عندما يشرق نور البشارة في قلب الإنسان لإنارة معرفة مجد الله في داخلنا، وتعلو
النفس بنوال فيض النعمة وعطية البر، نمر في مراحل تعكس التغيير الجذري الذي يحل في
حياة كل مؤمن، لابسين المحبة التي هي رباط الكمال لنكون في المسيح خليقة جديدة حسب
صورة خالقنا. البعض من هذه المراحل هي ضيقات واضطهادات، والآخر امتلاء بالتعزية،
لكن الكل هو ضرورات لأجل البنيان لعمل الخدمة في جسد المسيح. وتختلف كل مرحلة عن
الأخرى بضرورتها والوقت الذي تستلزمه لتعيشها ذواتنا، لكن بالتأكيد لا نستطيع أن
نعبر إلى المرحلة التالية في تحولنا دون أن نوفي حق المرحلة التي سبقتها. سنتناول
في موضوعنا هذا المرحلة الأولى التي هي بداية الآيات التي يفعلها الرب يسوع في
حياتنا وهي مرحلة دعوة الله.
مقدمة عن دعوة الله:
بلا شك أن أعظم صفة ينادي بها الكتاب المقدس الله هي صفة العدالة "ان اعترفنا
بخطايانا فهو امين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل اثم" (1يو1: 9)، لذا
فالرب يعطي فرصة الدعوة لجميع البشر وكل تحت ناموسه "لانه الامم الذين ليس عندهم
الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء اذ ليس لهم الناموس هم ناموس
لانفسهم. الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبا في قلوبهم شاهدا ايضا ضميرهم وافكارهم
فيما بينها مشتكية او محتجة" (رو2: 14-15).
دعوة الله مستمرة دائمًا ما زال نسمة الحياة عامرة في داخلنا، حيث أن المسيح يعمل
مادام نهار "ينبغي ان اعمل اعمال الذي ارسلني ما دام نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع
احد ان يعمل" (يو9: 4). واستخدام كلمة النهار للعمل يعني أننا نستطيع رؤية أعمال
الرب في حياتنا بوضوح، فهي واضحة كالنور. "ان كان احد يمشي في النهار لا يعثر لانه
ينظر نور هذا العالم، ولكن ان كان احد يمشي في الليل يعثر لان النور ليس فيه (يو
11: 9-10).
لكن كثيرين يُدعون وقليلين ينتخبون (مت 20: 16) وليس معنى هذا أن الله يستثني أحد
على آخر، وإنما فقط الذي لم يتزين بلباس يلائم الوليمة السماوية: "ثم قال لعبيده
اما العرس فمستعد واما المدعوون فلم يكونوا مستحقين. فاذهبوا الى مفارق الطرق وكل
من وجدتموه فادعوه الى العرس" (متى22: 1-14). حتى أن يسوع القائم من الأموات لم
يظهر نفسه إلا لقلة منتخبة: "هذا اقامه الله في اليوم الثالث واعطى
ان يصير ظاهرا. ليس لجميع الشعب بل لشهود سبق الله
فانتخبهم. لنا نحن الذين اكلنا وشربنا معه بعد قيامته من الاموات" (أع 10: 40-41).
دعوة الله تصل بإرشاد وتخطيط الله المسبق لحياتنا، لكن الخيار يظل في النهاية
بمشيئتنا. ويتشبه من ينشر كلمة الله ويكرز ببشارة الملكوت ويدعو الآخرين إلى معرفة
الحق وكل الصلاح بصيادي الناس: "فقال يسوع لسمعان لا تخف. من الان
تكون تصطاد الناس" (لو 5: 10)، وهذا معناه أيضًا بأن شبكة الله تجمع كل ما يوجد
في البحر، لكن الشيء الرديء يطرح إلى البحر مجددًا. إن دعوة الله لنا تغير من
معرفتنا للأشياء وتجعلنا لا نقاوم مشيئته بل بالعكس ننال نصيبًا معيّن سابق في
مسرّة وحسب قصده.
ان الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون. فاطلبوا من رب الحصاد ان يرسل فعلة الى حصاده (لو
10: 2)، ومعنى الحصاد هو أننا نحصد ما أثمرته كلمة الله في نفوس المؤمنين بدعوته
لهم "والحاصد ياخذ اجرة ويجمع ثمرا للحياة الابدية لكي يفرح الزارع
والحاصد معا. لانه في هذا يصدق القول ان واحدا يزرع واخر
يحصد. انا ارسلتكم لتحصدوا ما لم تتعبوا فيه" (يو4: 36-38)
تعدد طرق الدعوة:
1)
دعوة الله العامة:
أ-
الكرازة: إن كرازة يوحنا المعمدان ليست إلا دعوة الله لمن خرج إلى البرية، إلى من
يعاني من جفاف وفراغ في حياته لتتشبه ذاته ببرية قاحلة من الرمال وأشجار شائكة،
عالمين أن ما علم به وكرز كان نهايته بأنه قدم على طبق رأسه واثقا بما آمن به ودعا
إليه بأنه فقط صوت صارخ في البرية وعلى دوره أن ينقص ليزيد من يأتي بعده (متى 14:
10)، وتلتها دعوة الرب نفسه وما كان نهاية دعوته إلا ليكون معلقا على صليب خشبة
فداءًا عن خطيئة العالم، وبعدها لا حصر لشخص التلاميذ الذين لم يكن لخطواتهم إلا أن
تحذو حذو الرب في كل ما عمله وقاساه ليوصلوا بشرى الخلاص إلى كل المسكونة.
ب-
الموعضة: ليس معناه موعضة الكهنة فقط، فالموعضة ليست فقط على عاتق الكهنة
والاكليروس في الكنيسة كما يدعي البعض أو يظن، وإنما لنحدث ونسبح من دور إلى دور
بما عمله الرب في حياتنا ونكون شهود له ونكرز بعمله الخلاصي ناصحين أخوتنا كي لا
يتضرروا من كل عمل رديء، كالتعليم في رسالة بولس إلى تيموثاوس الذي يذكره لينصح
أخوته بما سيحصل في الأزمنة الأخيرة: "ان فكرت الاخوة بهذا تكون
خادما صالحا ليسوع المسيح متربيا بكلام الايمان والتعليم الحسن الذي تتبعته" (1
تي4: 6).
ج-
قراءة الكتاب المقدس: إن المواضبة على قراءة الكتاب المقدس هو نور يرشد في الطريق "سراج
لرجلي كلامك ونور لسبيلي" (مز 119: 105). وما زال جهل الكثير من أبناء كنيستنا
بالكتاب المقدس سببا رئيسيا في ابتعداهم عن معرفة الرب والعمل حسب مشيئته. ولتسهيل
قراءة الكتاب المقدس دون ملل أو كد ما علينا إلا اتباع برنامج قراءة المقدس على
مدار سنة والذي يضمن تكملة قراءته ضمن عام واحد فقط. وما أكثر اليوم القنوات
والمواقع الروحية التي تنشر وتبشر بكلمة الله. إن الكنيسة كانت في السابق هي التي
أخذت فقط على عاتقها نشر كلمة الله والوعظ باسمه، أما اليوم فكثير من الوسائل متاحة
مما يمكن استخدامها للبنيان الروحي وكلمة الله تستطيع الوصول إلى مسامعنا بطرق
مختلفة وبسيطة.
هناك حكاية طريفة رواها لي أحد الأخوة عن أنه في السابق في حياة القرى ولحث
المؤمنين على قراءة الكتاب المقدس أو على الأقل تصفحه روجوا عن ان شعرة من شعر رأس
الله قد سقطت في أحد الكتب المقدسة ومحظوظ هو من يجدها.
دعوة الرب هي كشمس تشرق على الأشرار قبل الصالحين، فهو لا يدعو الأبرار إلى التوبة
بل الخطاة: "يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين" (متى 5:
45)، ولاحظ أن الرب يشرق نوره على الأشرار أولا ليبيد الظلام الذي في داخلهم، كما
يرمز لمطره على أنه بركة من عنده ينزلها على الأبرار أولا مجازاة لأعمالهم الصالحة.
2)
تدخل الرب المباشر وانتخابه لشخصيات منها من برزت في الكتاب المقدس أمثال: إبراهيم،
موسى، داود "قد انتخب الرب لنفسه رجلا حسب قلبه وامره الرب ان يتراس على شعبه" (1
صموئيل 13: 14)، دعوة الرب لتلاميذه، بولس: "اله ابائنا انتخبك
لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتا من فمه" (أع22: 14).
3)
إرشاد الروح بطرق مختلفة: فما ضربات الرب على مصر وقساوة قلب فرعون إلا توبيخ
للصحوة والإرشاد إلى ما هو حق وصالح، موت لعازار وإقامته من الموت هو ارشاد وتعليم
عن قيامة الموتى والحياة الأبدية "فلما سمع يسوع قال هذا المرض ليس
للموت بل لاجل مجد الله ليتمجد ابن الله به"(يو 11: 4) ففي تلك الساعة نطق يسوع
بأعظم تعزية قيلت وقت الحزن "انا هو القيامة والحياة.من آمن بي ولو مات فسيحيا"
(يو11: 25). قصة المرأة الزانية التي وقعت عند قدمي يسوع ليدينها وينطق بحكمه في
قضيتها، حتى نطق بأعظم كلمات الشفاعة والرحمة بعد ان اشترط على من يرغب برجمها بان
يكون دون خطيئة ليستطيع رفع حجره وقذفه في وجهها، وبعد أن تنحى الكل ولم يبقى إلا
يسوع والمرأة الزانية غفر لها وقال: "اذهبي ولا تخطئي ايضا"
(يو8: 11). قصة دعوة الرب عند سمعان الفريسي ومغفرة الرب للخاطئة التي زارتهم دون
سابق دعوة ومصيرها أنها نالت الغفران الذي لم ينله سمعان نفسه الذي اتكأ مع الرب
على نفس المائدة (لو7: 36-50).
4)
تربية الأطفال الحسنة: "وانتم ايها الاباء لا تغيظوا اولادكم بل ربوهم بتاديب الرب
وانذاره" (افسس 6: 4). الأهل يجب أن يكونوا قدوة لأطفالهم، حيث يجسد الأهل الصورة
والمثال الأعلى لأطفالهم فالأطفال ينظروا لأهلهم بأنهم هم القدوة والمثل الأعلى لهم،
وكما أن الشجرة الجيدة تنتج ثماراً جيدة هكذا أيضاً العائلة الصالحة تنشئ أولاد
صالحين. والله يريد الأهل ليس أن يعلموا فقط الأطفال بأن يكونوا صالحين بل أن
يكونوا هم أيضا صالحين.
فيجب على الأهل أن يتكلموا ويتصرفوا كما يحق لإنجيل المسيح، أن ينقلوا الى أطفالهم
الاحترام والإكرام بطريقة اختبارية وهذا الشيء يحدث عندما يكون الأهل قريبون من
الرب وفي صلة مستمرة مع الآب السماوي، ويسيرون بجدارة إلى الدعوة التي دعوا إليها
كبشر، وفوق كل هذا يجب على الأهل أن يتذكروا أن الكرامة الحقيقية تأتي من الله فهو
الذي سيكرمهم بعيون أولادهم، ومن ثم الأولاد سوف يتعلمون هم أيضاً إكرام الله.
فعندما الأهل يعلموا أولادهم أن يطيعوا الرب فسوف يكسبوهم مدى الحياة.
مضمون الدعوة:
بالطبع مضمون الدعوة هو تمهيدًا للخطوات التالية التي تسهل من عمل الله في نفوسنا،
ولإعطاء الثمرة التي ينتظرها الرب منا، هي الوسيلة التي نستلم بها الوزنات حسب
مقدرتنا وكيفية المتاجرة بها، لكن بالتأكيد دعوة الله تتضمن الآتي:
1)
الصحوة: "اصحوا واسهروا لان ابليس خصمكم كاسد زائر يجول ملتمسا من يبتلعه هو"
(1بطرس5: 8).
2)
التوبة: "توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السماوات"(مت 3: 2)، "لاني لم آت لادعو ابرارا
بل خطاة الى التوبة" (مت 9: 13).
3)
الحياة الأبدية: "لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة
الابدية" (يو 3: 15)
4)
دعوة بنوة الله والولادة من فوق: "واما كل الذين قبلوه فاعطاهم سلطانا ان يصيروا
اولاد الله اي المؤمنون باسمه" (يو1: 12)، "اي ليس اولاد الجسد هم
اولاد الله بل اولاد الموعد يحسبون نسلا" (رو9: 8). وما المعمودية إلا علامة
على ذلك الميثاق الأبوي الذي يتقبله الإنسان يوم عماذه.
5)
نعمة الله: "وكان الجميع يشهدون له ويتعجبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه" (لو4:
22)، "ومن ملئه نحن جميعا اخذنا. ونعمة فوق نعمة" (يو1: 16)،
"فان كنتم وانتم اشرار تعرفون ان تعطوا اولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من
السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه" (لو11: 13)، "لانكم بالنعمة مخلصون...
ليس من اعمال كي لا يفتخر احد" (افسس 2: 8-9).
الكثير يظن بأن ما يدعونا الله إليه هو غير منطقي وليس سهلا تطبيقه ناسين بأن كل ما
يدعونا الله له الآن هو من الأرضيات، هكذا قال يسوع لنيقوديموس: "ان
كنت قلت لكم الارضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون ان قلت لكم السماويات" (يو3:
12)
التأكد من أنها دعوة الله:
إعطاء الفرصة ليتدخل الرب في حياتنا، والوثوق بكلمته... حيث لنفهم علينا أن نؤمن
ونثق أولا به، وهذا ما جعل بطرس ينزل في البحر ويمشي على الماء (متى 14: 22-33) حتى
إن كان الشك جعله يغرق لكنه كان نافعًا ليعلم مدى وثوقه بكلمة الله. إن لم نختبر
ثقتنا بالرب يظل الخوف والتردد يعرقلا دائمًا مسيرة إيماننا، وسنسمع توبيخ الرب
ونعته لنا باننا قليلي الإيمان.
1)
اليوم ان سمعتم صوته. فلا تقسوا قلوبكم... (مز 95: 8) ولا نتشبه
بالكثير ممن قسوا قلوبهم حتى كان مصيرهم الهلاك (كمثال فرعون).
2)
علينا أن نلمس يد الله وتدخله في الكثير من الأمور في حياتنا حيث حتى التلاميذ
ببشارتهم لو لم تكن يد الرب معهم لما كانوا استطاعوا نشر رسالة المسيح: "وكانت يد
الرب معهم فامن عدد كثير ورجعوا الى الرب" (أع 11: 21).
3)
ولا يقولون هوذا ههنا او هوذا هناك لان ها ملكوت الله داخلكم
(لو17: 21)، لك من تبحث عن الرب في حياتك، إبحث عنه في داخلك فهو أقرب إلى قلبك منك.
4)
"فتشوا الكتب لانكم تظنون ان لكم فيها حياة ابدية. وهي التي تشهد
لي" (يو5: 39)، إن المواضبة على القراءة والبحث المتواصل في الكتاب المقدس
مصيره نعمة ورجاء دائم.
5)
"لا تتعجبوا من هذا. فانه تاتي ساعة فيها يسمع جميع الذين في
القبور صوته" (يو5: 28). إن ما يصغي إلى نداء الرب ويسلم حياته إليه يكون كمن
وقع صوت الحياة في أذنيه وهو مدفون بين الأموات.
ترقبوا المرحلة القادمة: مراجعة
النفس |