1 - في
الأزمان القديمة كان آباؤنا القديسون يأذنون لكل واحد بالسكن في الهدوء: الرجال
والنساء والصبيان والشيوخ، والحكماء والسذج. والذي يريد من الإخوة الرهبان أن يرضي
سيدنا بتدبير سيرة السكون الكريم، فليؤمن ويصدق مواعيد ربنا، ويحمّي نفسه (أي
يلهبها) بمحبة المسيح رجائنا، ويدخل للسكون على اتكال ورجاء نعمته، ولا يخاف من
شيء. وهوذا روح المزامير يعزيه ويشجعه قائلاً: لا تخف أيها المتوحد الجالس في
السكون على رجاء سيده، أورشليم الجبال محيطة بها والمسيح ربنا محيط بك؛ وأيضاً
عساكر ملائكة الرب محيطة بخائفيه وتخلِّصهم؛ لأن كل واحد منا معه ملاك لازق به،
يخلِّصه ويصلي عنه وينير عقله ويملأه أفهاماً روحانية ويعزيه في الخفاء.
2 -
المتوحد الذي يسكن في الهدوء وحده، ونعمة الرب محيطة به، وملاكه في كل حين يحرسه
ويعزيه ويسليه، من أي شيء يخاف؟ مبارك هو ربنا يسوع المسيح الذي وهبنا السكون!
وطوبى للمتوحد الذي يحبه ويثبت فيه، ويصبر على ضيقاته الأولى ويتنعم براحته
الأخيرة، ويجاهد في حروبه الأولى ويتكلل بأكاليله الأخيرة!
3 - الذين
هم غير دَربين ولا فاهمين للكتب ولا نيِّري الأفكار ولا حادِّي الحركات ولا لطيفين
(مدققين) بالمعرفة، بل سذاجة ما مختلطة بمزاجهم، وقلبهم بليد، وهم بُلهٌ في الكلام
والمعرفة، ويريدون أن يرضوا الله بتدبير سيرة السكون، لا ينبغي أن يخافوا من قتال
الشياطين، أو يرتعبوا من مجاذباتهم؛ لأن كل واحد حسب ما يقدر أن يحتمل وحسب ما هو
ملائم له، هكذا يجرَّب من قتال أفكار الشياطين وأشكالها، ولا ينطلق على إنسان قتال
فوق قوته ومعرفته ومنزلته. فإذا كان يملك في قلبه حب سيده، ويسكن في الهدوء، ويعبد
المسيح ويصنع مرضاته، فإن محبة الرب تحفظه وتستره من كل مجاذبات الشياطين، وتفرِّح
قلبه وتنير نفسه وتقويه حتى يكمل بجميع كمال البر.
4 – اعلم،
أيها المتوحد، أنه حين تجلس في قلايتك بغرض وقصد مستقيم من أجل الله، ولا تشتاق
لمحبة شيء آخر سوى التنعم بمحبة سيدنا وتكميل وصاياه، تُعطى لك قوة لحفظ بعض
الوصايا التي تشاء عملها، أما الوصايا الأخرى التي لا يمكنك عملها فإن أجرك عنها
محفوظ عند الله لأجل حزنك على قلة عملها، وعلى عدم اقتنائها. واعلم أنه وأنت في
قلايتك يمكنك أن تعمل الوصايا، وأما خارج القلاية فحتى ولا هذه الإرادة لمحبة
الفضيلة تثبت فيك، لأن المحادثات البشرية واضطراب الأعمال تشتِّتها. ومن أجل أن
الشيطان قاتلك بالضجر دفعة واحدة وغلبك وأخرجك من قلايتك كفاشل ومغلوب، فهو أيضاً
خارج القلاية يقهرك ويعوقك ويعطلك من كل عمل الصلاح، ويملأ قلبك بالشرور، وربما
يردك إلى العالم، إلى الهلاك الكلي.
5 - عندما
يجلس المتوحد في القلاية ويعمل بالوصايا، يصير عمله دواءً للعينين، فينقي عيني نفسه
من صدأ الآلام الذي يغشاها فتنفتح، وينظر بعين إيمانه ربنا شمس البر الأعظم، ويرى
الخيرات السمائية، ويتثبت بالرجاء يوماً بعد يوم، وبعمل الوصايا يقتني أيضاً الفرح
الروحاني.
6 - طوبى
للمتوحد الذي ضغطته الآلام وعذبته الشياطين ولم يشتَق إلى العزاء الذي من خارج.
طوباك يا ابني في ذلك اليوم الذي يدركك فيه الموت وأنت وحدك في قلايتك وتنتقل نفسك
مع ملاكك إلى الفردوس إلى جوار الملائكة وأرواح الصديقين.
7 - إن
أكلت خبزك وحدك في قلايتك، يعطيك الله موهبة ممدوحة: أن تأكل المسيح مع خبزك وتشربه
مع شربك بسكرٍ وفرح روحاني، وإن اشتهيت المائدة التي من خارج يعطيك الشيطان عطية
سمجة: أن تأكل أخاك مع خبزك بالمثلبة. فاحذر الآن وكن محترساً. كن وحدك واثبت في
السكون لكي تنجو من العثرات. صوت إلهي قال هذا: «يا أرساني اهرب من العالم فتحيا،
اهرب واصمت واستكن، فهذه هي الأصول كي لا يخطئ الإنسان». فلنحب الوحدة وهي تقدِّمنا
إلى عدم الخطأ. ولا نرعب أو نخاف من أسباب المؤذيات التي في هذا المسكن، لأننا لسنا
وحدنا بل معنا حارس ما يفوته شيء.
8 - طوبى
للإنسان الذي يقبض نفسه من الانحلال، ولا يميل لمجاذبات ومفاوضات الناس، فإنه يحس
بأشياء كثيرة لا يقدر أن يتعلمها من الدم (أي من إنسان). فالذي يشتهي الروحانيات هو
بالضرورة يهمل الجسدانيات. احذر من حياة الخلطة، لأنها معوِّقة لسائر أنواع التوبة.
فالمحادثة مع كثيرين تعوق الحزن الذي من أجل الله، ذلك الحزن الذي يتحرك فينا من
الإفراز الطبيعي ومن النعمة.
9 - سلِّم
ذاتك لجميع ما ينالك من الضيقات كإنسان وضع في نفسه أن ينزل إلى الهاوية حياً.
واختر لك موتاً مملوءاً ثقة وليس فيه خوف، لا حياة بشكوك وتقسُّم وراحة بجوار
الساقطين والمنحلين والذين قد انقطع رجاؤهم. واذكر أنه من أجل الاضطهاد والهرب من
الخطية والخسارة الكثيرة التي نالتك قد اخترت لنفسك الموت وليس من أجل البر. وفي
هذه الساعة يشهد الله وملائكته (لك) بنظرهِ ضيقاتك وشقاءك من أجل بغضتك الخطية
وجحودك لها، وبثقة تبسط يديك إليه من أجل غفران الخطية.
10 -
فليكن تدبير المتوحد متساوياً بوجود كل أعمال الفضيلة، كمقدار القراءة تكون الخدمة،
وكمقدار خدمة المزامير يكون ضرب المطانيات، وكالمطانيات يكون الصوم وسهر الليل،
ويقرن مع هذه جميعها العمل الخفي الذي للعقل، لئلا يكون الجسد يعمل والقلب سائب
بطال.
11 -
العمل الدائم ولو أنه قليل، فهو لأجل دوامه يربى كنوزاً عظيمة. وأنا أدلَّك على عمل
يتقدم فيه الإنسان بسهولة إذا ملَّ الجسد ولم يقدر أن يقوم ليكمِّل مطانيات العادة
من أجل ضعفه، ويتعطل عن الصلاة التي تكمل بالجسد، والتي منها تتولد الصلاة القلبية:
خُرّ على وجهك دفعات كثيرة واثبت في الصلاة وأنت جالس والكتاب بيدك، لكي تمتزج
مفاوضة القراءة مع الصلاة وتنير من الاثنين وترتفع لتنعُّم النفس، فتحلو لك الصلاة
لأجل القراءة، وتنير في القراءة بمفتاح الصلاة. لأنه بالصلاة ينفتح باب الأفهام،
والدهش بالأفهام يثير شهوة الصلاة حسب التاوريا التي فيها. وإن كان الجلوس في
القلاية فقط ببطالة من غير عمل، وحفظ الحيطان من أجل اسم المسيح، هو انتظار رجاء
عظيم، حسب قول أحد الآباء، فكم بالأكثر الذي يستعمل هذه الإفرازات في نفسه من أجل
ذِكر الله الدائم، إنه ينال أشياءً عظيمة.
12 - بدون
الصلاة والتضرع لا تمد قدميك للمسير، وبالأكثر في الطرق المظلمة. والطلبة لا تبطل
من فمك واتبعها بالاعتراف بضعفك وعدم معرفتك، لكي من أجل الاتضاع تُحمل بالرحمة ولو
لم تكن مستحقاً. لأن الاعتراف والاتضاع يكمِّلان موضع عوز العمل. فإذا لم يكن لنا
أعمال ينبغي أن نكون محزونين في ضميرنا ومداومين ذكر خطايانا بعقل منحط منسحق قدام
الله، وهادئين ومسالمين لكل الناس، ومنقبضين إلى ذواتنا بعدم الضحك والمزاح، ويكون
كلامنا بالصالح على كل أحد، مع الشكر على التجارب والصمت بحكمة وحفظ الأعضاء مرتبة،
وأن نتذكر في كل وقت أننا مائتون على كل حال ومنتقلون من هذا العالم. وهذه الأشياء
ما تطلب عملاً بالجسد، بل حُسْن الضمير، وهي غير مفتقرة لعمل الجسد، ولا بعمله
تُقام، فحتى في المرض والضعف يُستطاع اقتناؤها. فالمتهاون بها ولا يقتنيها بخفية
ضميره، كيف لا يُلام من الله العادل؟ لأن الله ليس محتاجاً لكثرة عمل، بل هو يريد
منا فضيلة الإرادة. طوبى للإنسان الذي يعرف ماذا يولد من محبة البشر، والرحمة إلى
أين تُصعد النفس.
13 –
اعلم، يا أخي، أن أفضل كل صلاح يفعله الإنسان في هذا العالم هو الصلاة الطاهرة. وإن
لم يمت الراهب من كل أحد، وينقبض في السكون إلى ذاته كالميت في القبر، فهو لا
يستطيع أن يقتني هذه (الصلاة الطاهرة). لأن الصلاة الطاهرة تتطلب فراغه من جميع
الأشياء، لكي يقوم قدام الله بعفة وبلا طياشة في وقت الصلاة، والفكر مجموع من كل
مكان ومنقبض إليه، وهو يشخص بالله فقط بسكون حركاته، ويكون متشوقاً لملاقاة معرفة
الله بمداومة صلاته إليه.
14 - إذا
ما ضعفت الآلام النفسانية وصمتت، فإن الإنسان يغلب الشهوات الجسدانية أيضا بسهولة.
15 -
الميتوتة الجسدانية هي أن يتغرب الإنسان من جميع معارفه ومن بلده وأقربائه، ويمضي
إلى أرض غريبة ويختار لنفسه موضعاً هادئاً مستكناً من كل شلش (أي اضطرب)، وبعوز
الاحتياج الجسداني يسكن وحده منقبضاً إلى قلبه وعادماً من جميع خلطة الناس ومن
المحادثات والتعزيات المنظورة، وبالنوح وبالبكاء وبوجع القلب يسأل الله
أن يطهره من الشركة مع الخطية ويقلع منه أعضاء الإنسان العتيق. وهذه الميتوتة
تولِّد لنا الميتوتة النفسانية.
16 -
والميتوتة النفسانية هي أن لا يشتاق الإنسان في قلبه لشيء من خيرات هذا العالم، ولا
لحياته الزائلة، ولا يتنعم بطياشة فكره في الشهوات الأرضية. بل يكون عقله على
الدوام متشوقاً متلهفاً بلا هدوء إلى الأمور المزمعة، وجميع هذيذه وضميره وأمل قلبه
في الأشياء التي ستكون للبشر بعد القيامة، ويهدس ويهذُّ في كل أوقاته بالحياة
الجديدة. فهذه هي الميتوتة بالحق للذي قد مات مع المسيح، وهي لا يمكن أن تكون بدون
فعل النعمة ومعونة الروح القدس. والميتوتة التي تكون هكذا، هي تولد لنا الميتوته
الروحية.
17 -
التنعم الروحاني الذي يكون من العمل لا يُحسب مع الفضيلة، لأنه سيد الفضيلة. لأن
الفضيلة هي كل عمل يكون في الظاهر، ويكمل بحواس الجسد من أجل الله.
18-
والمتوحد ليس له عيد في الأرض، لأن عيده هو النوح. وعوض الأعمال التي يفتخر بها
الآخرون بالانشراح بعضهم مع بعض، هذا عزاؤه هو شقاؤه في السكون.
19- ألعلك
تظن يا أخي أن عدم المفاوضة والنوح وحزن القلب والتمرغ في كل وقت بضرب المطانيات
قدام الله لا يحسب عملاً، بل تقول إن الصوم وكثرة التلاوة هي العمل؟ أما تثق أن عمل
القلب والتجلد في الوحدة هو غاية العمل؟ وأنه سعيد وقريب من الله ذاك الذي يصبر على
صعوبة الوحدة جميع حياته، ولو أنه يأكل كل يوم وينام، ولو تنهد على ذاته دفعة واحدة
كل يوم بحزن وهو ملقى قدام الله؟ في الحقيقة إن عمل مائة أخ يصومون ويصلون وهم في
السجس والمفاوضة، ما يساوي عمل متوحد واحد في السكون ولو كان ضعيفاً، على أن يكون
عادماً محادثة الناس ومتجلداً داخل الباب، وليس من يدخل إليه ويخرج. ولست أعني
بقولي هذا الذين يمسكون السكون بالاسم ولهم من يدخل إليهم ويخرج كل يوم، بل الذين
يسدُّون بابهم ولا يفتحونه من يوم الأحد إلى يوم الأحد، وليس لهم حديث ولا مفاوضة
مع أحدٍ، ولا يصادقون إنساناً. وإن كان هناك أخ كفؤ لهذه النعمة، وقد أخذ هذه
الموهبة من الله، ولكن أحداً من رؤساء ومدبري أديرة الإخوة - من أجل نياح ما أو عمل
جسداني، أو من أجل حسد - يعوقه عن هذه الموهبة، فعليه دينونة قدام الله وهو مزمع أن
يعطي الجواب قدام كرسي المسيح.
20- لا
تحب أن تُعتق من عبودية السنن والقوانين في سيرتك، إلى أن يكتب الروح حريتك من
العبودية، وتحس به أنه قد كتب ذلك على عقلك بلا تقسُّم (أي بلا شك).
21 - إذا
قمت في الخدمة بحَرس نفسك وجسدك - تلك التي فيها ربوات كنوز مخفية للذين يصلُّون
بإفراز - فاسأل الله أولاً خفية في قلبك أن يفتح قدامك ينبوع الحياة الذي من عادته
أن يفيض في هذه الأوقات على الأنفس التي جحدت العالم الزائل، والذي به تنظر كل وقت
ميتوتة يسوع على أعضائها الخفية. ثم رتل بهدوء بغرض الصلاة، ولا تعتنِ بكثرة
المزامير، بل أن يُعطى لك مفتاحاً، ولو كان لفظاً واحداً لكي تدخل إلى كنز تفهّمه
الروحاني، الذي ينفتح لك بنعمة الروح القدس. وإذا ما سجدت عند بدء الصلاة، فاسأل
الله بوجع قلب أن يعطيك فيها صبراً، وألا يحصل لك فيها قتال سجس، قائلاً: «أعطني
يارب حركات نيِّرة شاخصة فيك بجميع هذه الخدمة بكل لفظة تخرج من فمي». وإذا ما دقَّ
فكرك وتلطَّف([1])
من غِلظ الهذيذ، وبدأ يصادف النور، فمن هنا افهم أنك بسهولة تقبل دهش الكلام، إن
كان تلاوة أو كتابة، وللوقت يتحرك القلب بالفرح ويسكت اللسان. ولا تطلب دليلاً آخر
على ظلام نفسك سوى عدمك من هذا السرور الذي ذكرته.
22- يا
أخي أحبب الوحدة، ولو كنت عاجزاً عن جميع حقوقها. صلاة واحدة يصلي بها الإنسان وحده
هي أخير من مائة صلاة يصنعها مع الناس. وبالحق إن عمل مائة يوم صوم وصلاة يصنعها
المتوحد بسجس ومفاوضة، لا توازن نوم ليلة واحدة في الوحدة!
23- داوم
أن تقول في صلاتك: «يا الله، جُد عليَّ بنوح القلب، يا رب استأصل مفاوضات العالم من
قلبي». هذه الصلاة تُدخلك في أسرار المسيح إن اعتنيت بتفسيرها في نفسك.
24- بدون
السكون ما يتضع القلب، وبدون اتضاع القلب ما يتنقى من الحركات المتواترة.
25- إذا
ما جلست بين صلوات الأوقات لكي تفاوض ذهنك بالهذيذ بالله، افتكر أيضاً ماذا كنت
ولأي رجاء دُعيت من قِبل فيض مراحم الله. واجعل لك فسحة بين صلاة الليل وصلاة باكر
(تخصصها) لمثل هذا الهذيذ الذي يصلح لتربيتك بمعرفة الله في كل أيام حياتك؛ لأن هذا
أيضاً هو جزء كبير في عمل السهر. قسِّم الأوقات النهارية، منها (وقت) للخدمة ومنها
وقت للهذيذ، وإن وجدت فسحة تكفي فلنقاوة الحركات. وإن كان العقل مظلماً زِدْ من
القراءة التي توافق في ذلك الوقت؛ لأنه من ههنا يكون ينبوع النقاوة الذي تفيض منه
مياه طاهرة. فإذا ما اتحد الهذيذ بالصلاة بنقاوة، عند ذلك تكمل كلمة السيد: «إنه
حيث يكون اثنان أو ثلاثة مجتمعين باسمي فأنا أكون في وسطهم»: أعني النفس والجسد
والروح، أو العقل والهذيذ والصلاة، وينتهي أمر ثلاثتهم إلى الدهش.
26- إلى
أن يتضع الإنسان ما تدنو منه المعونة الإلهية؛ لأن نعمة الله قائمة عن بعد، وتنتظر
إلى الإنسان على الدوام في وقت الصلاة، فإذا ما تحرك فيه فكر اتضاع، ففي الحال تدنو
منه النعمة ومعها ربوات من المعونات. وهذه تُعطى في وقت الصلاة أكثر من بقية
الأوقات، ولهذا يقيم الشيطان مع الإنسان قتالاً فيها (أي في الصلاة) حتى لا يدنو من
الله بأفكاره.
27 - بقطع
الرجاء في حياة الجسد ورفض جميع مفاوضاته، يلقى (أو يجد) الإنسان بسهولة قنية النفس
التي تفوق حواس الجسد. فإذا كان الضمير ثابتاً في رجائه، ولو أن الجسد قد يضعف، فإن
النفس ما تنغلب ولا ينقص غناها. البكاء الدائم هو إذا ما ضعف الضمير وانحطَّ الجسد
وتخلف عن العمل.
28-
الصلاة الطاهرة هي أن لا يطيش العقل في الأشياء التي تحركها الشياطين بالأفكار، أو
التي تحركها الطبيعة من التذكارات، أو التي تكون من تحريك المزاج. والصلاة التي لا
تتبعها تدابير حسنة هي نسر قد انتُتفت أجنحته.
29- لو أن
إنساناً وصل إلى عرش اللاهوت بالاستعلانات ثم تهاون بالمزامير، فانه يسلَّم في يد
الشياطين؛ لأن حد العظمة يبدأ فيه من هنا، كما لو كان قد ارتفع عن رتبة الذين
يستعملون المزامير.
30- ليس
إنسان محبوباً عند الله، ويُعطى سؤله سريعاً، كمثل الإنسان الذي يطلب من أجل زلاته
وغفرانها، ويطلب قوة ومعونة لتقويم طريقه. فبهذا النوع يبطل الدينونة التي عليها،
وحتى لو كانت خطاياه صعبة فهو بغير شك يأخذ سؤله.
31 - الذي
هو كامل في القامة وفيه اشتياق إلى الله، هذا بعد خروجه من العالم لا ينبغي أن يقيم
كثيراً في المجمع، بل إذا ما تعلم ترتيب وتصرف الإخوة وطقس هذا الإسكيم ونوع
تواضعه، يفرز نفسه في قلايته منفرداً لئلا يقتني عادة الخلطة مع كثيرين، ما خلا
مفاوضة شيخ واحد مشهود له بحسن السيرة ومعرفة عمل السكون، ومعه فقط يتحدث لكي يتعلم
تدبير الوحدة، ولا يتفاوض أبداً مع أي إنسان آخر.
32- ليس
أن الإنسان إن لم يتطهر بالكمال لا يحس بالخيرات الروحانية وبدلائل الحياة الجديدة،
بل إنه يوماً بعد يوم، حسبما يقهر الآلام، يرى إشارات الطهارة، وكل ألم يغلبه يشرق
الصلاح الموضوع قباله في الحال، وبمقدار ما يتطهر من الخطايا هكذا ينعتق الضمير من
رباطات التفكير فيها، وعلى هذا الحد يشرق شعاع المعرفة في قلبه. وطهارة النفس هي
التعري من الاهتمامات الجسدانية ومن الهذيذ بالأفكار اللحمية.
33- الذين
هم بطبيعتهم ودعاء وهادئون وذوو حركات نيِّرة مفرزة، معلوم أنه سهل عليهم (انسكاب)
الدموع؛ لأنه حيث يوجد تواضع القلب بإفراز، لا يقدر الإنسان أن يمسك نفسه عن
الدموع، فمن غير أن يريد يفيضها القلب على الدوام من الحزن الحار وانكسار القلب
الذي فيه.
34- هذه
الأنواع الثلاثة يقتنيها الإنسان من السكون: حب الله، الدهش بأسراره، وتواضع القلب.
وليس حزن أحرّ من حب الله. يا رب أهلني أن أشرب من هذا الينبوع. ولكن الذي ما له
سكون فهو ما يعرف ولا واحدة من هذه الثلاثة أنواع، ولو كانت له فضائل كثيرة، فلا حب
الله يقدر أن يعرف ما هو، ولا معرفة الروح ما هي، ولا التواضع الحقيقي الذي من
القلب. وأنا أشهد لكم بالحق أنكم إن كنتم عادمين من السكون، ولو أنكم بكل أعمال
الرهبنة تتعلقون بجفون عيونكم، فما تقدرون أن تؤهَّلوا للاقتراب من هذه الأسرار
التي تُعطى للعمالين في السكون.
35- لا
تحسب أن الثبات الكثير في السجود قدام الله هو بطالة، لأنه ليس شيء أفضل منه في
جميع الفضائل لأن به يُقتنى تواضع الجسد والعقل، وبه يكون تبطيل الآلام الردية وقطع
الشهوات، وبه يوجد استعداد النفس إلى الخروج من الجسد بالسر، واشتياق كثير لحب
الله، وكل الخيرات الحاضرة والمزمعة، وهو حد سائر الأعمال وحابس جميع الوصايا وكمال
كل الفضائل.
36- عمل
القراءة هو أيضاً مرتفع جداً، لأنه هو الباب الذي به يدخل الذهن إلى الأسرار
الإلهية، ويأخذ قوة حسب نقاوة الصلاة، ومنه أيضاً يتقوى الهذيذ الذي هو مبدأ هذه
السيرة. وبدون القراءة لا يمكن للذهن أن يدنو من الله؛ لأنها ترفع العقل وتقيمه عند
الله كل وقت، وليس عمل يأتي به الإنسان إلى قدام مثله، هذا إذا كانت قراءته من أجل
الحق.
37- عمل
الجسد مع بَطالة العقل لا منفعة فيه. لأنها صادقة هي كلمة القديس مرقس: «إن كثيرين
يعملون البر، وبالأفكار الرديئة يُفسدون أعمالهم الحسنة». وعلى كل حال، الذي ضميره
بطَّال من العمل الخفي المكتوم، ومن المداومة بهمِّ المعرفة والهذيذ، فأفكاره منحلة
في الأباطيل. لأنه بعمل العقل يستضيء (الضمير)، حتى لو كان الجسد بلا عمل أو مريضاً
جداً. لأن عمل العقل يُيَبِّس الجسد ويُنشِّفه ويجعله مثل العود اليابس.
38 - الذي
ما يقبل، في وقت الخدمة، قتال الثقل والملل والكسل، وبقية أحزان القلاية، ويصبر على
مقاساتها بفرح، كمثل أنها عمل تام لله، بل يريد الراحة منها بالكمال، فهو من غير أن
يشاء يُسلَّم ليد شيطان الزنا، وعوض ذبيحة جسده الطاهرة التي كان من عادته أن
يقدمها لله، فإنه يذبح للشيطان ذبيحة نجسة من أعضائه.
39- صدقني
يا أخي، إن الملل والضجر وثقل الأعضاء والتكدر وسجس العقل، وبقية المحزنات الحادثة
على النساك في جلوس السكون، هي عمل تام لله. ولا تظن أن الاستضاءة في الخدمة ونقاوة
الضمير والتنعم بسرور القلب والعزاء الذي من الدموع الحلوة والمفاوضة النقية مع
الله، لا تظن أن هذه فقط عمل إلهي. بالحق وحسب رأيي أقول: إنه حتى أفكار التجديف
والمجد الفارغ وحركات الزنا السمجة التي تحدث باضطرار على المتوحد في السكون، وحزنه
من أجلها، ولو أنه يوجد مغلوباً قدامها، ويصبر ويتجلد، ولا يخرج من قلايته، فهذه
أيضاً تُحسب له كمثل ذبيحة طاهرة وعمل إلهي مقدس، ما خلا العظمة والكبرياء فقط.
لأنه تجلَّد في جهاد الرب، وصبر على اليمينيات واليساريات العارضة عليه داخل
المصاف، إذا لم يكن حدوثها بسبب انحلاله وإهماله، بل تتواتر عليه بنوع القتال فقط،
هذا إن لم يُغلب ويخرج من المصاف، الذي هو الجلوس الانفرادي في القلاية.
40- لأن
الذي يشتهي الحبس والسكون، ويفرد نفسه من مجمع الإخوة، ينبغي له أن يكون هذا غرضه
وقصده: أن يقتني بسكون الجسد سكون النفس، ويجتهد أن يقتني البكاء على خطاياه
القديمة، والنوح على زلاته في كل يوم، وهذا ما قاله أولئك السواح للقديس مقاريوس:
«إن لم تستطع أن تكون مثلنا، فاجلس في قلايتك وابكِ علي خطاياك». ولأجل تجربة حروب
الشياطين، قال أنبا أنطونيوس لبولا الساذج تلميذه: «اجلس في السكون لتأخذ تجربة
حروب الشياطين». كما قال يوحنا النبي التبايسي: «إنه لا يمكن للإنسان أن ينظر نفسه
ويفهم آلامه من غير تدبير السكون». كذلك قال أنبا مقاريوس: «ينبغي للذي يجلس في
السكون مداومة تذكار الله، ونسيان كل ذكر، وأن لا يكون عنده ذكر لأي إنسان في
قلايته». وقال يوحنا التبايسي أيضاً عن الجهاد مقابل الآلام والشياطين: «إن الحكمة
الروحانية هي عضو عظيم لإنسان الله. ولا تُقتنى هذه الحكمة بدون تجارب المصاف (أي
الجهاد)». وقال العظيم في العارفين أوغريس: «إذا ما جلس الإنسان في السكون، وصبر
على القتال والتجارب نال طهارة القلب. وهذه تُقتنى بعدم جميع أفهام المنظورات».
وقال الأب إشعياء ذو الشيبة المباركة عن سكون العقل: «إن السكون يولِّد السكون».
وقال الأب مرقس: «الصلاة الطاهرة (تُقتنى) إن أخذتَ موضعاً حصيناً للصلاة (أي
السكون)». فلا تقبل معرفة الأفعال التي تُعطى لك من العدو، لئلا تُضيِّع تلك النعمة
العظيمة. بل ينبغي أن تطعنه بسهام الصلاة، وهو محبوس في الموضع السفلي بالسكون،
لأنه يتحايل أن يجلب لك غنيمة (من المعرفة) لكي يبعدك من التدرع قباله.
41- وقد
أظهر القديس مرقس أيضاً عظم العطايا التي يحظى بها المتوحد يوماً بعد يوم، إن هو
ثبت في السكون، وقال: «الآن لنبدأ بالعمل». وما هو هذا العمل؟ هو السكون وهدم
الأفكار والصلاة بغير فتور، وهكذا يأتي إلى قدام. وهو لا يجد رجاءً بالله فقط، بل
وإيماناً حقيقياً وحباً لا غش فيه. ويقتني محبة الإخوة، وعدم تذكار الشرور، ونسكاً
وصبراً ومعرفة داخلية وخلاصاً من التجارب، ومواهب روحية وشكراً قلبياً ودموعاً
محزنة، واحتمالاً للضيقات العارضة وغفراناً لقريبنا بغير غش، ومعرفة الشرع الروحاني
ووجود عدالة الله وحلول الروح القدس وعطايا الكنوز الروحانية. هذه جميعها بواسطة
السكون والصلاة يجود بها الله على المتوحدين. ومن أجل اقتنائها يشتهي الإنسان
السكون.
42- إن لم
يقطع الإنسان نفسه من كل تذكار ومن كل اهتمام، ويبتعد من كل محادثة، ويداوم السكون
بغرض مستقيم وبمحبة الأعمال، فإنه لا لخطاياه القديمة يذكر، ولا لزلاته في كل يوم
ينظر، ولا لآلامه يفطن، ولا لمجاذبات الشياطين يفهم، ولا للجهاد مقابل الآلام
والشياطين يستعد، ولا لنقاوة القلب يصل، ولا الصلاة الطاهرة يقتني ولا الصلاة
الروحانية يستحق، ولا لنور العقل المقدس ينظر في ذاته، ولا نور مجد المسيح باستعلان
الروح القدس يشرق داخل نفسه. هذه جميعها خارجاً عن السكون ما تُعطى لأحد. أما الذين
يصبرون على ضيقات السكون ويدومون فيه، فإنهم ينالونها جميعها. وإن كان أناس يخرجون
من هذا العالم وما ينالونها ههنا - لئلا يتعظموا، أو من أجل أسباب أخرى مخفية عن
علمنا - فإنهم في ملكوت السماء يتنعمون بهذه جميعها من أجل حبهم لسيدنا وصبرهم على
السكون لأجل محبته.
43-والذين
يتجلَّدون (في السكون) يبلغون إلى طهارة القلب والصلاة الطاهرة، ولأجل أسباب خفية
لا تُعطى لهم الصلاة الروحانية، ولا يؤهلون لاستعلان المسيح. ولهذا حذَّر الآباء
أنه، من دون مرض أو ضرورة ما، لا يتكلم المتوحد مع أي إنسان. لأنه إن لم يقبض حواس
الجسد وبالأكثر نظره وسمعه ولسانه، فهو ما يجد سكوناً لنفسه. لأن العقل ما يهدأ
بدون الجسد، كما قال القديس مرقس. ولهذا ينبغي أن نتجرَّد من النظر والسمع مع باقي
الحواس، كما قال يوحنا التبايسي. لأن المتوحد المبتدئ إن لم يعوِّد نفسه أن يُسكت
حواس جسده، بل يتكلم بلسانه مع الإخوة أو مع خادمه، وينظرهم بعينيه ويسمع بأذنيه
كلامهم، فما هي الفائدة من الحبس؟ أو كيف يذوق حلاوة السكون إن لم يسبق ويذوق
مرارته؟ وكيف يذوق هذا إن لم يؤلمه الضجر؟ وكيف يُقاتَل بالضجر إن كان يدخل خادمه
إليه، أو يتكلم معه من الطاقة، أو مع الذين يطلبون أن ينظروه؟ فلا قتال صعوبة
الشهوة، ولا تخويف الليل، يتمكنان منه أيضاً. لأن كل إنسان حسب مقدار سكونه وحبسه
وتحفُّظه، كذلك تكون حروبه وعطاياه.
44- ولما
نظر الآباء تضاعف الوجوه (أي اختلاف القدرات)، أذنوا لكل إنسان أن يتدبَّر حسب قوته
وحسب معرفته وحسب حرارته وحسب معونته من النعمة، على أن يكون حبيساً ساكتاً. لأنه
من دون السكون والوحدة لا يستحق أن يُدعى وحيداً مع ابن الله الذي أهَّله بالنعمة
لكرامة اسمه. ذاك الذي ليلاً ونهاراً، بحزن ودموع، يسأل الله أن يغفر له خطاياه
ويجود عليه بقوة الروح القدس، لكي يكمل حبه ويحفظ وصاياه. وإن كان ما استحق بعد
لدموع النعمة، ومفتقراً أيضاً إلى دموع ندم النفس، فإن حزن قلبه وندامة نفسه يقومان
له موضع الدموع. فلا يهدأ ولا يبطل من السكون والصلاة والطلبة حتى يحس خفياً بيقين
الرجاء، أنه قد غُفرت له خطاياه، واشتعلت نار محبة المسيح في قلبه، وأخذ قوة لتكميل
وصاياه، وتشجَّع على الآلام، وهدأت أفكاره، وخجلت المجاذبات، وشبع من نظر وجه سيده.
هذا هو المتوحد، وهذا هو القصد من الوحدة.
45-
فضيلتان تحبسان وتجمعان كل الفضائل، ومنهما تقوم وتكمل كل سيرة العقل، ومنهما يقتني
الإنسان طهارة العقل، وهما اللتان يحتاج إليهما ترتيب سيرة السكون، وهما: الصلاة
بلا فتور ولا طياشة، وهدم لمح أفكار الآلام ومجاذبات الشياطين حالما تظهر ويحس أنها
قد تحركت في القلب. هاتان الفضيلتان وهذان العملان اللذان بهما تنجمع وتنحصر سائر
أعمال الفكر وفضائل النفس جميعها، تولّدان موهبتين وعطيتين روحانيتين، محدودة بهما
جميع المواهب الإلهية، ومحصورة فيهما جميع عطايا الروح؛ لأنهما لا يُعملان بالجسد،
ولا يُفلَّحان بالنفس، بل إنما يحظى بهما الإنسان إنعاماً بقوة الروح القدس، وهما:
حركة روحانية تحرِّك بلا فتور حركات النفس بحرارة حب الله الكامل، ونظرة نور مجد
ربنا يسوع المسيح باستعلان الروح القدس.
46- إن
كنت، يا أخي، تحب تدبير السكون، وينير عقلك وتتلطف حركات نفسك وتدق لتتفرس في حركات
الآلام المنتبهة فيك من تذكار خطاياك القديمة، ولترصد ما يأتى عليك من مجاذبات
الشياطين التي تُسمى أفكاراً شيطانية، حسب قول الأب إشعياء ومار أوغريس، تلك التي
ليس لها عليك سلطان، إلا لكي تذكِّرك بالخطية وتخضِعك بمجاذباتها للتنازل معها، إما
بذكر امرأة بسماجة الشهوة، أو بتذكر أخاً أحزنك، مع بقية الآلام؛ فتعلَّم كيف يكون
القتال والجهاد معهم؛ لأنه ليس في سائر المعارف كمثل أن يفهم الإنسان آلامه ويقاتل
معها ويستعبدها لسيادة إرادته. فمن هذا المصاف يقتني الإنسان سريعاً نقاوة القلب
وينظر الله.
47- اقرأ
وافهم واعرف ما هي طهارة العقل، ومما تُقتنى، وما هي الآلام، وما الذي يولد منها،
وبأي أعمال وبأي جهاد يغلبها الإنسان؛ لكي تقهر كل قتال في وقته، إلى أن يُعطى لك
الإفراز الروحاني، الذي به تقدر أن تفرز بدقة، بلا ضلالة، مجاذبات الشياطين من
أفكار الآلام. واعلم أنه ما دمت متيقظاً حريصاً في صلواتك، ومجتهداً في تكميل
قوانينك في السكون بلا طياشة، إن تحرَّكت فيك الأفكار الرديئة، فاعرف بالحقيقة أنها
ليست هي أفكار آلامك، بل هي مجاذبات الشياطين. لأن أفكار الآلام التي من العادات
القديمة لا تتحرك في الإنسان طالما كان متيقظاً في عمله الروحاني، وإن هي تحركت
فسرعان ما تضمحل لأجل حرصه في عمله وبغضته لها. أما مجاذبات أفكار الشياطين، فإذا
كان الإنسان متيقظاً مجتهداً في عمل البر، وخدمة المزامير، وصلاة أبانا السمائي،
وكلام التلاوة التي يرتبها من ذاته ويصلي بها بغير فتور إن أكل أو شرب أو جلس أو
مشى، هذه الأعمال والصلوات تحرك الشياطين بالحسد عليه: لأنهم يخافون لئلا يقتني
قبالتهم سلاحاً، ولأجل هذا فهم على الدوام يُظهِرون له مجاذباتهم متواتراً،
ويحرِّكون فيه الأفكار، لعله يميل إليها ويتهاون بعمله. لأن هذه الثلاثة أشياء التي
هي: خدمة المزامير، وصلاة أبانا السمائي، وصلاة التلاوة التي يركِّبها الإنسان
ويطلب بها الرحمة والعون والخلاص، هذه الثلاثة أنواع من الصلاة هي كمثل ثلاثة سهام
تطعن الشياطين وتقتلهم. أما إذا كنت طائشاً بالأفكار، ومتهاوناً في تكميل خدمة
الأوقات وقوانين السكون، فإن أفكار الآلام تتحرك في قلبك وتضغطك أكثر من مجاذبات
الشياطين.
48- ومع
معرفة الآلام والجهاد مع مجاذبات الشياطين وهدم أفكار الخطية، واعتنائك بنقاوة
القلب وحرارة الضمير، تعلَّم بالأكثر، بمحبة زائدة وأعمال مفرزة بالعقل، الصلاة
التي بلا فتور ولا طياشة، لأن بها محدودة كل سيرة العقل التي تطلبها شريعة السكون،
التي هي كما قلنا: الصلاة التي بلا فتور وهدم الأفكار. فلا ينبغي أن يتنعم الإنسان
أبداً بإرادته، بانحلاله وتنازله مع الخطية بأفكاره، ولو كان من اضطرار الجهاد
وصعوبة العناد، بل يقتني للخطية بغضة شديدة، لكي يحلو له تدبير السكون، ولا يتعبه
الضجر.
49- وإن
كنت تقتني هذين الأمرين، أعني الصلاة التي بلا فتور ولا طياشة وطهارة الأفكار، فأنت
تحظى بجميع سيرة العقل. ولكن أولاً أَتْعِب جسدك ونفسك وقتاً معلوماً بالصلوات التي
بلا فتور، ولو أن يطيش فكرك، فبعد هذا تؤهَّل للصلاة التي بلا طياشة. لأنه إن لم
تتعب جسدك حسب قوتك، وتفني نفسك كل وقت وفي كل مكان وكل فعل وحال، ولو أن فكرك يطيش
لأنك بعد مبتدئٌ، فلن تُعطى لك الصلاة التي بلا طياشة. وإن لم تعوِّد نفسك أن تهدم
أفكار الآلام والشياطين، فلن يُعطى لك جمع العقل من الأفكار الطائشة. لأن بهاتين
الفضيلتين (أي الصلاة بلا فتور وطهارة الأفكار) ينحصر ويُحدُّ جميع تدبير الضمير،
وهما مرتبطتان الواحدة بالأخرى ومركبتان ومتحدتان معاً. وكما أن طبع الجسد شيء،
وطبيعة النفس شيء آخر، ولأجل اتحادهما معاً صارا طبيعة واحدة، ومن دون اتحادهما لا
يكمل لهما فعل؛ هكذا أيضاً، إذ الصلاة شيء وطهارة الأفكار شيء آخر، ولأجل اتحادهما
واشتراكهما هما الاثنين، يقام منهما تدبير (واحد) يسميه آباؤنا سيرة العقل، فإن كل
واحدة منهما محتاجة لتكميل الأخرى، حسب قول القديس مرقس: «إن النية الصالحة بالصلاة
توجد، هكذا أيضاً الصلاة بالنية الطاهرة توجد».
50- عوِّد
نفسك واغصب ذاتك لجمع أفكارك في خدمة المزامير، وبالأكثر في الليل، لكي يأخذ عقلك
حس وفرح الروح المكنوز في المزامير؛ فإن أُهِّلت لهذا، فلن تشبع من السكن في
الهدوء. واعلم أن الذي يتعب بأعمال الجسد فقط داخل الحبس، وهو لا يعمل بالضمير، بل
يطيش ويطمح فهو يتهاون أوقاتاً. وأما الذي مع عمل الجسد يعمل بالفكر أيضاً، فهو لا
يقدر أن يتهاون؛ لأن عمل قلبه ما يتركه يستريح. فلهذا عظيم هو عمل العقل وتَعِبٌ
جداً ومديد، وحسب عظم عمله هكذا أيضاً كثرة منافعه.
51- إن
اخترت عمل الجسد والعقل، فلا تتضجر ولا تزد على عمل العقل أعمالاً جسدانية فوق قوتك
ومبدأ منزلتك. بل قليلاً قليلاً ادخل وغص في تدبير العقل، وهو يكون لك معلِّماً
ومرشداً في كيف تحترس من الموافقة في قلبك مع الأفكار الشيطانية. هوذا أبوك الأب
إشعياء، لكي يعلمك ويشجعك ويجذبك لعمل العقل، يقول لك: «أنت يا ابني، اهرب من أهوية
قلبك، هذه التي تقيم عليك القتال، وربنا يكسر جميع أعدائك». ومعنى قوله إنه إذا كنت
في السكون، وأنت خال من الطياشة في الأفعال، وعادم من مفاوضة الناس، ومتفاوض مع
سيدك بعمل وصاياه، تغار منك الشياطين بحسدها، وتجذبك للتنازل في الشهوات، لكي
تخيِّبك من حب سيدك، ومن العزاء الروحاني، ومن الأجر لأجل سكونك وعملك. فاصنع هكذا
مثلما أقول لك: كل وقت تحرك الشياطين فيك فكراً ما، إن كان شهوانياً أو غضبياً أو
مجداً باطلاً، أو مهما كان من الآلام، فلا توافقهم ولا تتنازل معهم، ولا تتركهم
يدخلون قلبك وينعِّمونه، بل اذكر عاجلاً ذلك التنعم المحفوظ لك عند الرب، وانتهر
تلك اللذة الألمية، وأغمض عيني فكرك عن النظر في ذلك الفكر الردئ الشيطاني، ولو أن
لذة الخطية تجذبك، أغصب نفسك لكي تهرب منها وتنتقل بحبك إلى سيدنا وتسأله أن يمدك
بالمعونة لكي تغلب. فإذا نظر الله إرادتك، إنك حتى ولا بالفكر تحب أن تتنعم
بالخطية، وهذا لأجل التنعم بمحبته، ففي الحال يشير للملاك القديس التابع لك، فيطرد
الشياطين المقاتلة معك بمجاذباتها، كمثل الغبار من قدام الريح العاصف. ولهذا قال لك
أنبا إشعياء: اهرب وفِر من مشيئات قلبك. أعني أنت فقط اغصب نفسك قليلاً، وأظهر
للشياطين بغضتك لمجاذباتهم، ومحبتك لسيدنا، وهو يطرد عنك الشياطين، ويقطع مجاذباتهم
من قلبك، وينير ضميرك، ويملأ نفسك أمناً وسلاماً وعزاءً من النعمة.
52- لا
تخف أيها المتوحد محب السكون، والمقاتل حتى الدم في جهاد البر مع الخطية لأجل محبة
سيده. ليس يبطئ كثيراً زمن جهادك، بل بعد مدة من السنين معروفة، إذا ما اختُبرت
إرادتك الصالحة وحبك الصادق للرب بالصبر في الجهاد والقتال مع أعدائه، فمنذ ذلك
الوقت، ليس كل وقت تقاتل معك الشياطين يمدك بالمعونة لكي تغلب، بل إنه إذا انقضى
زمان جهادك يطرد عنك الشياطين كلية ويقطع من قلبك جميع مجاذباتهم. وعوض تلك الأفكار
الكثيرة التي كانت تتحرك فيك، تمتلئ نفسك أفهاماً روحانية، ويبتهج ضميرك كل وقت
بأفكار إلهية، التي هى: الهمُّ بعظمة الطبع الإلهي، الهذيذ بالثالوث المقدس، تذكار
دائم لا ينقطع بعشق محبة المسيح ونور مجده الإلهي الساكن فيه في السماء، الهذيذ
برتب الملائكة الممجدة، ذِكر الفردوس وأرواح الصديقين الذين كملوا، استعلان ربنا من
السماء، صعود القديسين إلى السماء، وأشياء كثيرة لا يسهل علينا كتابتها ولا النطق
بها. فبهذه الأفهام الروحانية يتحرك عقل المتوحد كل وقت بتنعم لا يُنطق به، ويأخذ
هذه المكافأة بعد مدة جهاده، كعربون ههنا، عوض كثرة تلك الأفكار الردية الشيطانية
التي كان يتضايق بها أولاً في القتال.
53- والآن
يا أخي، إن كنتَ مشتاقاً لهذه (الأفهام الروحانية)، ولنقاوة القلب التي بها ينظر
الإنسان الله، أَعِدَّ نفسك للجهاد مع الآلام والشياطين، ولا تتضجر إذا ما ضُربت
ونالتك الجراح في وجهك كل مدة مجاهدتك، ولا تعطي قفاً وتهرب من قلايتك مثل خصمٍ
مغلوب. بل انتظر بصبر وبرجاء حقيقي للغلبة التي يعطيك إياها ربنا في السكون بعد مدة
جهادك وكثرة الراحة والفرح التي تحظى بها، ولا تكن كالجهال البله المنحلين، الذين
عندما يكونون غالبين ومنتصرين وفرحين ونيّرين، يجلسون في السكون والحبس، وعندما
يتضايقون وينجرحون ويُغلبون ويحزنون ويسقطون ويُظلمون، يتركون السكون ويخرجون! بل
أنت اصبر على جميع ما يحدث لك كل أيام مدة جهادك؛ إذ في وقت تضغط أنت الشياطين، وفي
وقت يضغطونك، وفي وقت تسقطهم، وفي وقت يسقطونك، حتى ينظر الله صبرك ويعطيك غلبة على
أعدائك ويتوِّجك بمعرفة الروح.
54-
الجهاد مقابل الأفكار الردية في السكون، يكون بهذا النوع: من حيث أن يبدأ المتوحد
بسيرة العقل، وبالحرب مع الآلام مدة من السنين كثيرة أو قليلة، فكل واحد على قدر
حرصه ونشاطه وعمله، يوماً بعد يوم وزماناً بعد زمان، كلما يتقدم إلى قدام، تكثر
عليه الحروب إلى أن يبلغ نقاوة القلب. وقبل مدة من وصوله إلى النقاوة تشتد عليه
الحروب أكثر من الأول وأصعب من العادة. فإن تجلَّد المتوحد وصبر في السكون دون أن
يرتخي أو يملّ، حينئذ يبدأ أن يجد الراحة قليلاً قليلاً، ويُعان من النعمة دائماً،
وفي كل وقت تدنو منه الشياطين وتقاتل معه بمجاذباتها النجسة، فحالما يدعو سيدنا لكي
يعينه، يُطردون من أمامه سريعاً وعاجلاً بفعل الملاك القديس اللازق به، وذلك بالغمز
الإلهي، ويبقى عقله في هدوء وسلام، إن خدم مزامير أو صلاة، أو قرأ في الكتب، أو
اهتم بالله وبخيراته. وبعد مدة قليلة لا يُسمح للشياطين أن تدنو منه بمجاذباتها
كالأول، ما خلا بالقتال الظاهر الذي يكون باللمس والنظر، لأجل عدم التألم الذي
اقتناه. لأن عدم التألم - كما قال الأب إشعياء - هو غير قابل للقتال، فقد أخذ
إكليله واستراح من الهم والعناء. وعدم التألم هذا الذي يعنيه الآباء، ليس هو ذاك
التام الكامل الذي يكون بعد القيامة، بل هم يعنون صحة النفس من مرض الآلام وسقمها
فيها. وهذا إنما استفدناه من الكتب المقدسة، ومن أفواه أناس قديسين كاملين وإلهيين.
ليؤهلنا الرب بكثرة رحمته أن نسير في إثرهم، ولنكمل مثلهم في محبة الله آمين.
[1]
أي يروق الفكر ويصفو، فيتخطى كثافة الألفاظ ليتعمق فهم معانيها الخفية.
|