مقدمة:
يقول سفر المزامير:" لقد كرم أصفياؤك جدا يا الله".
فمثل هذه
الأقوال، يحثّنا النبي على إكرام أصفياء الله وتوقيرهم. ونحن اليوم نكرّم القدّيسين
وتذكارهم كمثال قادر على أن يقوّينا في الابتعاد عن الأمور الأرضية والخطايا
ويشجّعنا على الثبات في ممارسة الأمور الروحيّة:
" فنحن أيضًا إذ يُحدِقُ بنا مثل هذا السّحاب من الشهود فلْنلق عنّا كل ثقل وما
يشتَمل علينا من الخطيئة ولْنُسابق بالصبَّر في الجهاد الذي أمامنا" (عب 12: 1).
وبدورنا نكرّم نحن جميع القدّيسين الذين حفظوا وصايا الرب لأنهم صاروا مثالا
للفضيلة وقدوة حسنة يحتذي بهم ولأنهم محسنون للبشرية.
فإننا
نكرّم على حِدة كلا من القدّيسين ونقيم له تذكارا خصوصيا وبما أن العديد الكثير
منهم غير معروفين وعددهم تكاثر مع تمادي الزمن وما يزال يزداد حتى انقضاء الدهر
بحسب قول صاحب المزامير: "أحصيهم
وأكثر من الرمل يكثرون". لذا تخصّص الكنيسة مرّة في السنة تذكار جميع القدّيسين
ونكرّم بورع ومخافة جميع هؤلاء المعروفين وغير المعروفين والذين انضمّوا وسينضمّون
معهم نمدحهم ونغبطهم ونتّخذ سيرتهم مثالا للفضيلة.
في إنجيل
هذا النهار المقدس المبارك يوضح لنا في عبارته الانجيلي
متى: "فأجاب يسوع وقال الحق أقول
لكم انه ما من احد ترك بيتا أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو بنين أو حقولا لأجل
اسمي ولأجل الإنجيل إلا يأخذ مئة ضعف. أما في هذا الزمان فبيوتا وإخوة وأخوات
وأمهات وبنين وحقولا مع اضطهادات وأما الدهر الآتي فالحياة الأبدية" (متى10:
29-30). أي يعدنا الرب بالمكافأة السماوية والأرضية وإكرام الرسل والقديسين وغيرهم
وذلك: "حتى إن الناس كانوا يُخرجون بالمرضى إلى الشوارع ويضعونهم على فرش وأسرة
لِيَقع ولو ظلّ بطرس عند اجتيازه على بعض منهم فيبرؤوا من كل علة بهم" (أع 5: 15
وللمزيد 19: 12). ما أروع قول رسول الأمم في هذا السياق: "كأنّا حزان ونحن دائما
فرحون. كأنّا فقراء ونحن نُغْني كثيرين. كأنّا لا شيء لنا ونحن نملك كل شيء" (2
كو6: 10).
أي
نترك كل شيء من اجل محبّة المسيح الرب وأغنياء بإيماننا بالرب يسوع.
فإنّنا إلى يوم الدهر هذا نرى أهل الفضيلة حائزين على الإكرام والوقار والتقدير من
الشعب فابن البشر الذي يمنع لسانه عن النميمة والكذب والأقاويل الباطلة ويعتصم دوما
بالاستقامة والصدق والعدل ويقاوم الكبرياء نتخذ وعده وكلامه أقوى من كل كتابة
ووثيقة.
ومكافأة
أخرى لذوي الفضيلة، فقد أعطاهم الله سلطانا فان موسى قد حوّل الماء إلى دم والهواء
إلى ظلمة والتراب إلى بعوض وأمات الحيوانات، ويسوع بن نون قد أوقف الشمس وإيليا
أغلق السماء عن المطر ثم فتحها. وبولس قد وقّرته الأفعى ولم يتضرر منها وبطرس كانت
تخضع له الأموات فحقًّا إن المجد والكرامة والسلام لكل من يعمل الصلاح:
"والمجد والكرامة والسلام لكل من يصنع الخير من اليهود أولا ثم من اليونانيين"
(رو2: 10).
وقفة مع الإنجيل المقدس
متى 10:
32-37: " قال الرب لتلاميذه كل من
يعترف بي قدام الناس اعترف أنا أيضا به قدام أبي الذي في السماوات.ومن ينكرني قدام
الناس أنكره أنا قدام أبي الذي في السموات .ما أحب أبا أو أما أكثر مني فلا
يستحقني ومن أحبّ ابنا أو بنتا أكثر مني فلا يستحقّني".
أي
من يعترف بي أني أنا المسيح الله أمام الناس اعترف به أمام أبي وهذا الإنسان
المعترف بي هو تلميذ أمين وحقيقي لي.
وهل الله
بحاجة لان نعترف به أمام الناس؟ وما دمنا نؤمن بقلبنا به فما الحاجة إلى الاعتراف
بذلك؟ إن الإنسان من نفس وجسد وروح والمجد المعدّ من الله للإنسان بعد القيامة
يشترك به الجسد والنفس لذا ففي كل فضيلة يجب أن يشترك الجسد مع النفس والنفس تقتنع
بما تؤمن ولكي تظهر أمام الله بارّة وقال الرسول بولس:
"لأنه بالقلب يؤمن الإنسان للبر وبالفم يعترف للخلاص" (رو 10:10). والجسد والفم
والشفاه واللسان يعلن ما يؤمن به القلب: "لان كان اعترفت بفمك بالرب يسوع وآمنت
بقلبك أن الله قد أقامه من بين الأموات فانك تخلص" (رو 10: 9).
ليس
الرب بحاجة لان نعلن إيماننا به لأنه يعرف كنه قلوبنا ومكنونات داخلنا واعترافنا
بإيماننا بالرب يسوع المسيح أمام الناس فهو إيمان معترف به وهو ظاهر وكامل ومن يؤمن
بالقلب ويعترف باللسان له إيمان تام وثابت وحقيقي ومحبته لله أعظم من محبته لحياته
الذاتية. واليوم في بعض أصقاع المسكونة نسمع عن اضطهاد لمن يؤمن بالمسيح ومن يمنع
بممارسة الطقوس الدينية المسيحية بشكل حرّ.
ومن ينكر
أنني الله فانا أنكره أمام أبي انه تلميذي لذلك الشهداء احتملوا كل العذاب والآلام
ولم يتفوّهوا بنكران الله ومن يسال كيف نكر بطرس الرب المسيح وما برح تلميذا وحبيبا
وقديسا فنقول: "كل ما يعطينيه
الاب فهو يقبل إلي ومن يُقْبِل إليّ لا أخرجه خارجا" (يو6: 37) فبطرس بعد نكرانه
المسيح بكى بكاء مريرا وبعد القيامة (متى26: 75) فالاعتراف بالمسيح ثلاثا والدموع
المذروفة محت خطيئة النكران والكرازة بالإيمان والموت من اجل المسيح قد أعطيا
القداسة بكاملها. ولذا قال الرب أحب الأم والأب ولكن ليس أكثر مني، وما المقصود
"أكثر مني"؟ ليس بالمقياس أو الميزان لا بل بسموّّ المحبة الإلهيّة أي إذا حرضك
أبوك أو أمك لتنكر إيمانك فلا توتّر إذ ذاك شخصهما ولا تخضع لأمرهما ولا تنكر محبتك
للرب من اجل الوالدين وكما ورد في سفر التثنية: "وان أغراك في الخفاء أخوك ابن أمك
أو ابنك أو ابنتك أو امرأتك التي في حجرك أو صديقك الذي هو كنفسك قائلا تعال نعبد
آلهة أُخر لم تعرفها أنت وآباؤك. من آلهة الأمم الذين حواليكم القريبين منكم
والبعيدين عنكم من أقاصي الأرض إلى أقاصيها. فلا ترضَ بذلك ولا تسمع له ولا تشفق
عليه عينك ولا تصفح له ولا تستر عليه" (تث13: 6-8).
ومن يحب
الله أكثر من والديه فأيضًا مخالف لوصية الرب يسوع الذي قال:
متى 19: 22-29، 10: 38: "ومن لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني حينئذٍ أجاب بطرس
وقال له هوذا نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك فماذا يكون لنا. فقال لهم يسوع الحق الحق
أقول لكم انتم الذين تبعتموني في التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون
انتم أيضا على اثني عشر كرسيا تدينون أسباط إسرائيل الاثنين عشر وكلّ من ترك بيوتا
أو إخوة أو أخوات أو أبا أو أما أو امرأة أو أولادا أو حقولا من اجل اسمي يأخذ مائة
ضعف ويرث الحياة الأبدية".
يعني الرب
"بالصليب" إماتة الأهواء الجسدية والشهوات ولان لفظة "صلبوا" بمفاد "أماتوا" كما
جاء على لسان الرسول بولس (غل6:
14، 5: 24) فحمل صليب يسوع قهر الجسد والابتعاد عن الملذات الدنيوية ونتبع الرب
باقتداء آثاره على قدر المستطاع كقول القديس بطرس (1بط2: 21، 1كو1: 11).
وباقتضاب
انظر لدقة الترتيب: "من يحمل
صليبه" ومن ثم "يتبعني" لان إتباع المسيح وتلميذه يميت أهواء الجسد ومن لا يقوم
بذلك لا يستحقّ أن يكون تلميذا لرب المحبة.
وما
الغاية من هذه الآية؟ بهذه المناسبة؟ أي عيد جميع القديسين؟!
إنها
تتضمّن وتشمل فضيلة القديسين وحسن مكافأة الله لهم، وقول بطرس "تركنا كل شيء" يعني
حتى أحقر الأمور والأشياء وابسطها والله ينظر إلى نوايا الإنسان لا الكمية وما هي
الجائزة (متى 19: 27) وتجديد كون
البرية (رو8: 21) الخ.
ولماذا
دعا الرب نفسه "ابن الإنسان" ولم يقل "الإنسان"؟ إنما استخدم
"ابن الإنسان - البشر" على اصطلاح الكتب كقول مزمور 3 :4 : "يا بني البشر" وحزقيال
النبي (3 :2). وما هو القصد من القول "ستجلسون على كراسي"! غثّ من يظن أن القصد عن
أمور مادية لان البشر جميعا في القيامة يكونون كالملائكة بأجساد روحانية (1 كو 44
:15).
إن الرسل
لا يدينون أسباط إسرائيل ولمَ؟:
"لان الاب لا يدين أحدا بل أعطى الحكم كله للابن" (يو 22 :5). وعلام تدل الكرسي؟
هي
تدل على المجد والإكرام والجلوس يشير لثبات وقوة هذا المجد ومعنى عبارة "ستدينون"
ستوبخون.
وهل يعقل
أن يأمر الرب بترك الأهل وهو الذي
أوصانا بتبجيلهم؟! ولكن المغزى أن نترك الأهل من "اجل الرب" أي لأجل الإيمان القويم
الاورثوذكسي وحفظ وصايا الله الإلهية بعبارة أخرى إذا أصبح بيتك وحقلك الخ مانعا
لخلاصك وعارضتك هذه الأشياء في إتمام وصايا الربّ فوجب تركهم ومقاومتهم وتأخذ
المكافأة مائة ضعف وتكسب الحياة الأبدية كما جاء في سفر الأعمال (32 :4).
متى 19:
30: "لان كثيرين أولين يكونون
آخرين أولين".
إن
الكثير من الأمم حال كونهم أولين يصيرون آخرين لعدم إيمانهم بالمسيح يسوع وينفَون
من ملكوت الله، وكثيرين من الشعوب حال كونهم آخرين بما أنهم في الأزمنة المتأخرة قد
آمنوا بالمسيح يصيرون أولين ويحظون بملكوت السموات.
وكثيرين من المؤمنين المتقدمين في العالم كالملوك الخ، في حال كونهم في المقدمة في
الأمور العالمية يصبحون في المجد الإلهي آخرين في ملكوت السموات. وربما أراد الرب
بالأولين أولئك الذين يعتبرهم الناس أولين فان كثيرين من الذين يعتبرهم الناس أولين
بالفضيلة سيظهرون آخرين في يوم الدينونة. |