سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

المُسامحة ضد منطق البشر.. ولكن!

 

الأب يوسف جزراوي - هولندا

   

 

كنتُ مُتالمًا جدًا من أحد الأصدقاء. سامحته كثيرًا وأعطيته فرص أكثر لكي يُغيرّ من سلوكه، ولكن كما يقول المثل العراقي: "العادة التي في البدن لا تزول إلا في الكفن".  بشريًا وجدت صعوبة كبرى في مسامحته... وما أن عدتُ إلى كلمة الحياة (الإنجيل المُقدّس) وقرأت بعضًا من أقوال السَيّد المسيح  سَيّد السلام وملك المحبة عن المسامحة والغفران، تطهر قلبي وفكري، فعدلت عن رأيي وانتابني سلام داخلي وصليت لأجله. وإليكم بعضًا من أقوال الرب يسوع في المُسامحة:

إن لم تغفروا للناس لا يغفر لكم أبوكم زلاتكم. متّى 6/15.

إذهبْ وصالح أخاك أوْلاً ثّم تعال وقرَّب قربانك. (متّى5/24).

أحبوا أعدائكم وصلّوا من أجل مضطهديكم. (متّى 5/43-44).

لم يكتفِ ربّنا  يسوع بالوعظ والإرشاد عن المسامحة، بل كان القدوة في مسامحة الآخرين، فصفح عن صالبيه على الصليب وهو يعاني أقسى وأشد أنواع العذاب "إغفرْ لهم يا أبتِ لأنّهم لا يعلمون ما يفعلون" (لوقا 23/ 34).

لا شكّ أنّ المُسامحة هي ضد منطق البَشر، لذا أنه لمنَ الصعب علينا في بعض الأحيان كبشر أن نُسامح مَن ظلمنَا وشوّه صورتنا وأساء إلينا بدافع البغض والغيرة والمنافسة والتعصب الأعمى، فطبيعتنا البشرية تدعونا إلى الثأر ورد الصاع صاعين، لكن  تعاليم الإنجيل وتجربة الحياة علّمتنا أن الثأر يولّد الثأر، والذي يزرع العنف يحصده، ولا سبيلَ إلى الخروج من هذه الدوّامة إلاّ بالمسامحة والغفران والمحبة.  

عندما نُصلي الصلاة الربيَّة نقول: "إغفْر لنا خطايانا" ونضيف" كما نحن نغفر لَمن أخطأ وأساء إلينا". وكأن مغفرة الرب لنا مقرونة بمغفرتنا للآخَرين.

في رياضة روحيّة أقمتها لمُعلمي ومُعلمات التعليم المسيحي إستعدادًا لعيد الميلاد المجيد، كُنا نُصلي وأيدينا متشابكة في صلاة الآبانا "أبانا الذي في السموات... إعطنا خَبُزنا كفاف يومنا، وإغفر لنا ذنوبنا..." وهنا صمت الشاب الذي كان يقف بجانبي، فلم يَقَل مَعنا "كما نحن نغفر لَمن أخطأ وأساء إلينا..." ثّم تابعنا بصوت عالٍ نابع من الأعماق بقية الصلاة. ولما انتهينا من قُدّاسنا وخرجنا لمقاسمة عشاء محبة، سألته في استغراب: لماذا صمتَ في الصلاة الرّبيَّة عند جملة (كما نحن نغفر لمن أساء..)؟! طأطأ  الشاب رأسه وأجاب بحياء "ثّمة شخص أساء إليّ في التعليم المسيحي ولم أستطع  مسامحته حتّى اليوم، فكيف أكذب على الله أبونا وأقول "مثلما أسامح واغفر..."؟ يا له من موقف صادق! ربّما على الكثيرين أن يصمتوا عند هذا المقطع أثناء تلاوة هذه الصلاة... وكَم من أشخاص يقدمون على المناولة وهم في خصام مع الآخّرين وربّما من أقرب المُقربين منهم. وعن خبرة شخصية أقول للجميع: قَدّم المُسامحة تَنَل السلام في حياتك. 

عندما دخلت مينا، إبنة أخي في الولايات المتحدة الأمريكية المدرسة الكاثوليكية والتي تقدم ضمن حصصها دروسًا في التربية المسيحية، سألتها هل أنت سعيدة في المدرسة؟ فتؤمي برأسها ببشاشة "نعم عمو قاشا". ثم سألتُها: "وماذا تتعلّمين في المدرسة "؟ فتجيب بدون تردّد: "أتعلّم أن أكبر في محبة الطفل يسوع ومسامحة الناس كما هو سامحنا...". جاء الجواب أكبر منه لطفلة في الثامنة من عمرها، فذهلت وتعجّب الحاضرون. فهل نحن في نمو في محبة يسوع ومسامحة الناس؟!

كنتُ أبحث عن نشرة الأخبار باللغة الهولندية، التي تعودت على سماعها لتقوية مفرداتي الضعيفة، وقعتُ على خبر في القناة الأخبارية BBS فذيع هذا الخبر :كان وحيدًا لوالديه، يركب الدرّاجة كلّ صباح ليذهب إلى مدرسته الثانويَّة في قلب عاصمة صقلّيَّة باليريمو. وفي يوم مشئوم توقّفتْ بقرب درّاجته عند مدخل المدرسة سيّارة سوداء وامتدّت مِنها يَد آثمة وأطلقت عليه عيارات ناريَّة فأردته على الأرض مضرّجًا بدمائه. نقلته سيّارة الإسعاف بين حيّ وميت. وبدأت وسائل الإعلام الإيطاليَّة كعادتها تتحرّى الحدَث. وعُلم أنّها (المافيا) التي لا ترحم، فقد حكمت على صبيّ بريء لتصفية حسابات مَع والده الثريّ الذي رفض الإذعان لابتزاز الأشرار.

بقي والد الصبيّ ووالدته جنبًا إلى جنب عند فراش ابنهما الوحيد وهو يصارع الموت، وتناوب زملاؤه عند مدخل المستشفى يترقّبون الأخبار ويُعبَّرون عن مشارَكتهم الوجدانيّة وكانت التلفزة الإيطالية وغيرها تُتابع تطوّر الأحداث وتُشرك المُشاهدين في مُعاناة الأهل .وبعد أسابيع مِن التأرجح بين الحياة والموت توقّف قلب الصبيّ عن الخفقان وأغُمضت عيناه إلى الأبد. والناس في وجوم والمشاهدون ينتظرون ردّة فعل الأهل. فيا لَها مِن مُصيبة!

تصدّر الخبر نشرة الأخبار المسائيَّة لقناة  BBSوظهرت والدة الفتى على الشاشة وبقربها زوجها، وقالت بصوت ثابت، على مسمع ملايين المشاهدين ومرآهم: " مات ولدي، مات... أنا وزوجي نسامح مَن قتله وقد حَرَمنا مِن أغلى ما لدينا. ولا نريد لهم شرًا كما علّمنا السيّد المسيح، ولان ولدي كان طيب القلب. ولأنه كان مؤمنًا بالمسيح فأنا واثقة من انه قد سامحهم ويصلي لأجلهم في السماء. هذا وقد قرّرنا أن نهب قلب ابننا الشابّ إلى مريض في حاجة لزرع قلب ليتنعم بالحياة... نهب أيضًا عينيه، وكليتيه... ليكُنْ موته سبب حياة وشفاء للآخَرين". بكى المشاهدون وبكيتُ مَعهم ذلك المساء...

حقًّا إنّ المُسامحة مِن شِيَم المسيحيّين الحقيقيّين الأبطال ...نحن دعاة شريعة جديدة علّمنا إيّاها المسيح، شريعة الوداعة والمسامحة التي تُقهر الشرّ بالخير، المسامحة والطيبة  ليسا ضعفًا، بل نحن لا نجابَه الشرّ بالشرّ...

أخيرًا وليس آخرًا:

ما أكثر خطايانا ومعاصينا وزلاّتنا، فالبارّ يسقط سبع مرّات وينهض بحسب الكتاب المُقدّس (الأمثال 24/1).  الله أبو البشر أجمعين يغفر وينسى أخطأنا بقلب مُحب. من هذا المنظور لنسامح بعضنا البعض بمحبة المسيح.

 ليكن كل منّا مسامحًا للآخرين ليغدو رسول سلام ومحبة. وليكن الغُفران شعارًا لحياتك ولعلاقاتك مع الناس، لأن المسامحة من شيمة المسيحيين الحقيقيين... فكُن من المُسامحين حتى للذين أساءوا إليك، لتحيى بمحبة وسلام. وليرى الناس أعمالك فيمجدون أبوك الذي في السماء. علمني المسيح إن الإنسان العظيم هو الذي يعرف أن يتجاوز وينسى أخطاء الآخرين دون أن يؤذيهم.

يا ليت أن يكون لدينا مقبرة جاهزة لندفن فيها أخطاء الآخَرين.

 
 

Copyright©  www.karozota.com

 
  
 

English