ثوبك، يا رب".
عمل يسوع الخلاصي يتم في التاريخ من خلال الإرادة البشرية، والإرادة البشرية الأولى
التي تلقت عمل الله الخلاصي في التجسد هي مريم العذراء، التي يشبهها افرام إلى
الكرمة التي تعطي عنقودًا عذبًا هو "دواء الحياة".
"الكرمة العذراء أنتجت عنقودًا عذب الخمرة حمل التعزية إلى أحزان آدم وحواء
الكئيبين: تذوقا دواء الحياة، وتعزوا من أحزانهما. (أناشيد للعذراء 1، 14).
مثل القديس يوستينوس والقديس إيرناوس، يقيم افرام مقارنة بين العذراء حواء والعذراء
مريم. بعد الموت الذي حملته "أم الأحياء" الأولى، تعيد مريم، أم الحياة، إلى
البشرية ثوب المجد الذي هو ثوب العرس: "في البشرية بتولان الأولى هي حاملة حياة،
الثانية هي سبب موت؛ من حواء خرج الموت الموت، أما الحياة فمن مريم. الأم التي
سقطت، استلقت على ابنتها. وبما أن تلك قد ارتدت أوراق العري، قامت هذه بحياكة رداء
مجد لأمها".
ويشمل افرام في المقارنة آدم الأول وحواء الأولى وآدم الثاني (المسيح) وحواء
الثانية (مريم العذراء) فيقول:
"لقد حمل آدم الفساد إلى المرأة التي خرجت منه وها هي اليوم تنعتق من فسادها إذ تلد
له المخلص.
الرجل الذي لا يلد أبدًا قد ولد الأم حواء كم بالحري يجب أن نؤمن بابنة حواء التي
ولدت ابنًا دون رجل.
إن أرضًا عذراء قد ولدت آدم، رأس الأرض. والعذراء ولدت اليوم آدم رأس السماء"
(أناشيد الميلاد 1، 14- 16).
"نظرت إليه حواء لأن عري النساء كان كبيرًا وهو وحده كان يستطيع أن يلبسهنّ بدل
أوراق الشجر، المجد الذي كنّ قد فقدنه" (أناشيد الميلاد 1، 43).
تجسد المسيح ليس فقط تكفيرًا عن خطيئة آدم وحواء بل هو حفل عرس يضم الرب العريس إلى
الخليقة العروس:
"مبارك الذي وسم نفسنا، زينها وتزوج بها. مبارك من جعل من جسدنا خيمة لمجده
اللامرئي. مبارك الذي ترج أسراره في لغتنا" (أناشيد الميلاد 2، 7).
هذه الأبيات وسواها الكثير يثبتا في فهمنا بأن ثوب المجد هو ثوب العرس. إنه الثوب
الذي يناله المؤمنون في العماد والذي يجب أن يحافظوا على نقاوته حتى العرس
الاسكاتولوجي عند مجيء الرب بالمجد.
معمودية يسوع وظهور ختن البيعة
إن ظهور الرب يمتد ليشمل في التقليد السرياني ثلاثة أسرار متصلة في ما بينها وهي
"سجود المجوس"، "معمودية الرب في الأردن"، و"تحويل الماء إلى خمر في عرس قانا
الجليل".
سنركز بشكل خاص على معمودية الرب بحسب قراءة القديس افرام لها، لأنها تتضمن معانٍ
غنية جدًا لمقصدنا الذي هو التبحر في مفهوم كنارة الروح القديس للكنيسة كعروسة
المسيح.
يتحدث الباحث روبرت مارّي عن المعمودية فيقول أن في رتبة المعمودية القديمة كان
يُستعمل رمز التكليل الزوجي، لأنه بحسب المفهوم اللاهوتي، المعمودية تشكل بدء زواج
المسيح بالنفس. هذا وإن واقع الكنيسة العروسة يرتبط بشكل حميم بزواج المسيح مع كل
عضو من أعضاء الكنيسة في المعمودية.
نلمس هذا البعد الختني في نشيد لافرام يتحدث عن معمودية يسوع: "إن مخيلتي حملتني
إلى الأردن حيث رأيت عجبًا عندما ظهر العريس المجيد لكي يقيم حفل زفاف للعروسة
ويقدسها.
"إن خطوبة اسحاق مع رفقة، ويعقوب مع راحيل، وموسى مع دبورة: ما هي إلا رموز حققها
الرب عندما تزوج بكنيسته في معموديته في الأردن" (الدياتسرون 3، 17).
لا بد هنا أن ننظر عن كثب إلى بعض النصوص الإنجيلية التي تتحدث عن معمودية الرب
لندرك أن ما يراه افرام ليس إضافة إلى نص الإنجيل بل تعميقًا لمعناه. لا ننسينّ أن
افرام هو ابن بيئة ولغة قريبة لبيئة يسوع.
نقرأ في إنجيل يوحنا: "أنا أعمد في الماء، وبينكم من لا تعرفونه، ذاك الآتي بعدي،
من لست أهلا لأن أفك رباط حذائه" (يو 1، 27) وكذلك إنجيل مرقس: "يأتي بعدي من هو
أقوى مني، من لست أهلا لأن أنحني فأفك رباط حذائه" (مر 1، 7؛ راجع أيضًا لو 3، 16).
إن هذه الآيات، خلافًا للتفسير الروحي السطحي، الذي يراها كتعبير عن تواضع يوحنا
المعمدان، هي تعابير خاصة بالشريعة. نرى إيضاحًا عن ذلك في كتاب تثنية الاشتراع حيث
نقرأ:
"إذا أقام أخوان معا، ثم مات أحدهما وليس له ابن ، فلا تصر امرأة الميت إلى خارج،
لرجل غريب، بل أخو رجلها يدخل عليها ويتخذها امرأة له، وهو يقوم نحوها بواجبه كأخي
الرجل. ويكون البكر الذي تلده منه هو الذي يحمل اسم أخيه الميت، فلا يمحى اسمه من
إسرائيل. فإن لم يرض الرجل أن يتخذ امرأة أخيه، فلتصعد امرأة أخيه إلى باب المدينة
إلى الشيوخ، وتقل: قد أبى أخو زوجي أن يقيم لأخيه اسما في إسرائيل، ولم يرضني زوجة.
فيستدعيه شيوخ مدينته ويكلمونه في ذلك. فإن أصر وقال: إني لا أرضى أن أتخذها، تتقدم
إليه امرأة أخيه حضرة الشيوخ وتخلع نعله من رجله، وتبصق في وجهه وتجيبه قائلة: هكذا
يصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه. فيدعى في إسرائيل بيت المخلوع النعل" (خر 25، 5
– 10). كما ونجد تطبيقًا لهذه الشريعة في الفصل الرابع من كتاب راعوث، حيث يأخذ
بوعز راعوت زوجة له بحسب هذه الشريعة.
إذا، إنطلاقًا من هذا الإطار الكتابي، ما يقوله المعمدان عن المسيح هو اعتراف بأن
المسيح هو عريس البيعة، وهو وحده، دون آخر، له حق بالاتحاد بالبيعة خطيبته. يقول
يوحنا في الإطار عينه: "يأتي بعدي ‘رجل‘ قد تقدمني لأنه كان من قبلي" (يو 1، 30).
كلمة رجل في هذه الآية هي تعريب لكلمة " Aner" التي تعني حرفيًا الرجل الذكر.
المسيح هو خطيب البيعة الذي يسبق الجميع في حق الارتباط بالبيعة لأنه هو عريس
البيعة.
نفهم من هنا تعابير يوحنا اللاحقة: "من كانت له العروس فهو العريس. وأما صديق
العريس الذي يقف يستمع إليه فإنه يفرح أشد الفرح لصوت العريس. فهوذا فرحي قد تم"
(يو 3، 29).
لا تغفل عن بال افرام، المتبحر بفهم الكتب المقدسة، والخبير بتطبيق مبدأ تفسير
الكتاب المقدس بالكتاب المقدس جميع هذه المعاني العميقة ونرى الدليل على ذلك في
أناشيد المعمودية بشكل خاص:
"أرسل الكلمةُ الصوتَ لكي يعلن وصوله ولكي يهيئ له العروس، معدًا إياها لمجيئه. حتى
تكون جاهزة لدى وصوله فينتشلها من المياه.
"كان يوحنا يصرخ: "يأتي بعدي من كان قبلي. أنا الصوت، ولكني لست الكلمة [...].
"يأتي إلى المياه لكي يفدي المنفية. يأتي لكي يضع خميره في المياه حتى ترتقي العروس
نحوه".
ويقدم افرام تشابيه عرائس العهد القديم كرموز تحققت في العرس الحق الذي يربط البيعة
بالمسيح الرب:
"عند البئر تلقت رفقة، في أذنيها الأقراط وفي يديها الحلل وعروسة المسيح اتشحت
بهبات ثمينة من الماء – على يديها الجسد الحي وفي أذنيها المواعيد".
ويضع افرام على لسان المسيح هذه الكلمات جاليًا عجب المعمدان لما يفعله المسيح:
"إن العروسة التي خطبتها لي تنتظرني – حتى أنحدر، اعتمد وأقدسها. يا صديق العريس،
لا تؤخرني عن الغسل الذي ينتظرني".
في المعمودية، يعيد الرب الخدر الذي خسره الإنسان في عدن:
"في الجنة كان هناك خدر عرس بهي، ولكن الأفعى دمرته فأعطانا الرب بدلاً عنه
المعمودية (أناشيد المعمودية 13، 4).
تعيد المعمودية للبشرية المتمثلة بآدم وحواء ثوب العرس الذي خسراه بين أشجار عدن:
"في المياه نسج الروح القدس ثيابًا بهية للعروسين المهزومين اللذين خسرا ثيابهما
بين الأشجار (أناشيد المعمودية 13، 3).
وأيضًا: "إن الله بمراحمه قد انحنى وانحدر لكي يمزج رأفته بالمياه ويوحد طبيعة
ألوهته بأجساد البشر الضعيفة" (أناشيد المعمودية 8، 1).
معمودية المسيح الثانية وعرس الصليب
إن معمودية الأردن التي قبلها المسيح هي صورة لمعمودية ثانية يزمع يسوع أن يقبلها.
يتحدث عن هذه المعمودية في حادث ابني زبدى على سبيل المثال: "ودنا إليه يعقوب
ويوحنا ابنا زبدى، فقالا له: «يا معلم، نريد أن تصنع لنا ما نسألك». فقال لهما:
«ماذا تريدان أن أصنع لكما؟». قالا له: «امنحنا أن يجلس أحدنا عن يمينك، والآخر عن
شمالك في مجدك». فقال لهما يسوع: «إنكما لا تعلمان ما تسألان. أتستطيعان أن تشربا
الكأس التي سأشربها، أو تقبلا المعمودية التي سأقبلها ؟». فقالا له: «نستطيع». فقال
لهما يسوع: «إن الكأس التي أشربها سوف تشربانها، والمعمودية التي أقبلها سوف
تقبلانها. وأما الجلوس عن يميني أو شمالي، فليس لي أن أمنحه، وإنما هو للذين أعد
لهم». (مر 10، 38 – 39).
ما هي هذه المعمودية التي يتحدث عنها يسوع فيقول: "وعلي أن أقبل معمودية، وما أشد
ضيقي حتى تتم!" (لو 12، 50)؟
يسوع يتحدث عن معمودية موت الصليب. عندما ستغمره مياه الموت، وسينهض بعد ثلاثة أيام
ظافرًا بالحياة. هناك عقد يربط بين معمودية يسوع الأولى في الأردن ومعموديته
الثانية في السر الفصحي المتألف من الصليب، الموت، النزول إلى الجحيم، والقيامة.
هذا العقد هو سلسلة يكلّل فيه خطيبته البيعة زوجةً.
في تعليقه على عرس قانا، يقدم افرام المسيح كالعريس السماوي، المستعد لزواجه، والذي
يرمز إليه العريس الأرضي في قانا. عرس المسيح في معموديته هو رمز يستبق موته الذي
سيتم في الجلجلة، حيث ستولد الكنيسة من جنبه: حواء الثانية من آدم الثاني: "خرج دم
وماء، أي الكنيسة، المبنية على جنب المسيح. تمامًا كما كان الحال مع آدم، فقط أُخذت
عروسته من جنبه، بما أن زوجة آدم هي "جنبه"، فكذلك دم ربنا هو كنيسته. من جنب آدم
جاء الموت، من جنب ربنا الحياة" (تعليق على الأناجيل الموحدة 21، 11).
الجلجلة وآلام المسيح هي اللحظة التي يغلق فيها الجرح الذي تسببت فيه الخطيئة في
عدن. عدن والجلجلة يلتقيان.
"إذا صدر من حواء خبز التعب، ذاك الذي حمل اللعنة على الأرض بعد الخطيئة، هوذا مريم
تأتينا بخبز القائم من الموت، الافخارستيا" (تعليق على الفطير 6، 7).
وفي تعليقه على نص أفسس 5، 21 – 33: لا يتحدث افرام عن الزواج البشري، بل عن
الاتحاد بين المسيح والكنيسة: "هذا الحب الطاهر، الذي أُمر به من آدم حتى ربنا، كان
رمزًا للحب الكامل الذي سيبينه الرب. لهذا تخلت الكنيسة عن أوثانها وممتلكاتها،
كالأب والأم؛ والمسيح أيضًا تخلى خلى أباه في السماوات وأمه على الأرض، ومات من أجل
كنيسته، لكيما بموته يستطيع أن يهب الحياة للكنيسة التي أحبها، ولكيما يستطيع أن
يرفعها معه ويحملها إلى ملكوته.
هذه الأمانة الختنية التي يعيشها المسيح نحو كنيسته ليست فقط أمانة "عمومية" نحو
الكنيسة الجامعة، هي أمانة نحو كل مسيحي بمفرده. فخلال حصار نصيبين، يذكر افرام
الرب بغيرته وبرحمته نحو عروسته: "كن غيورًا عليّ، لأنني لك فأنا موعودة لك عروسة!
لقد أعلن الرسل خطوبتي لك وقالوا لي أنك غيور" (أناشيد نصيبين 6، 12).
المسيحي في معموديته لا يقبل فقط غفران الخطايا، فهذا كان محتوى معمودية يوحنا.
معمودية المسيح تذهب أبعد من ذلك، هي بدء الخطوبة مع المسيح، هي اشتراك في معمودية
المسيح الأولى والثانية. يتحدث عنها القديس بولس فيقول: "أنتم الذين اعتمدتم
بالمسيح قد لبستم المسيح" (غلا 3، 27). هناك لبس، اتحاد، قران صوفي في المعمودية
المسيحية.
في المعمودية – يشرح القديس بولس لأهل كورنثوس – نعتمد بروح واحد لكي نشكل جسدًا
واحدًا (راجع 1 كور 12، 13). هذا "الجسد الواحد" في الكتاب المقدس هو تعبير عن
الوحدة التي لا تلغي التنوع، هي وحدة ختنية تميز لاهوت الكتاب المقدس انطلاقًا من
سفر التكوين: "يترك الرجل أباه وأمه، يتحدث بامرأته، ويصبح الإثنان جسدًا واحدًا"
(تك 2، 24). المعمودية المسيحية هي اشتراك في موت الرب وقيامته واتحاد حميمي به،
يجمعه الله ولا يستطيع أن يفرقه الإنسان: "أو تجهلون أننا، وقد اعتمدنا جميعا في
يسوع المسيح، إنما اعتمدنا في موته فدفنا معه في موته بالمعمودية لنحيا نحن أيضا
حياة جديدة كما أقيم المسيح من بين الأموات بمجد الآب؟ فإذا اتحدنا به فصرنا على
مثاله في الموت، فسنكون على مثاله في القيامة أيضا" (روم 6، 3 – 5).
إن بولس يعي بشكل جيد كيف أن الكنيسة هي عروسة المسيح، وأن المسيحيين، كل مسيحي، هو
عروسة المسيح، ويعبر عن غيره المسيح نحو عروسته: "إني أغار عليكم غيرة الله لأني
خطبتكم لزوج واحد، خطبة عذراء طاهرة تزف إلى المسيح" (2 كور 11، 2).
خلاصة القول، إن افرام، من خلال قراءته لحدث الصليب كحدث عرس المسيح مع الكنيسة،
عرس آدم الثاني مع حواء الثانية التي تنبثق من جنبه المطعون هو تعبير أصيل عن أسمى
معاني موت الصليب، الذي – بحسب ما يعلمنا قانون الإيمان هو فعل يقوم به الرب
"لأجلنا"، لأجل الاتحاد بنا، قبل أن يكون عملاً "لأجل خطايانا" (بحسب تعليم الكثير
من الآباء). في الصليب تكتمل حلقة عمل الله "لقد تمّ"، يقول يسوع على الصليب. الله
الذي خلق البشرية ليتزوجها، يحقق نيته في خدر الصليب. ليست الخطيئة هي التي جذبت
التجسد، بل الحب.
صفات الكنيسة العروس
في ختام مقالتنا، نتوقف على استعراض بعد الأفكار والصفات التي يمكننا أن نستخلصها
من فكر القديس افرام حول الكنيسة كعروسة المسيح.
أولاً، السهر
في انتظار رجوع العريس السماوي، يترتب على الكنيسة العروس أن تسهر بانتظار العريس.
ولكن السهر، بحسب القديس أفرام أنواع، وما كل سهر يليق بعروسة المسيح. فهناك الغني
الذي يسهر لأنّ مامونا قد استرق النوم من أجفانه؛ والقَلِق يسهر لأن نومه قد افترسه
القَلَق. يخلص افرام إلى القول:
"أيها الإخوة، هو الشيطان من يعلم سهرًا بدل آخر، يعلم النوم في الأمور الصالحة
والسهر واليقظة في الأمور المشينة" (أناشيد الميلاد 1، 69).
ويشرح افرام أن يهوذا سهر لكي يخون الرب بائعًا دم البار الذي اشترى الخليقة
بأسرها. ولذا يحرضنا القديس إلى سهر خاص إذ يقول:
"اسهروا يقظين، مثل الأنوار في ليلة النور هذه، فرغم أن لونها الخارجي داكن فهي تشع
بفضل قوتها الداخلية" (أناشيد الميلاد 1، 74).
ثم يضيف: "من لا يسهر بالطهارة، فإنما سهره هو نوم. ومن لا يسهر بالعفة، فحتى سهره
سيحسب ضده" (أناشيد الميلاد 1، 77).
لذا فسهر المؤمنين هو سهر الحب، سهر القلب الذي يقول في نشيد الأناشيد: "أنا نائمة
لكن قلبي ساهر" (نش 5 ، 1). فالمحب، ولو أغلقت عيناه يبقى قلبه منفتحًا ومتنبهًا
على أدنى إشارة من إشارات الحبيب. وسهر المحب هو سهر محوّل يجعله مماثلاً للمحبوب.
ثانيًا، التجلي
نجد في افرام وعيًا بيئويًا نبويًا بدأت البشرية والكنيسة فقط في العقود الأخيرة
تعي أهميته. إلا أن ما يميز افرام عن الوعي الحالي للبيئة، هو أنه لا ينظر إليها
كواقع حلولي، ولا من منطلق أناني مطبوع بالمصلحة (لنحافظ على الطبيعةِ حتى لا
تدمرنا الطبيعةُ)، بل من منطلق لاهوتي. الخليقة هي مرآة الخالق، ويجب أن نحافظ
عليها شفافة وجميلة لكي تشع بجمال محيا خالقها. إن الخليقة تلعب دورًا مماثلاً لدور
آثار ومعالم الله في فكر القديس بونافنتورا.
بيئوية القديس افرام لا تنحصر في البعد الطبيعي، بل تمتد إلى تجلي الخليقة، وخصوصًا
الخليقة العاقلة، لكي تكون صدىً للوغوس، لكي تنال التأليه (theosis). فإذا كان
القديس أثناسيوس يقول: صار الله إنسانًا لكي يضحي الإنسان إلهًا، يقول القديس افرام
بلغته الشعرية (متحدثًا عن الميلاد): "اليوم طُبعت الألوهة في البشرية لكيما تُنقش
البشرية في ختم الألوهة" (أناشيد الميلاد 1، 99).
يتعرى الله من مجده الأزلي (أناشيد الميلاد 4، 188) لكي يُلبس آدم، الذي تعرى من
المجد الذي ناله في الخليقة الأولى (أناشيد الميلاد 23، 13). ويلبس المسيح بشريتنا
لكي نستطيع نحن بدورنا أن نلبسه (أناشيد الميلاد 22، 39). فإنما قماطات مذوده هي
حلتنا الملوكية (أناشيد الميلاد 5، 4).
كما بالتجسد كذلك بالمعمودية، هناك عملية تحول يتحدث عنها افرام من خلال صورة
"المزج". بالمعمودية تمتزج الطبيعة البشرية بالطبيعة الإلهية (أناشيد المعمودية 4،
5 ؛ 13، 5). ينزل النور الإلهي ويرتفع روح الإنسان، ويتحد الاثنان في حب واحد
(أناشيد المعمودية 9، 11) ويدخل الإنسان في الحميمية النهائية مع الله، بدخوله في
ذرية المسيح (أناشيد المعمودية 4، 1 . 6). من خلال المعمودية تتجلى الطبيعة
البشرية، فبعد أن صار المسيح جزءًا من النسل البشري بالتجسد، يضحي الإنسان من نسل
الله بالمعمودية (أناشيد المعمودية 13، 6 – 7).
كيف يتم هذا التجلي وهذا التأليه؟ الدرب الملوكي هو الصلاة التي هي خدر عرسي:
"الصلاة المَطَهّرة هي عذراء في الخدر العرسي" (أناشيد في الإيمان 20، 6 – 7)، وقمة
الصلاة هي الاتحاد بالمسيح في الخبز والخمر الذين يتحولان إلى جسده ودمه ليحولا
الكنيسة إلى عروسة المسيح، جسدًا واحدًا مع ختنها.
ثالثًا، الخصب
قانون الخصب الذي ينطبق على الحياة الزوجية بشكل عام ينطبق على الكنيسة أيضًا.
المتزوج يعي أن النعمة الزوجية تتكلل بالخصب (على مختلف أنواعه). تشكل مريم رمز
الكنيسة، فالكنيسة يسبق تمثيلها من خلال مريم العذراء.
وإذ يقول افرام في مريم:
"مثلما دخل الموت في حشا أذن حواء وفاض، فكذلك من خلال أذن جديدة، أذن مريم دخلت
الحياة وفاضت" (أناشيد في الكنيسة 49، 7).
يتحدث عن الكنيسة فيقول:
"مباركة أنت أيتها الكنيسة، لأن أشعيا تهلل فيك في نبوءته "هوذا العذراء تحبل وتلد
ابنًا" سيكون اسمه رمزًا جبارًا. آه، لقد تحقق المعنى في الكنيسة! اتحد اسمان وصارا
واحدًا عمانوئيل، الله معك في كل الأزمنة لأنه وحدك بأعضائه" (أناشيد الميلاد 25،
5).
الكنيسة تحقق دعوتها، تحقق سرها الختني من خلال الخصب. الكنيسة، وكل عضو في الكنيسة
يضحي صورة العروسة الأمينة والخصبة من خلال الخصب الذي هو في جوهره خصب إنجاب
البشرية بأسرها إلى الحياة في صلب الثالوث.
´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´´
[1] نستعمل كلمة "خَتْن" وصِفة "خَتْنِيّة" للحديث عن البعد الزوجي أو العِرسيّ،
والذي يتم التعبير عنه في إطار التيار اللاهوتي الذي يشدد على محورية القراءة
الزوجية للسر المسيحي باسم "theologia
nuptialis". ونعطي الأفضلية لكلمة "ختن" لتماثلها مع كلمة "حَتْنُا"، التي يستعملها
التقليد اللاهوتي السرياني بشكل خاص للحديث عن المسيح العريس. |