1- ينبغي
للإنسان الحكيم إذا ما عزم في قلبه أن يسعى في طلب شيء ما ضروري، وأحب تحصيل ذلك
الشيء، واشتهى أن يقتنيه، ينبغي له ألا يعتمد على السماع عنه من خارج، ولا يسعى في
الحصول عليه بغير فحص وتفتيش، ومن غير أن يكون قد عرف أولاً ما هو هذا الشيء؟ وما
هى هيئته؟ لئلا إذا ما وقع في يده بالفعل، فلعدم خبرته به يضيِّعه بسهولة. ولهذا
ينبغي له أن يعتني بمعرفة ذلك الشيء وماهيته معرفة ثاقبة لا ضلالة فيها. فمتى عرف
ما هو وما هي صفته؟ سيعرف كيف يهتم باقتنائه. كما ويجب أن يعرف بتدقيق ما الذي يسعى
في طلبه، وما هو الذي يقصده ويترجاه؟ وذلك لئلا يطلبه بأمور غير مستطاعة، وينتظر
تحقيقه كأنه مستطاع.
2- اعلم،
أيها الأخ المتتلمذ للحق، أن طهارة الصلاة وجمع العقل فيها هو هذيذ الفضيلة الحقيقي
الذي يكون لنا باهتمام في وقت الصلاة. وكما أن طهارة القلب التي من أجلها يحذِّر
الآباء، ليس (المقصود منها) أن يكون الإنسان بلا فكر ولا هذيذ ولا حركة تماماً، بلا
إن نقاوة القلب (في الحقيقة) هي أن يكون القلب طاهراً من الشرور، يرى كل شيء حسناً،
وينظر ويفكر بضمير الله. هكذا أيضاً هى الصلاة الطاهرة التي بلا طياشة. فهى لا تعني
أن يكون العقل خالياً تماماً من كل فكر أو رَويَّة في شيء ما، بل أنه لا يطيش في
الأشياء الباطلة وقت الصلاة. وأيضاً ليس أنه إذا طاش العقل في معاني الصلاح والأمور
الجيدة، يكون حينئذ قد بعد عن طهارة الصلاة، بل إنه في وقت الصلاة يهتم بأشياء
واجبة لائقة بضمير مُرْضٍ لله. ولا يُطلب من الإنسان أن لا تجوز فيه تذكارات
(باطلة) عندما يصلى، بل أن لا يلتفت إليها، وأن لا يتفطن ويطيش فيها. فهناك طياشة
رديئة وهناك أيضاً طياشة جيدة.
3- وأنت،
أيها الأخ، لا تطمع أن لا يطيش الضمير، لأن هذا غير مستطاع، بل (اجتهد) أن تكون
طياشته في صلاح. لأن الصلاة الطاهرة إنما هي أيضاً طياشة في شيء ما حسن وصالح؛
لأنها ذِكر وطلب لشيء صالح ضرورى. والطياشة الردية هي أن يطيش الإنسان بأفكار باطلة
أو بهذيذ ما مخطئ وآثم، ويلحظ بهدسٍ (أي يراعى) أفكاراً سمجة وقت صلاته قدام الله.
4- أما
الطياشة الجيدة فهي أن يهدس الضمير في كل مدة صلاته بالله وبمجده وعظمته، يلحظ فيها
ويطيش بالتذكارات التي من قراءة الكتب وأفهام الألفاظ الإلهية والأقوال المقدسة
التى للروح. لأن الذي يجاهد أن يربط فكره بالطياشة في هذه الأمور، أو أن العقل هو
الذي يهدس بها من تلقاء ذاته في وقت الصلاة، جهلٌ هو أن يعتبر هذه الطياشة غريبة عن
طهارة الصلاة. لأن التذكارات النافعة التي (تنبع) من كتب الروح، والأفهام وتصورات
الأمور الإلهية التي تتحرك في القلب وقت الصلاة، هي ليست غريبة عن طهارة الصلاة ولا
مبطلة لجمع العقل.
5- أن
يكون الإنسان منقبضاً إلى ذاته ويتفرس بهذيذ طلبته وسؤال صلاته، هذه هي الصلاة
الجيدة، إن وافقت قصد وصايا سيدنا وغرضها. وهذا النوع من جمع الفكر صالح هو جداً.
فإن كان (العقل) ينطلق من هذه الصلاة ويمتد للإلهيات أو يهمّ بشيء فاضل من أفهام
الكتب عن الله، بما قيل لأجله خاصة، أو ما قيل لعامة الناس بنوع السياسة والتدبير،
ويوماً بعد يوم تقع في الفكر مثل هذه الأمور كلياً أو جزئياً، لكي منها يتحرك
التمجيد لله من عمق القلب، أو الشكر والفرح بعظمته وبارتفاع تحننه ومحبته لنا. فهذا
النوع من الطياشة هو أفضل من الصلاة الطاهرة، وهو حد كل (نوع من أنواع) جمع العقل
ومحاسن الصلاة.
6- وأما
أن يكون الضمير خالياً تماماً من كل هم وفكر، فهذا هو صمت الفكر وليس طهارة الصلاة.
أن نصلي بطهارة، هذا شيء، وأن يصمت الفكر من الطياشة والأفهام في كلام الصلاة ويبقى
بغير حركة، هذا شيء آخر (يختلف تماماً عنه). وجاهل هو من يريد أن يجد هذا (أي صمت
الفكر) بالجهاد أو بقوة الإرادة، لأن هذه هى موهبة استعلان العقل. وليس في مقدرة
الصلاة الطاهرة وإرادة المشيئة سوى هذين النوعين اللذين ذكرناهما، وهما: أن يطيش
الفكر بالصلاة أو بهذيذ طلبته، أو بتاؤرية الكتب والهمِّ الحكيم بالله سيد الكل
بفهمٍ واعٍ. فمن يقول إن جمع الفكر هو وجود شيء آخر غير هذا، فهو قد مرض بعدم
المعرفة وبضمير خرافة.
7- أما
أنت أيها الأخ الحكيم، فلا تطلب من العقل عدم الحركة كالجهال الذين يخرفون، فهذا
الأمر ليس موجوداً للطبيعة (البشرية). بل اعتن أنت أن تجد حركات صالحة في وقت
الصلاة كالحكماء، التي هى: الهذيذ بأفهام كلام الروح، والفكر الدقيق (أي الحكيم)
الذي يضمر في وقت الصلاة مرضاة إرادة خالق الكل. فهذا هو حد كل فضيلة وكل صلاة.
8- فإذا
ما أخذتَ قوة من النعمة، لكي ترتبط بحركاتها هذه على الدوام، فإنك تصير رجل الله،
وتصبح قريباً للروحانيات، وتدنو لاقتناء الشيء الذي كنت تشتهيه وأنت لا تعرفه، أي
الإحساس بالله، ودهش الضمير المنقبض من كل الأشكال، وصمت الروح الذي قال عنه
الآباء. وطوباك إن أُهلت لهذا الفرح والبهجة العظيمة بسيدنا الذي له المجد،
وليكملنا في معرفة أسراره آمين.
في منازل
تدبير السكون
9- إن
جميع عمل هذه السيرة المتحدة التي هى السكون تنحصر في ثلاث منازل: منزلة البداية
ومنزلة الوسط ومنزلة الكمال.
المنزلة
الأولى
10-
ويتبعها الخوف والحزن والكآبة بسبب ذِكر ما تقدم من الإنسان (من الخطايا)، وخوف
ورعب مما يوجَب عليه في الدينونة بالعدل. وهذا النوع الآخر (هو) غرض وقصد المجاذبات
والعزاءات المختلفة التي بها يدنو إلى المواهب، بواسطة الطهارة التي يقتنيها من
البكاء والندم. والتائب الحكيم، بدوام سكونه ونسكه التعب وهذيذه بخطاياه التي تضغطه
بالحزن وتؤلمه: إذ أنه في العادة يلزق به ههنا بكاء مديد، إذا ما أكمل هذه المنزلة
بالأعمال المتواترة، واختلاف أنواع التوبة بمعونة المسيح رجاء حياتنا، وبدأ يمتد
إلى المنزلة الثانية، ينقلب غرض توبته إلى فرح بغير إرادته، إلا أنه يحترس ويخاف
لئلا تكون ضلالة.
المنزلة
الثانية
11-
وعلامتها أن يبدأ الرجاء يتحرك في الضمير بواسطة التوبة، ويبدأ أن يمتزج فيه العزاء
قليلاً، وتتحرك فيه من وقت لآخر اهتمامات تفعل أفراحاً، وينظر نفسه أنه يقدر أن
يجمع فكره من الطياشة بسهولة. وهذا يكون إذا ما تداخل في المنزلة بالكمال: أنه
يبدِّل هذيذ العادة بهذيذ آخر، له زِىّ من نوع آخر لا يشبهه، وأمور أخرى تحل في
العقل ليست لهذه الطبيعة. ويبدأ أن يلاحظ الأفهام السرية المخفية في المزامير، وفي
القراءة وفي بقية الأفعال المحسوسة وتصور تاؤرية فلاحة عمله. ويبدأ الفرح يمتزج
بعمل سيرته، إن كان بالصوم أو ألفاظ الخدمة وبقية أعماله. وحالما يبدأ الصلاة تنقبض
الحواس من غير الإرادة، وتبتدئ الأفكار تجتمع لأنها أحسَّت بجو حَريٍّ (أي أفضل)
متعال عن المجاهدات والحروب. ويرى أن سفينة فكره تسير بنقاوة، بواسطة ترتيب الصلاة
والفضائل، وتتقدم إلى الأمام يوماً بعد يوم. هذه الأشياء مع أمور أخرى أعظم منها
تلزق بهذه المنزلة الوسطى، حتى يرتفع الإنسان بموهبة رحمة المسيح إلى تدبير السيرة
التي هى أعلى من الطبع (البشري).
12- طالما
أنت في المنزلة الأولى، فأكثر من جميع الأشياء، داوم على خدمة المزامير والتلاوة
الكثيرة والقراءة في الكتب. وأقرن بها الجوع الدائم، لأنه هو الذي يطهِّر وينقى
الجسد بحرارته. لأن الجوع له كفاءة أكثر من جميع الأعمال أن يمنح غفران الخطايا
لأجل صعوباته المضغطة، لأنه هو قوة التوبة. والعادات القديمة التي اعتادت النفس أن
تتجاوز بها الشريعة بسماجة هي أيضاً تضعف بالجوع.
13-
وعندما تدنو بالمعونة السماوية لهذه المنزلة الثانية، فحسب قول الآباء، تبتدئ أن
تحس في ذاتك أنك قد وصلت إليها من العلامات التي رسمناها آنفاً، إذ تنظر في نفسك
شيئاً فشيئاً تلك الأمور. عند ذلك أنقص قليلاً من أعمالك الأولى، ولكن لا تقطع أصول
دوامها، بل استبدل شيئاً منها بشيء آخر. فاثبت في الصلاة أكثر من المزامير، ولا
يعني هذا أن تبطل المزامير، بل أن تعطي موضعاً فسحة للصلاة أكثر من التلاوة. وفي
الخدمة أيضاً تعطي موضعاً وإمكانية للصلاة مع باقي السواعى الأخرى. فمن ههنا سوف
تنظر الدالة التي تنالها يوماً بعد يوم. ويأخذ قلبك قوة والأفكار والآلام تضعف،
ويفرح ضميرك على الدوام بالسرور. وينشى (أي يسكر) بالصلاة. وترى نفسك من وقت لآخر
أنك قد صرت شيئاً آخر غير ما كنت أولاً، بسبب الفرح الذي تناله بمعونة النعمة، وتحل
عليك قوة إلهية إذا كنت في السكون والتحفظ.
المنزلة
الثالثة
14 - إنه
من حيث يبدأ الإنسان بتدبير سيرة الفكر، الذي هو الهذيذ بالإلهيات، وإلى أن يصل إلى
تدبير السيرة الروحانية، الذي هو الدهش بالله، فهو أكثر من كل الأعمال مضطر للصلوات
بتغصب، التي تكمل بالمطانيات، وأن لا يبطل من الصوم أبداً، وأن يأخذ من الغذاء على
قدر ما يقوم به الجسد في عمل الصلاة هذا. فإذا ما دنا واقترب من سيرة المنزلة
الثالثة، وحظي بحدودها، فإنه من ههنا يجد أن الأشياء التي كان يعملها بتغصب في هذا
الموضع، أصبح الآن ينجذب إليها باضطرار الحلاوة في كل وقتٍ، ويتخلف عنه التغصب.
والذي يجذبه إلى هذا بغير إرادته هو الدهش حيث يوجد على الدوام - من أجل تنعمه
بالأفهام - جاثياً على وجهه، بلا أفكار ولا حواس الصلاة، وبلا طياشة ولا هذيذ. بل
يكون له إحساس بما هو هناك. ولا أعنى بذلك عن الدهش الكامل في طبيعة المسجود له سيد
الكل، بل أن العقل يرتفع عن هذه الأمور السفلية, ويبقى في حس الدهش بسياسة تدابير
الله المملوة إفرازات، والعوالم والأجيال. ويقع هذا في النفس، وبالأشياء التي تنفعل
بها كل يوم وفي كل وقت، إن كان في الخفاء أو في الظاهر. لأنه متى تحرك العقل في
النعمة في الأمور الروحانية، فلأجل حلاوة المعرفة يتخلف من الهذيذ والذكر وقتاً
كثيراً وهو في دهش.
15- لقد
شبَّه الآباء القدماء نفس المتوحد بالعين، لأنها كلما كانت هادئة من كل طنين السماع
والنظر، يستطيع المتوحد أن ينظر الله وذاته بصفاء, وينشل من ههنا مياهاً عذبة، التي
هى أفكار التقانة (أي نقاوة التجديد المزمع)، أما إذا اقترب من السماع والنظر، فهو
بسبب الاضطراب الذي تقبله نفسه، يشبه إنساناً يسير في الليل وقت انتشار السحب في
الجو فلا ينظر أمامه طريقاً ولا سبيلاً، وبسهولة يتوه ويضل في بلاد قفرة مؤذية.
فإذا ما هدأ مع نفسه يكون كمن تهُبُّ له ريح حسنة، وتجعل الجو بهجاً فوق رأسه،
ويبدأ أن ينير أمامه، فينظر ذاته ويتميز كيف هو، وإلى أين ينبغي أن يمضى، وينظر
منزل الحياة من بعيد.
16- ولأن
جيلنا الردئ هذا يا إخوتي، لا يساعدنا لكي نجد الهدوء بالتمام والسكون الحقيقي
مثلما كان في الأجيال الأولى، فأي موضع نكون فيه، فلنجلس مع نفوسنا ولو كان ليوم
واحدٍ، ليس في الدير فقط بل وفي الطريق وفي أي موضع كان، ولو لساعة واحدة. فقد عبر
ذلك الزمان الذي كان يوافق؛ ولهذا لا تنتظر العدل والترتيب، بل يوماً بيوم نطلب أن
نهدأ قليلاً، ولو تحت سقيفة أو في خرابة. باختصار، كل موضع يقع بيدنا السكون
فلنضبطه حسناً بالانقباض إلى نفوسنا، إن كان يوماً أو اثنين؛ لأن الحكماء هكذا
يقتنون أنفسهم في هذه المدة القصيرة من حياتهم، لئلا يدركنا الموت بغتة، وما نبلغ
أملنا. وإن كان ثمة راهب فيه كفاءة لنعمة السكون هذه، وحظي بها من الله، ويعترضه
أحد من الأساقفة أو رؤساء المجامع ليمنعه من السكون، تكون عليه دينونة ويعطي عنه
الجواب قدام المسيح، ولربنا المجد دائماً أبدياً أمين.
كمل
بسلام من الرب ما وجدناه في الجزء الأول لمار إسحاق، وبقيته لا توجد إلا في بلاد
السريان. الرب يغفر لنا خطايانا وخطايا الرهبان آمين. |