وكان
يعلِّم تلاميذه ويقول لهم: “إن ابن الانسان سيُسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه وبعد أن
يُقتل يقوم في اليوم الثالث” (مر 9: 30).
لما فاه
يسوع المسيح بالكلمة المحزنة – فيقتلونه – أضاف الكلمات المفرحة: انه يقوم في اليوم
الثالث، حتى نعلم بأن السرور يتلو الأحزان، وحتى لا نيأس من التجارب، ونقطع الأمل
من الحصول على المسرّات. فإذا لم تكن التجربة، لا يكون الإكليل. وإذا لم يكن جهاد
فلا سبيل إلى المكافأة، وإذا لم تكن الحرب فلا سبيل إلى المجد والمفخرة، وإذا لم
تكن الأحزان فلا حاجة إلى التعزية، كما انه لا صيف بلا شتاء.
اننا
نتأكد صحة ما ذكر من البذور التي تطرح على الأرض، فانها تتطلب الأمطار الغزيرة
والبرد الشديد حتى تنبت وتعطي سنابل جيدة. لنزرع نحن أيضاً أثناء التعاسة الروحية
حتى نحصد صيفاً، لنزرع الدموع حتى نحصد الابتهاج حسب قول ابن الله: من يزرع بالدموع
يحصد بالابتهاج. ان مقدار تأثير المطر على البذور لتنمو كتأثير الدموع التي تحيي في
النفس بذور التقوى وتنميها وتنضجها. فكما يشق الزارع الأرض بمحراثه مهيئاً إياها
لتكون مأوى منيعاً للبذور وتحفظها في جوفها حتى ترسل جذورها بلا وجل، هكذا يجب
علينا أن نحرث قلوبنا بالأحزان إلى الأعماق كما يعلِّمنا النبي: حلُّوا قلوبكم لا
ثيابكم.
فلنفتح
قلوبنا ونستأصل النباتات الرديئة والأفكار الشريرة ونهيّئ الحقل لبذور التقوى، إذا
لم نجدّد الحقل ونزرع الآن، إذا لم نذرف الدموع في وقت الصيام، فمتى يكون إذاً وقت
انسحاق القلوب؟ هل في وقت الراحة والسرور؟ ان هذا آنئذٍ غير ممكن، لأن الراحة، تؤدي
عادة إلى عدم الاكتراث؛ بينما الأحزان تردّ النفس إلى ذاتها إذا كانت ملتهية
بالأشياء العالمية. إن الزارع إذ يلقي في الأرض البذور التي جمعها بالأتعاب الشاقة،
يصلي من أجل هطول الأمطار. فالذي يجهل عمله يقف مذهولاً محتاراً، ماذا يصنع؟ إن
الزارع المجتهد لا يطرح البذور في الأرض فقط بل يخلطها بالتراب ويصلي من أجلها
لتنبت. الزارع يبتهج برؤية الطقس الممطر، لأنه لا ينظر إلى الحاضر بل إلى المستقبل،
لا يفكر بالرعد بل بالأكداس، ولا بفساد البذور بل بالسنابل الناضجة. كذلك نحن يجب
ألا نكترث للأحزان الحاضرة بل للمنفعة التي تنتج عنها. فان كنا مجتهدين لا نتضرر من
الأحزان بل نحصل على خيرات وافرة. فالراحة وعدم الاكتراث هلاك للمهمل، وأما النشيط
فينمو ويقوى ويغدو كالذهب الذي يحتفظ بلمعانه إن كان في الماء، ويزداد سطوعاً إن
طُرح في الفرن، وعكس هذا: الصلصال والتبن. فالأول يذوب في الماء، والثاني يتبدّد.
هكذا البار والشرير أيضاً. فالأول يبقى في السكينة كالذهب المطروح في الماء وان كان
في الشدّة يصير أشد لمعاناً كالذهب المصهور في النار. أما الشرير ففي الراحة يتبدّد
ويفسد كالتبن والصلصال في الماء، وإن وقع في الشدّة يحترق ويهلك كالتبن والصلصال في
النار.
فلا تحزن
من المصائب الحاضرة لأن خطاياك تغفر بسهولة بسبب الحزن، وإن كانت أعمالك صالحة
فتصبح أشد بهاء بواسطة الشدائد، وإن كنت نشيطاً فتعلو فوق كل ضرر. ان الذي يسبّب
الضرر ليس هو الخطيئة نفسها بل عدم الاهتمام بها. وعليه إن شئت أن تنعم بالراحة
والسكون. عوِّد نفسك الصبر ولا تفتش عن المسرّات. فإن فارقتك الصفات المذكورة لا
تلبث أن تتغلب عليك التجربة وتطأ راحتك بسرعة. ان الرياح الشديدة لا تستطيع أن
تقتلع الأشجار القوية بل يزداد ثبات هذه. كذلك النفس البارّة لا تهلكها الشدائد بل
توقظها وتزيدها ثباتاً وصبراً.
فبماذا،
إذاً، نبرر أنفسنا نحن المنعم علينا – من الله – إذا لم نصبر على التجارب في هذه
الدنيا؟ إن أيوب المعذّب كثيراً قد لبث أمام التجارب رابط الجأش قبل زمان الرحمة،
أي في العهد القديم. فما بالك أنت تحزن من تجربة الكلي الصلاح الذي يقود أفكارك إلى
الخلاص الأبدي بواسطتها. ان الله قادر أن يكف عنا الشدائد. لكنه لا يفعل ذلك حتى
يرانا متجهين إليه بالتوبة الحقيقية الثابتة.
ان الصانع
الماهر لا يخرج الذهب من النار حتى يصفو جيداً ويتنقّى. هكذا الله تعالى لا يبدِّد
غيوم الشدائد عنا حتى يتثبّت من الاصلاح الحقيقي فينا. فالذي سمح بالتجربة يعلم متى
تكون نهايتها. والذي يعزف على القيثارة، لا يشدّ الوتر كثيراً حتى لا يقطعه، ولا
يحلّه كثيراً لئلا تختلّ الأنغام. هكذا يتصرّف الله مع الإنسان بحكمة لكي لا يتركه
في راحة دائمة، أو شدّة دائمة، حتى لا يتهامل أو ييأس من الشدائد. يجب أن نترك وقت
زوال الشدّة لله وحده، وأن نصلي بلا فتور، ونعيش في التقوى، وإكمال الأعمال
الصالحة. ان الله تعالى يهتم أكثر منك بإطفاء نار الشدّة أيها المجرّب، ولكنه ينتظر
خلاصك! فكما ان الراحة والسرور تعقبهما الشدّة، كذلك الشدّة يعقبها الفرح. فلا يدوم
الشتاء ولا الصيف ولا الأمواج ولا السكون ولا الليل ولا النهار. كذلك الشدّة لا
تدوم لأن الراحة ستتلوها، إذا كنا نشكر الله في كل حال ونحمده أيام الشدائد
والأهوال.
يجب
أن نخص نفوسنا بالأعمال الصالحة لنحوّل غضب الله عنا ولنجعل أعضاء أجسادنا كلها
عدّة للحق، ونعوِّدها أن تكون خادمة للأعمال الصالحة. فبهذا وحده فقط نتخلص من
الخطر ونرضي الله تعالى ونحصل على الخيرات التي لا توصف، والتي سنستحقها بنعمة
سيدنا يسوع المسيح المحب البشر الذي به يتمجّد الآب والروح القدس الآن وكل أوان
وإلى دهر الداهرين آمين. |