في تذكار الخطايا أشاء أن أبث قدامك أيها المسيح المخلص؛ وأصف بحضرة مجدك كافة
المرارة التى تختص بي؛ وبنيتي الخبيثة، وأذكر أيضاً كل الطرب والحلاوة التي صنعتها
معي؛ إذ منذ جوف أمي صرت مغيظاً جاحداً خيريتك ونعمتك، لا نشاط لي في الخير. فأنت
أيها السيد أعرضت عن كافة شروري؛ ومن أجل رأفاتك الجزيلة أرتفع بنعمتك يا ابن اللـه
رأسي الذي كان ذليلاً كل حين من أجل خطاياي. تجذبني بنعمتك إلى الحياة؛ وأنا أسعى
بنشاط إلى الموت؛ لأن عادة الآلام الرديئة المذمومة جذبتني حين أذعنت لها؛ وقيدت
الفكر بقيود لا تنفك؛ والقيود مأثورة عندي دائماً. لأنني أشاء أن أتقيد. فالعادة
تقيدني بإشراكها؛ وأفرح إذا قيدت، تغيصني في العمق وأنا ألتذ بذلك، والعدو كل وقت
يجدد قيودي لأنه قد رآني مسروراً برباطاتي الكثيرة ضفرها، وهو كثير الحيل في صناعته
فلا يربطني بالرباطات التي لا أرغبها، لكنه يقدم لي دائماً الأغلال الفخاخ التي
أقبلها بالتلذذ كثير. لأنه يعرف أن الهوى يقوى عليَّ فيحضر لي بطرفة عين القيد الذي
أريده، يا له من بكاء ونوح من عار وخزي أنني أتقيد بمشيئتي فأنا لا أقدر أن أسحق
القيود في لحظة واحدة وأصير حراً من كافة الفخاخ. لأنني بالاسترخاء والعادات
متعبداً للهوى؛ وأقتل بالآلام التي أستبشر أنا بِها. لو شئت لاستطعت أن أفك القيود
وأسحقها، ولو أردت لقدرت أن أهرب من الفخاخ، فهل يكون أمر من هذا النوح والبكاء؟ أم
يكون خزي أصعب من هذا؟ بلى لا يكون أشد مرارة من هذا الخزي، أن يعمل الإنسان مشيئات
عدوه. فأنا أعرف قيودي؛ وأخفيها في كل ساعة من كافة الذين يشاهدونني في زي الورع؛
وضميري يوبخني إذا عملت هذا قائلاً لي كل وقت: ”لِمَ لا تستفيق يا شقي، أو ما علمت
أنه آتي وأقترب يوم الدينونة الرهيب الذي فيه تظهر الأشياء كلها، أنْهض ما دمت
قادراً ومزق الرباطات التي لك، لأن فيك قوة العقد والحل“. هذا يقوله لي دائماً
ضميري ويوبخني، وما أريد أن أستريح من القيود والإشراك، أنوح من أجلها كل يوم
وأتنهد وأوجد مربوطاً بِهذه الآلام نفسها. أنا شقي ومتواني غير ناجح في صالح نفسي،
كيف لا أخاف من فخاخ العدو، جسمي مشتمل بجمال زي التورع ونفسي مقيدة بأفكار غير
لائقة، أتورع بحضرة الناظرين بحرص؛ وأنا من داخل وحش لا يستأنس. أحلي كلامي للناس
وأمنحهم إياه؛ وأنا في نيتي مر وخبيث؛ فماذا عسى أن أعمل في وقت الاختبار إذا أوضح
اللـه كافة الأشياء في مقام الدينونة، أنا أعلم أنني سوف أعذب هناك إن لم أستعطف من
هنا الديان بالدموع. فلذلك لا يسخط عليَّ بل ينتظر عودتي إذ لا يشاء أن يبصر أحداً
متحرقاً بالنار بل يريد أن يدخل إلى الحياة كافة الناس. فإذ أنا واثق برأفاتك يا
ابن اللـه ربي أخر لك طالباً أقبل بنظرك إليَّ، أخرج نفسي من سجن المآثم؛ وأشرق
شعاع نورك في ذهني قبل أن أمضي إلى المدينة المرهبة التي تنتظرني حيث لا يمكنني أن
أتوب عن المساوئ. وأنا مضبوط بفكرين يكتنفني كل واحد منها: هل أسافر من الجسد أولى
من أن أخطئ؛ لكن أخاف أنا الشقي أن أمضي وأنا غير مستعد مجرد من الفضائل، أو أبقى؛
فالخوف العظيم يعذب قلبي من كوني لا أبقي في الجسد بل لا بد من أن أنتزع منه. ولست
أعرف بأيهما أتعزى، لأنني أعاين ذاتي غير نشيط في الصلاح، وحياتي في الجسد ذات خوف
وجزع، لأنني في كل وقت أتمشى بين الفخاخ وأماثل التاجر المتواني العاجز الذي يخسر
في كل ساعة رأس المال مع الربح. هكذا أنا أخسر الخيرات السمائية بالأنغلاب الذي
يجرني إلى المساوي وأحس بذاتي كيف أسرق في كل ساعة وأوجد بغير مشيئتي في الأمور
التي أبغضها، أتحير في أمر البرية كيف هي بَهية دائماً، أنذهل في نيتي الرديئة
متضايقاً مغموماً. من يخطئ دائماً أفضل ممن يتوب كل يوم لأن توبتي ما لها أساس،
البناء وطيد إلا أنني كل حين أضع أساس بناء وأنقض العمل بيدي، وتوبتي الحسنة إلى
الآن لم تبتدئ، وونيتي المذمومة لا انتهاء لها. تعبدت بالاسترخاء لمشيئة عدوي؛ وأنا
نشيط أن أكمل ذلك، فمن يعطي لرأسي ماءً لا يقدر ولعيني ينابيع دائمة لتنبع عبرات.
فأبكي كل وقت لدى الإله الرؤوف ليرسل نعمته لينتشل خاطئاً من بحر هائج بأمواج
الخطايا، فإن نفسي غرقت بتواتر الموج؛ وجراحاتي لا تقبل البتة عصائب الشفاء. أنتظر
التوبة؛ وأنا مسروق بِهذا الوعد الباطل إلى أن يفنى؛ أقول أنني أتوب ولا أتوب إلا
بالكلمات؛ وبالأفعال أنا مبتعد من التوبة، إن كنت في رفاهية وراحة أنسى طبيعتي، وإن
حصلت أيضاً في غموم أوجد متذمراً. الآباء القديسون كانوا محبين للـه في الأحزان
والمحن، كانوا مختبرين مهذبين؛ وقبلوا بذاتِهم إكليلاً لا يضمحل من الإله السمائي
بشرف ومدائح، اقتنوا من الحزن مديحاً وثناءً جميلاً؛ وصاروا صورة حسنة للأجيال
الواردة. ومع هؤلاء يوسف المهذب الجميل البهاء؛ المتناهي في العفة؛ المملوء جمالاً
سمائياً مع محبة العلي، أقتنى بالتجارب صبراً نفيساً لأن حسد إخوته الردىء ما قدر
أن يدر جمال نفسه، ولا استطاعة المراودة المخاتلة أن تذبل جمال الصبي الزاهر، كانت
تنظر في كل ساعة إلى زهر العفيف لتسكب عليه سماً مراً، ولا الحبس والقيود ذبلت حسن
بَهاء زهرة نفس الصبي المحب للـه. فإن كنت أنا الشقي أخطأت بغير محنة ما، وأخطئ
وأغيظ وأمرمر سيدي، فقد اختبرت رأفاته الجزيلة. خلصني يارب وأعطي لعبدك كطلبته التي
يبتغي من كنـز تحننك، أيها السيد لتنبع نعمتك في قلب وفم عبدك بمداومة مثل ينبوع
ليكون قلبي وفمي هيكلاً طاهراً لامعاً بخيريتك ونعمتك؛ قابلاً ملكاً سمائياً لا كعش
للأفكار الخبيثة ومغارة لصوصي أردياء للروايات الشريرة. بل تحرك إصبع نعمتك لساني
دائماً كأوتار المعزفة لتمجيدك أيها المتعطف على الناس، لكي ما أمجد بلا فتور
وأبارك بشوق قلبي وفمي كل زمان حياتي. لأن من يعجز عن أن يسبحك ويمجدك هو غريب من
الحياة العتيدة. أيها المسيح المخلص؛ أعطيني سؤال قلبي؛ ليصير مثل رباب النغمة
لأستطيع أن أوفي ههنا ديوناً قليلة؛ وأحظى هناك أيضاً بوفاء نعمتك حين تجزع كل نفس
وترتعد من مجدك الرهيب. نعم يا سيدي يا ابن اللـه الوحيد؛ أستجب لتضرع عبدك الخاطئ؛
وأقبله مثل قربان؛ فأخلص بنعمتك. والمجد يليق بمن يخلص الخاطئ برأفاته آمين. |