سؤال وجواب

تاريخ

لاهوت

روحانيات

الرئيسية

إن المسيحية إنما إنتشرت في العالم على يد الرسل الإثني عشر وتلاميذ المسيح الإثنين والسبعين. فإنهم بعد حلول الروح القدس...

 

قصص وحكايات

إقرأ الكتاب المقدس في عام

إنجيل الأسبوع

تحميل

روابط

اتصل بنا

 

رحلة في غابات

من كتاب خلجات الذات الجريحة

الأب يوسف جزراوي

   

 

كنتُ في إحدى غابات مدينة Oosterbeek وسط هولندا، بصحبة مدرستي الهولندية الغاية في الإنسانية وصديقها الأفريقي، فطاب لي أن إكتشف المكان وألتقط كعادتي بعض الصور، أستطابت نفسي للمكان لأنني من هواة السير في الغابات والتوغل بها وأتلذذّ برؤيتها، وأمام شفافية المناظر وجماليتها، قلت لها: كم االمساحات الخضراء كثيرة وكثيفة عندكم؟ وكم هي جميلة ورائعة الطبيعة في بلدانكم؟ فتجيبني: وهذا هو سرّ شفافيتنا وهدوءنا، فللطبيعة دور كبير ومؤثر على نفسية الإنسان وسلوكه، لذا تمتع بجمال الطبيعة لتكوّن في ذاتك صور أبدع وأجمل تعكسها في سلوك شفاف وراقي. تقدمنا في مسيرنا، فراح صاحبنا الأسود يتعقّب حشرة غريبة وكان يسعى أن يضغط عليها بحذائه، ليُنهي حياتها!! صُعقت صديقته وصرخت بأعلى صوتها: كلا..كلا.. توقف رجاءًا، لا تفعل هذا... وبعد تنهدات قالت له: ليس من حقك أن تُنهي حياتها، لها الحق في الوجود،... لماذا؟ لماذا...؟ ثم رمت نفسها بين أحضانه وراحت تبكي! فعقّب صديقها: أرأيت أيها الأب، هذا هو تأثير الطبيعة على الإنسان، وكيف شفافية الطبيعة تجعل الإنسان نقيًا شفافًا، يخشى إيذاء أبسط الكائنات وأصغرها والأكثر ضعفًا... فحضنها بشدة وأمطرها بوابل من التعليقات اللطيفة ليحول دموعها إلى إبتسامة، وبدأ يتعانقان برقة ورومانسية... حينها سحبتُ نفسي وطاب لي التوغل في الغابة والسير بمفردي لأستكشف المكان أكثر، فأستراح ذاتي لواحة خضراء فيها شبه ناعور، وبدأت أجمع ذكرياتي أتمتم مع ذاتي المصدومة، كيف نحن نعامل الإنسان بقسوة وخشونة، وكيف هم يعاملون الحشرات والحيوانات برفق وشفافية وإحترام!!
لا حظوا الفرق بيننا وبينهم: إن معظم الكلاب والحيوانات في بلدي هي حيوانات مفترسة عنيفة، متوحشة، لأنها هكذا تدربت، ولأنها أنعكاسًا لإصحابها. بينما حيواناتهم تمتاز بالألفة والشفافية... لأنها أيضًا انعكاسًا لتربية أصحابها. كم هو إحترامهم الإنسان وللكائنات الأخرى كبير وعميق. فلا عجب أن وجدنا في الغرب علاقات أليفة ووطيدة بين الإنسان والكلاب والقطط، وهناك من البشر في مجتمعاتنا لا يعرفون إلا لغة العنف، وصعب أن يتعايشوا فيما بينهم!!
واصلتُ السير وأستكشاف المكان والتمتع بما يحيط حولي لأتوقف بين الحين والآخر هنا وأتطلع هناك إلى تلك الشجرة والنبتة وأُراقب تحركات السنجاب وأتعقب بعض الفرشات الجميلة التي أرى فيها صور للحرية... كّم كان يطيب لي البقاء لوقت أخر؟ لكن صاحبنا الأسود طالبنا بالعودة على عجل... وفي طريقنا عرجنا على أحد المطاعم، لكنَه أيضًا لم يجعلنا نتهنى بجلستنا ونتذوق طعامنا، لأنه كان من ذوي الإيقاع العجول في الحياة.
أعشق الهدوء والتأني والتمتع بوعي لرؤية الأماكن وإكتشافها والتعرف عليها، ولا أهوى الأستعجال والفوضى والقلق والعجلة في القرارات، لا بل في كل مفاصل حياتي. البعض تراه عجول في كل شيء، طعامه، سيره، طريقة كلامه، قراراته، كتاباته، علاقاته، زواجه، قيادته للسيارة، زياراته، أحكامه،... فتأتي النتائج بعيدة عن الطموح والغايات. شكرًا من الأعماق للسلف الصالح على حكمتهم الذهبية: في العجلة الندامة وفي التأني السلامة.
كثيرة هي الأمور التي لا أطيقها في الحياة ومنها، حين يجلس المُحبين، الأصدقاء، المتزوجين... مع بعظهم وأحدهم ينظر إلى ساعته، أو الآخر يقول: تكلم بسرعة وقتي محدود، أنا على عجلة، محصور بالوقت. وكذلك هو الحال في الزيارات والدعوات الإجتماعية والعائلية، وفي السفرات واللقاءات و...
كنتُ قبل أيام في روما، ولم يتبقَ لي ألاّ ساعة واحدة وعليّ الذهاب إلى المطار للعودة إلى هولندا، فعرض عليّ الكاهن الذي كان يرافقني، لزيارة أحد متاحف العاصمة الخالدة. فأجبته:عندما تأكل الطعام بسرعة ودون تذوق وهضم، سوف لن تتلذذّ بطعامك وستصاب بسوء هضم. أجابني: وصلت الفكرة! ألستم معي أن قلت: هكذا هم الكثيرون منا أيضًا مُصابين بسوء هضم حياتي، لأنهم يعيشون وكأن الآخر يلاحقهم ويجري خلفهم.
عندما يتكلم الآخر لا تنظر إلى ساعتك، ولا تكن من العجولين، أجعل قراراتك ومواقفك تتخمر جيدًا في أعماقك، وتمتع بوقتك وأعطي لكل شيء في الحياة حقه، لتتمتع بجمالية الحياة والإنسان. فنحن نكتشف الحياة، فلا تكن من الذين يمرون على الحياة مرور الكرام، بل كن من المكتشفين والمستكشفين لها، وتمتع وتذوق جماليتها بحبّ وعمق وليس من منظار الواجب والمجاملة. بوسعك أعطاء القيمة والمعاني الحقيقية للأحداث والأشخاص والأماكن وللأزمنة، من خلال إكتشافها وتذوق جماليتها وما ينطوي عليها من معاني، فما قيمة الساعة أن لم ترتديها، وما فائدة الحديقة أن لم تعيها وما قيمة النصف الآخر أن لم يمسُكْ صميميًا؟ وما قيمة الذات أن لم تكتشفها وتحققها؟!
اليوم أصبح كل شيء متوفرًا في الأسواق ألا الوقت، فتمتع بالوقت وأشربه إلى أخر قطرة. وأعطي لكل مفاصل الحياة حقها ووقتها المستحق. حينذاك ستكون من المبدعين، لان لا وجود لإبداع من دون الإكتشاف والتذوق والوعي، والوعي شمس منيرة تستنير بها بصيرتنا.

 
 

Copyright©  www.karozota.com

 
  
 

English