مَن مِنّا
لا يقف مذهولا أمام موقف طرد المسيح للباعة في الهيكل وتطهيره من جميع صور التدنيس
التي مارسها الشعب آنذلك، إن كانت بيع أو شراء، أو صيرفة النقود. حيث قد نلتمس
للوهلة الأولى بأن قدوس الله ليس متواضعًا وحنونًا دائمًا وإنما قد يغضب ويكون
حازمًا وقد يتصرف بعدوانية أحيانا.
وربما بعد تأمل بسيط ومحاولة عيش اللحظة التي عاشها يسوع قد نتوصل إلى نتيجة بأننا
لا نرى أي جدوى اجتناها يسوع من عمله هذا، فهؤلاء الباعة عادوا إلى عملهم السابق،
والصرّافة زاولوا صيرفتهم للنقود تمامًا كالسابق، بل بالعكس اتهموا يسوع بأنه
إنسانا مخلول عقليًا، فهو قد شاهد هذا المنظر آلاف المرات دون أن يكون له أي رد فعل
مشابه لهذا.
لكل الأمر يدعونا لأن نتأمل أكثر وبتأني وإيمان لنستطيع فهم هذا العمل، وليس فقط
بالاستماع إلى هذه المقاطع من الإنجيل ومرور مر الكرام على هذه الكلمات، فسر علاقة
عظيمة تربط بين يسوع المسيح والله الآب في هذه اللحظة، ومحبة وغيرة لم نشهد قط
مثلها، فقد شهد المسيح مرارًا بأنه والآب واحد ومشيئته أن يعمل بمشيئه أبيه، لكن
هذه المرة كان له فعل وصدى مدوي أكثر من كلمات نطقها حتى إن كانت كلماته كلها أعمال
طبقها في حياته قبل أن ينطقها. وسرّ هذه العلاقة يهم حياتنا كمؤمنين لنجعل من عمل
المسيح التطهيري هذا مثالا يسطع بالنور على ما نحياها يوميًا في هيكل الله المقدس.
الرب يسوع منذ صغره كان مداوما على حضور الهيكل وسؤال والاستماع إلى المعلمين
والكهنة هناك، وكان له نفس الشعور بالانتماء البنوي لهذا البيت منذ صغره عندما قال
لأهله: "ألم تعلما انه ينبغي ان اكون فيما لأبي" (لو2: 49).
فلنتصور هذه اللحظة الجديدة التي عاشها يسوع وهو في الهيكل وكأنه رأى هذا المشهد
للمرة الأولى، باعة يسرحون ويمرحون بالهيكل وكأنه سوق تجاري، بل أسوأ من سوق، فقد
ضاعف الباعة ثمن كل شيء بطمعهم واستغلالهم لإيمان الشعب وهم في الهيكل لقناعتهم بأن
الشعب في حاجة ماسة إلى الذبائح لتقديم ما عليهم من فرائض، وبهذا ليس أمامهم سوى أن
ينقادوا ويشتروا من هؤلاء الباعة حتى إن كان الثمن باهضًا، أما الصرافة فهم ولجهل
الشعب القادم من البلدان الأخرى لغرض تأدية فرائضهم قد رفعوا من أسعار الصرف بجشعهم
اللامنتهي.
لكن سؤال يجول في خاطر المرء: ما هو موقف الكهنة والكتبة ومعلموا الناموس في هذا
الأمر، الذين واجبهم أن يحافظوا على طهارة هذا البيت؟
بالطبع زعماء الدين في الهيكل كانوا قد تجاهلوا تعاليم الكتاب ومعنى رموز العبادة
في الهيكل وصار همهم الأول أن يجمعوا الأموال لمنفعتهم الذاتية. وأدى هذا إلى
ابتعاد الناس عن عبادة الله والوقوع في صنيمات متعددة الأشكال. وكذلك آلت
الانحرافات في خدمة العبادة في هيكل القدس إلى خمود فكرة الرجاء المتمركزة على وعد
الله بقدوم المسيح إلى العالم وتنفيذه لبرنامج الله الخلاصي.
لم يقبل المتسلطون في الهيكل الدرس الهام الذي لقنهم إياه المسيح بل انتقدوه وطلبوا
منه أن يقوم بمعجزة تبهر الأنظار. فقالوا له بعد طرده للباعة من ساحة الهيكل: "أية
آية ترينا حتى تفعل هذا؟ أجاب يسوع وقال لهم: انقضوا هذا الهيكل وأنا أقيمه في
ثلاثة أيام. فقال اليهود: في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل، أفأنت في ثلاثة أيام
تقيمه؟ أما هو فكان يتكلم عن هيكل جسده. فلما قام من بين الأموات تذكر تلاميذه أنه
قال هذا فآمنوا بالكتاب وبالكلام الذي قاله يسوع."
كم من المؤسف أن هؤلاء القادة الدينين لم يتعلّموا الدرس الهام الذي لقّنهم إياه
الرب يسوع المسيح أي أهمية قداسة بيت الله وتسهيل أمور العبادة للذين كانوا قد
جاؤوا إلى الهيكل من قريب وبعيد. أظهر هؤلاء غلاظة قلوبهم عندما طلبوا من المسيح
القيام بمعجزة وكأن قوته وعظمته لم تظهرا في عمله التطهيري. فما كان من المسيح إلا
وأن قال لهم: "انقضوا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيام." لم يعن المسيح هيكل
القدس بل هيكل جسده. أشار المخلص في بدء سيرته التبشيرية همهم الوحيد منحصراً في
استثمار مناصبهم للتسلّط على شعب الله.
أما تلاميذ المسيح فقد ذهلوا أما معلم التواضع والمحبة والسلام وهو يصنع من حبال
سوط ليطرد به كل من يدنس بيت أبيه، البيت الذي خصه الله ليكون بيت صلاة لا غير، وقد
ردد الرب يسوع المسيح هذه النبوة بعد أن قام بعمله التطهيري وهي نبوة لاشعياء
النبي: "آتي بهم الى جبل قدسي وافرحهم في بيت صلاتي وتكون محرقاتهم
وذبائحهم مقبولة على مذبحي لان بيتي بيت الصلاة يدعى لكل الشعوب" (إشعياء56:
7). وما إن رأى تلاميذ المسيح عمل سيدهم في الهيكل حتى تذكروا كلمات المزمور التاسع
والستين حيث وردت هذه النبوة عن قدوم المسيح المخلص وعن شعوره تجاه بيت الله أو
هيكله المقدس: "لان غيرة بيتك اكلتني وتعييرات معيّريك وقعت عليّ"
(مز 69: 9).
لا شك أن موقف المسيح في تطهير الهيكل يرينا مدى شخصيته المتكاملة، التى تجمع
الفضائل كلها. فهو وإن كان وديعاً ومتواضع القلب إلا أنه حينما يلزم الأمر، يمكن أن
يكون حازماً جداً، يتصرَّف بقوة، كما حدث في ذلك اليوم.. كان الرب حازماً، بأسلوب
لم يتعودوه من قبل. وكان حزمه ممزوجاً بالتعليم. وهكذا نفذ ما يريد، بوضع الأمور في
وضعها السليم. كان لا بد من تطهير الهيكل بأية الطرق... فالهيكل هو بيت الله. وبيت
الله له قدسيته وهذه القدسية واجب ينبغى الحفاظ عليه.
والغيرة المقدسة تدعو إلى ذلك. وحسنٌ أن السيد المسيح أعطانا قدوة ومثالاً في هذا
الأمر.
في كل ما سبق هناك العديد من النقاط الاساسية على المؤمن أن ينطاع ويقتاد وراءها
ليعرف السبيل في تقويم من يراه معوجا وغير لائق في هيكل الله. لكن علينا إدراك
حقيقة هامة جدًا وهي أن هيكل الله في العهد القديم يرمز إلى بيت صلاة، أما في العهد
الجديد فقد تعدى هيكل الله هذا المفهوم إلى فكرة أن هيكل الله هو نفوسنا "أما
تعلمون انكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم" (1 كور3: 16). هؤلاء المخطئون في
الهيكل، صبر الرب عليهم زماناً، بكل هدوء. ولما لم ينصلحوا بالهدوء، استخدم معهم
الشدة. في إصلاح أي إنسان، الرب مستعد أن يستخدم الكلمة الطيبة، وهو مستعد أيضاً أن
يستخدم السوط، ولو للتخويف وليس للضرب. الأمران ممكنان. ولنا أن نختار الطريقة التي
تناسبنا. إن كنت حساساً سريع التأثر. قلبك يتبكَّت في داخلك من كلمة روحية تسمعها
أو تقرأها، من عظة، من لحن، من منظر، يقول لك الرب هذا يكفى. أما إن كنت لا تنتفع
من الكلمة الطيبة، فالسوط ممكن: المرض، التجارب، الحوادث، الضيقات... والوسائل
كثيرة. والرب يختار المناسب لك. كالطبيب يمكن أن يستخدم الأدوية. فإن لم تنفع،
يستخدم المشرط...
وكما نوهنا في البدء بأنه قد يتعارض البعض مع ما قام به المسيح بأن هذا لم ينفع
الهيكل، فقد عاود الباعة والصرافة عملهم كالسابق، لكن ما قام به الرب هو إنذار
بالخراب الآتي على هذا الهيكل، والهيكل الجديد هو الرب نفسه، ومن يقبل الرب في
حياته يكون هو هيكل الرب نفسه. وقد علم الرب نفسه بأن تطهيره لهذا الهيكل سيكون
وقتيا مالم يرجع الكل إلى الله وينفذوا وصاياه، فقد بكى على أورشليم وقال لها "ستأتى
أيام يحيط بك أعداؤك بمترسة، ويحدقون بك ويحاصرونك من كل جهة. ويهدمونك وبنيك فيكِ،
ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر، لأنكِ لم تعرفي زمان افتقادك (لو 19: 43-44).
من يقرأ هذه الأسطر ويؤمن بما عمله المسيح ويجعله مصدرًا للغيرة الحقيقية على هيكل
الله وتطهيره من كل دنس، عليه أن يطلب الرب بقوة في حياته ليطهر هيكله أولا، فنحن
أيضًا هياكل لله، وروح الله يسكن فينا، لنطلب من الرب أن يطهر هيكلنا، يقلب الموائد
التي فينا، قبل أن تقلبنا هي وتضيع أبديتنا، لا نترك قلبنا للرغبات والشهوات
والانفعالات فيصبح مثل سوق نُباع فيه ونُشترى.
إن السيد المسيح لم يقم فقط بتطهير الهيكل من الباعة، وإنما قام أيضاً بتطهيره من
القيادات الدينية العابثة به، إستكمالاً لهذا التطهير، وتمهيداً لنشر ملكوته الروحي. |