من هم المسيحيون الأوائل؟
نحن على يقين من أن المسيحيين الأوائل لم يأتوا كلهم من محيط واحد. فمنهم من كانوا
يهود مؤمنين يترددون إلى الهيكل. ومنهم من كانوا ينتمون إلى مجموعات أبعد عن الدين
القويم، كانت تعيش على هامش الهيكل والدين اليهودي الرسمي (فكان يسهل عليهم أن
يلتحقوا بإحدى الحركات المنشقة). وأخيرًا، كان هناك فئة ثالثة تنتمي إلى جماعات
يهودية تعيش في الخارج (في الشتات)، فكانوا يحجون إلى أورشليم ويسمعون الكرازة
المسيحية الأولى، ثم يعودون مقتنعين بأن المسيح قد جاء. ومما لا شك فيه أن جميع
المسيحيين الجدد في أول عهد المسيحية كانوا يهود، حتى أولئك الذين ندعوهم
[هلينستيين] والذين، رغم كونهم يهود، كانوا ذوي ثقافة يونانية ويتكلمون اليونانية
عادة، فاصبحوا، في قلب أورشليم المسيحية التي من أصل يهودي، عنصرًا أساسيًا في
التقدمز وقد ترك بعضهم تأثيرًا بالغـًا، كإسطفانُس الذي مات شهيدًا، وفيلبس الذي
بشر السامرة...
ولكن، إن أردنا أن نتجاوز هذه التوضيحات، وجب علينا الاعتراف بأننا لا نستطيع أن
نرسم على وجه ثابت خارطة سوسيولوجية توضح معالم اليهودية، حتى في أورشليم، في الوقت
الذي وُلدت فيه الرسالة المسيحية.
أأغنياء كانوا أم فقراء؟
في أورشليم، لا شك في أنهم لم يكونوا أغنياء. فمن جهة، كانت المدينة تمر بأزمة نقص
بالغ حد المجاعة. ومن جهة أخرى، حرم عدد من المهتدين أنفسهم من مواردهم، بعد أن
ابتعدوا عن الهيكل، وكانت تتدفق إليه مبالغ ضخمة يتبرع بها يهود العالم أجمع.
ويدل على هذا الوضع اضطرار بولس إلى جمع التبرعات من جماعات الخارج (أي الشتات)،
كما يشير تشديد أعمال الرسل على ذكر تقاسم الخيرات، إلى أنه كان من المهم جدًا أن
يسخى بعضهم على بعضهم الآخر.
لا يخفى علينا أن لكلمة "فقر" في التقليد الكتابي معنى روحيًا: هو الفقر الروحي
أمام الله. ولكن، عندما طلب رؤساء جماعة أورشليم ([الأعمدة]، كما ورد في النص) إلى
بولس أن يتذكر الفقراء، فرد بأن (هذا ما يجتهد أن يقوم به)، كما جاء في الرسالة إلى
أهل غلاطية، وكان الأمر يتعلق بالفقر المادي ولا شك. ولعل الوضع كان مختلفـًا في
الجماعات المسيحية البعيدة عن أورشليم. فيبدو انه كان بين المهتدين عدد من
الميسورين أمثال أرسطس، خازن مدينة كورنتس (روم 16: 23)، أو من التجار، أمثال ليدية
الوارد ذكرها في أعمال الرسل والتي دعت بولس ورفقاءه إلى الإقامة عندها (أعمال 16:
14).
هل كانت الجماعات كثيرة العدد؟ وأين كانت تجتمع؟
يتحدث كتاب أعمال الرسل عن أعداد كبيرة من اليهود اهتدوا إلى المسيحية في أورشليم،
ويقدرها بنحو ثلاثة آلاف نفس. فهل نعوّل على تلك الأرقام؟ إن الانتشار المسيحي
المدهش يفرض علينا أن نأخذها على محمل الجدّ. وفي (1كور 15: 6-8)، وهو قديم جدًا،
يدور الكلام على (تراء لأكثر من خمسمائة أخٍ معًا).
ومن ناحية أخرى، قيل لنا إن تلك الجماعات كانت تجتمع في بعض العائلات. فحين خرج
بطرس من السجن، توجه إلى بيت مريم، ام يوحنا مرقس، حيث (كان الإخوة يصلون). وذ ُكر
أيضًا أن الرسل كانوا يجتمعون في البيت لـِ (يكسروا الخبز). ففي وسعنا أن نستنتج
أنه كان هناك، على ما يبدو، إلى جانب المجتمعات الموسعة، عدة جماعات صغيرة تلتقي في
بيوت بعض أعضاءٍ من أعضائها.
هيكل أورشليم ودوره
كتب لوقا أن تلاميذ يسوع كانوا يواضبون على الصلاة في الهيكل. فلم يكن هناك انفصال
حقيقي عن العادات الدينية القديمة، بل ظهرت، بشيء من الاستمرارية، اشياء جديدة.
وكان هذا الجديد يكمن في الإيمان بالمسيح القائم من الموتن وهو حدث حاسم تمامًا في
نظر ما عاشه المؤمنون حتى ذلك اليوم. فكانوا يؤمنون بأن المسيح، الذي كانوا
ينتظرونه مع الشعب اليهودي بأسره، قد جاء، وأن يسوع هو المسيح وأنه حيّ فيجب انتظار
عودته.
وكان من الواضح ان هذا التعايش في الهيكل، بين مؤمنين يهود ينتظرون مجيء المسيح –
مجيء مسيح ملكي ومجيد – ومؤمنين مسيحيين على يقين بأنه قد جاء في شخص يسوع ويرجون
عودته، لن يلبث أن يتحول إلى مصدر منازعات. فأوقف الرسل وحُكم عليهم، وكتب للتعايش
أن لا يطول عمره.
دور النساء
إن اختيار الرسل الاثني عشر من بين الرجال، إلى جانب بعض صفحات من رسائل بولس، التي
جعلته يُتهم ببُغض النساء، حمل على الاعتقاد أن الكنيسة القديمة كانت كنيسة محصورة
في الرجال. غير أن الأمر لم يكن هكذا اطلاقا. ففي الأناجيل الأربعة، نرى النساء
حاضرات ونشيطات. فمنذ البدء كانت مشاركتهم في الرسالة مهمة جدًا. فقد كان دورهن
الأول دور استقبال. ولما كان المسيحيون الأولون يجتمعون في البيوت، فكثيرًا ما كان
يُعهد إلى النساء باستقبالهم. وفي فيلبي المقدونية، أصبح بيت ليدية أول مركز رسولي
في أوروبا. وكذلك، كان النسوة يتنبأن على غرار الرجال (في قيصرية، كانت بنات فيلبس
يتنبأن: أعمال 21:9).
وجاء في أعمال الرسل أن برسقلة وزوجها أقيلا، وهما حُرَفيان، توليا تعليم أبُلس،
ذلك الرجل الإسكندري المثقف الذي أصبح أحد ألمع معاوني بولس. وتجدر الإشارة إلى أن
اسم برسقة (أو برسقلة، وهو تصغير برسقة) ذ ُكر قبل اسم زوجها.
إن بولس لم يُنكر على الاطلاق دور النساء، بل الأمر على عكس ذلك. ففي ختام رسالته
إلى أهل رومة، كتب أن برسقة وأقيلا قد عرضا عنقيهما للضرب لكي ينقذا حياته. في هذا
النص نفسه، سلم بولس على عدة أصدقاء ذ ُكرت بينهم نساء لم يكن فقط أخوات الذين
يراسلهم او نساءهم، بل كن أيضًا نسوة لهن دور أساسي في الجماعات: أمثال فيبة،
شمّاسة كنيسة قنخرية (أي على الأرجح المسؤولة عن الجماعة الصغيرة في قنخرية القريبة
من كورنتس)، ومريم وطروفانية وطروفوسة وبرسيس اللواتي (أجهدن أنفسهن كثيرًا في الرب)،
على حد قول بولس، علمًا بأن الرسول كان يخص بتلك العبارة أولئك الذين كانوا يضطلعون
بمسؤوليات ضخمة (1تس 5: 12 و 1كور16).
ولكن، هل كان النسوة يشاركن في العبادة؟ ان مفهوم العبادة الذي يعرضه بولس يتلخص
تقريبًا في ما يلي: من حق الرجل وحده أن يتلو صلاة الحمد الرسمية، وهذا مبدأ يهودي.
ومع ذلك، كان النساء يشاركن مشاركة فعالة في الاجتماعات الطقسية لأنه يجوز لهنّ أن
يصلين (بصوت عال) أو يتنبأن (1كور11: 5)، وذلك أمر غير معقول في المجتمع. ولكن، لا
يجوز لهن أن يفعلن ذلك إلا إن كان رأسهن مغطى. فهناك التجديد والتقليد في ارتباط
وثيق: التجديد لأن المرأة تقوم للمرة الأولى بوظيفة ليتورجية، والتقليد لأنها تحترم
العادة اليهودية القاضية بوضع القناع، رمز الحشمة والكرامة.
نظرة مجمَّلة إلى الكنيسة في (أعمال الرسل)؟
صحيح ان وصف بدايات الكنيسة، كما ورد في أعمال الرسل، هو وصف مثالي. وهناك ما يبرره.
فقبل كل شيء لم يعرف لوقا حياة الكنيسة في أول أمرها. ولا يُستبعد أن يكون قد أسقط
على الكنيسة، التي يعيش فيها ويكتب إليها، نظرة مثالية إلى ما كانت عليه في أول
عهدها (في حين أن بولس الذي تظهر وثائقه على طبيعتها، كان أكثر واقعية). وهذا شأن
المقاطع التي نسميها {الفقرات بصيغة الجمع} (وهي نوع من يوميات أدرجت في الأعمال،
ولا تتسم بالمثالية). وهناك سبب آخر، وهو ان لوقا مؤلف، وهو يعلم أن التاريخ المقدس
لا يُروى كأي تأريخ آخر. فاستخدم عناصر تاريخية ولكنه صاغها في أسلوب أدبي خاص.
وعلى سبيل المثال، تشهد نصوص الصعود والعنصرة على تلك المعالجة الخاصة التي أخضع
لها لوقا الكاتب تاريخًا حقيقيًا. ويصعب علينا أحيانًا أن ندرك الحقيقة في دقتها –
(ما كان معاشًا) – من خلال (ما هو مروي). ولا شك في أنه لا يجوز أن نأخذ كل تفصيل
من التفاصيل على حرفيته.
لا بد لنا من الفطنة في تفسير النصوص. يمكننا التيقن من ان لوقا جمع شهود عاينوا
الأيام الأوائل تفاصيل تتعلق بحياة المسيحيين العمليّة واليومية.
وعندما يتحدث عن تقاسم الخيرات في (أعمال 4: 32)، يتفق مثلا مع ما كشفته لنا نصوص
البحر الميت عن حياة الأسينيين الديريّة. ولا شك في ان التقاسم كان منتشرًا في بعض
الجماعات الأوَل، والصعوبة تكمن في أن لوقا عالج تلك الحقيقة كـ (لوحة) ذات قيمة
مثالية.
وجدير بالذكر، على كل حال، أن أشار إلى صعوبات كانت تعترض محاولة التقاسم هذه. فروى
قصة حننيا – وهي رواية منمًّقة بدون شك – التي تشهد على تحفظ بعض المهتدين في وضع
ممتلكاتهم تصرف الجماعة.
والعبارة الواردة في (اعمال 4: 32): "قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة" هي عبارة مقتبسة
من كتب الأنبياء. فإن المسيحيين الأولين كانوا يشعرون بأي اتجاه يهب الروح. ويشهد
التاريخ أنه في أصل الحركات الدينية الكبرى غالبًا ما يكون الازدهار روحي. فلا شك
في أن السنين الأ ُوَل من عمر الكنيسة عرفت ربيع نعمةٍ وسخاء.
المواهب
من الواضح أن الجماعات الأوُل شهدت (موجات مواهبية)، فكنت ترى في الاجتماعات بعض
أعضاء من الجماعات يقومون باسم الله، فيعطون التوجيهات، ويكشفون لهذا أو ذاك، أو
يوضحون له، الدعوة الإلهية الموجهة إليهم، كما يشهد على ذلك نصّ من أقدم النصوص في
سفر الأعمال (أعمال 13: 1-3) في شأن شاول وبرنابا. وكانت هذه أول مهمة كبرى من مهام
بولس الرسول.
وفي السنين الأ ُول تلك، كان دور النبيّ وظيفة واضحة المعالم، ومع ذلك، كان في قلب
الجماعة نفسها نوع من الحركات النبوية المنتشرة. وقد تجلى ذلك في العنصرة، وكذلك في
الجماعات التي تحدث بولس عنها في رسالته الأولى إلى أهل كورنتس.
هل كانت الكنيسة مؤسسة من المؤسسات؟
إن الحديث عن المؤسسات في شأن الكنيسة، بالمعنى الذي نستخدمه اليوم، مع ما يتضمن من
سلطة تسلسلية وتنظيم... يكون في غير محله.
ومع ذلك، لا يُستبعد أن يكون (الاثنا عشر) قد قاموا بدور على جانب كبير من الأهمية
في الجماعة الأولى، فكانوا من بين أول شهود القيامة، كما ورد في (1كور 15). والرقم
12 يستند بدون شك إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر الذين كانوا بمثابة بنية شعب الله.
وقد وصف لوقا مشهد العنصرة وفقـًا لهذا التصميم (جَمع يتألف من نحو مائة وعشرين
شخصًا يحيطون بالرسل، (أعمال 1: 15). كذلك كان بطرس و(الأحد عشر) في وسط الجمهور
المتجمع (أعمال 2: 14). وتلك الكنيسة المبنية على هذا الشكل نالت الروح منذ قليل،
ومنها انطلقت الرسالة.
الجماعة والمعمودية
كان المهتدون ينضمون إلى جماعة الرسل بالعماد الذي يجب أن يتم بالتغطيس، كاعتماد
يسوع على يد يوحنا المعمدان.
ولا شك في أنه كان هناك تشابه كبير بين المعمودية المسيحية ومعمودية يوحنا. لكن
جميع النصوص تقيم فرقـًا بين معمودية الماء (التي مارسها يوحنا) والمعمودية بالروح
(معمودية يسوع). ومن الثابت أن تلاميذ يسوع، الذين عمّدهم يوحنا، لم يُمنحوا العماد
ثانية. فالعنصرة كانت عمادهم بالروح. لكن معلوماتنا عن تلك المرحلة الانتقالية تبقى
غير واضحة. ففي إنجيل يوحنا مثلا، نقرأ ان يسوع كان يعمِّد، حتى ان بعضهم رأوا في
ذلك تنافسًا بين تعميد يسوع وتعميد يوحنا المعمدان (يو3: 26). ولكن الكاتب يوضح في
(يو4: 2) قائلا إن يسوع نفسه لم يكن يعمِّد، بل تلاميذه. فيمكننا أن نستنتج أن
يوحنا المعمدان ويسوع قاما مدة من الوقت بخدمة رسولية متوازية.
كانت معمودية يوحنا معمودية توبة، تدعو إلى تطهير أخلاقي وتغيير في الحياة. ولقد
دعا يسوع نفسه إلى التوبة في أثناء حياته الأرضية. وهذه التوبة هي العنصر الأساسي،
فالمعمودية التي منحها هو أو تلاميذه لا يختلف معناها، على ما يبدو، عن معنى
معمودية يوحنا.
ولكن بعد موت يسوع وقيامته، ظهر تطوّر في المعمودية. ونحن نعلم من مطالعتنا أعمال
الرسل أن بولس عند وصوله إلى أفسس، لقي فيه جماعة مسيحية لم تكن تعرف سوى معمودية
يوحنا ولم تسمع قط أن هناك روح قدس (اعمال 19: 1-7). كذلك، أظهر أبُلس جهلا تامًا،
فكان على برسقة وأقيلا أن يرشداه (أعمال 18: 26).
وكان بولس أحد الذين استفاضوا في علم لاهوت المعمودية. فحتى ذلك الحين، كانت
المعمودية تـُعتبر نوعًا من الموت عن الخطيئة، ولكن بولس أوضح أن المقصود هو ان
نموت (مع يسوع) لنولد ثانية (مع يسوع) لحياة الروح الجديدة. ولم ير بولس في
المعمودية حياة أخلاقية جديدة وحسب، بل كائنا جديدًا هو مشاركة في يسوع الكائن
القائم من الموت.
ولكن، هل كانت هناك مرحلة تحضيرية تسبق المعمودية، كما نفعل اليوم في اعتماد
الراشدين؟ لا، فإن نصوص أعمال الرسل كلها تتحدث عن معمودية فوريّة. وجدير بالذكر ما
ورد في سفر الأعمال عند اهتداء قـُرنيليُوس حيث سبقت موهبة الروح رتبة المعمودية.
فبينما بطرس يتكلم، "فاض الحاضرون بالروح القدس"، فدهش المؤمنون جميعًا عندما رأوا
أن موهبة الروح القدس أفيضت على الوثنيين أيضًا. عندئذ قال لهم بطرس: "أيستطيع أحد
أن يمنع هؤلاء من ماء المعمودية وقد نالوا الروح القدس مثلنا؟". ثم أمر بتعميدهم
باسم يسوع المسيح (أعمال 10: 44-48). فمنذ البدء، كان هناك تمييز بين الرتبة
الضرورية لدخول الكنيسة وعمل الروح القدس الذي يتجلى بحرية مطلقة. ولكن لا بدّ من
التكرار: الرتبة ضرورية.
إيمان المسيحيين الأولين
يبدو أن شهادات الإيمان الأول كانت بمنتهى البساطة. وتقضي أساسًا بالإيمان بأن "يسوع
هو الرب" (كيريُوس باليونانية).
وهذه الكلمة اليونانية تعني "سيد" في اللغة الشائعة، أما في الإطار الديني الذي عاش
فيه اليهود الناطقون باليونانية، فقد استُعمل للتعبير عن اسم الله الذي لا يُوصف.
فمن اعترف بأن يسوع هو "الرب" اعترف حقا بأنه "صعد إلى يمين الله". ومن اعترف بأنه،
في الوقت نفسه، المسيح المنتظر منذ عدة قرون، آمن بأنه نال السلطة من الله ليُتم
الوعود اللالهية على أكمل وجه، وبأننا به ندخل العهد الجديد، وبأنه يهب الروح الذي
وعد به الأنبياء. فإن إيمان التلاميذ الأولين كان يحمل بذور التطورات المستقبلية
التي مر بها علم اللاهوت المسيحي، ولكنه كان بمنتهى البساطة.
كسر الخبز والإفخارستيا
يعتبر معظم المفسرين أن "كسر الخبز" كان يعني احتفالا إفخارستيًا. وبحسب هذا الرأي،
يكون المقصود أمرًا واحدًا: أي حضور الرب بين تلاميذ يسوع المجتمعين باسمه
والمقيمين ذكره. لا شك في ان المسيحيين الأولين لم يحددوا مفهومهم اللاهوتي حول "الحضور
الحقيقي" كما تعبر عنه اليوم الكنيسة. ولكنهم اختبروا بدون شك في اجتماعاتهم الأولى،
وبقوة شديدة، حضور المسيح، الرب القائم من الموت، وارتباطه برتبة الافخارستيا.
يصعب علينا جدًا أن نعرف ما كانت عليه الرتبة الإفخارستية. وليس في وسعنا إلا أن
نذكر الافتراضات بحذر انطلاقًا من مختلف النصوص التي بين أيدينا.
إن أقدم النصوص هو الرسالة إلى أهل كورنتس حيث يروي بولس تقليدًا سابقًا: "فإني
تسلمت من الرب ما سملته إليكم، وهو أن الرب يسوع، في الليلة التي أسلم فيها، أخذ
خبزًا وشكر، ثم كسره وقال: "هذا هو جسدي، إنه من أجلكم. إعملوا هذا لذكري". وصنع
مثل ذلك على الكأس بعد العشاء وقال: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي. كلما شربتم
فاعملوه لذكري..." (1كور 11: 23 وما يلي).
ولا شك في أن تلك الطريقة في الاحتفال بالإفخارستيا عريقة في القدم. ولكن لا يمكننا
أن نجزم أنها كانت الطريقة الوحيدة. ذلك بأن نصوص أعمال الرسل تتحدث عن "كسر الخبز"
من دون الإشارة إلى وجود الخمر. ويبدو أن لوقا نفسه، وهو الذي كتب سفر الأعمال،
اعتبر أيضًا، في رواية تلميذي عمّاوس، ان كسر الخبز هو رتبة افخارستية: "ولمّا جلس
معهما للطعام، أخذ الخبز و... ناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه... فرويا ما حدث في
الطريق، وكيف عرفاه عند كسر الخبز" (لو24: 30 و 31 و 35). ويرى معظم أهل الاختصاص
أن هذا النص يعكس ليترجيا الاجتماعات التي كانوا يشرحون فيها الكتب المقدسة أولا،
كما سبق ليسوع أن شرحها لتلاميذه، ثم "يعرفون" يسوع عن كسر الخبز.
وهناك نص آخر يُظهر لنا كيف تقاسم يسوع الخبز والسمك مع رسله (يو21). ووردت هذه
الرواية بعد القيامة أيضًا. فهل يمكننا ان نفترض أن بعض الجماعات لم تكن تستند في
اجتماعاتها الطقسية إلى العشاء الأخير وحسب، بل إلى وجبات طعام أخرى تناولها يسوع
مع رسله قبل موته وقيامته أو بعدهما؟ لا شكّ في أن حادثة الأرغفة (والسمك) اعتـُبرت
دائمًا صورةً افخارستية.
وإذا كان المسيحيون الأولون لم يستخدموا الخمر دائمًا في احتفالاتهم، فلعل ذلك يعود
إلى كونهم استندوا إلى وجبات طعام اخرى تختلف عن العشاء الأخير (الذي قُدمت فيه
الخمر لأنه عشاء فصحي). ولكن هناك أمرًا آخر، وهو أن الخمر لم تكن دائمًا في متناول
الكثير من مسيحيي الكنيسة الأولى، وذلك بسبب فقرهم من دون شكّ.
الملامح الروحية التي امتاز بها المسيحيون الأولون
إن أكثر ما يُذهل عند المسيحيين الأولين هو جرأة إيمانهم. فكان لا بدّ من "الوقاحة"،
إذا جاز التعبير، ليؤكدوا في وجه السلطات اليهودية والرومانية كلها أن ذلك المصلوب
الذي حكم عليه الجميع هو المسيح الذي وعد به الأنبياء. ولم يعد عندنا اليوم أي فكرة
عمّا كان يمثله عِثار الصليب، فإن يناقض في الظاهر جميع المواعد.
ويجب أن نضيف أن هذا الإيمان تعرض لتجارب قاسية لأن المسيحيين الأوائل كانوا يرجون
عودة سريعة للمسيح. إلا أن الوقت انقضى، والمسيح لم يعد. فتبلبلت القلوب متسائلة: "لم
تأخرالمسيح إلى هذا الحد؟ لِمَ لم تـُوافق نهاية الأزمنة عودته المجيدة إلى الآب؟
كيف يسمح المسيح القائم من الموت أن يموت المؤمنون به؟....".
حاول الرسل جاهدين ان يُجيبوا عن تلك الأسئلة قائلين: "إن الله لا يخل بمواعده، بل
هو يُمهل الخاطئين فقط لكي يتوبوا. اما في ما يتعلق بموتاكم فلا تحزنوا كمن لا رجاء
لهم: فعند عودة المسيح القائم من الموت، سيصطحب جميع الذين رقدوا على محبته. أما
نحن فإن كنا أحياء عند عودته فلن يكون لنا مصير أفضل...".
وفي حين نجد نحن صعوبة كبرى في أن نعيش على رجاء عودة المسيح لشدة ما تبدو لنا
بعيدة، لم يكن في استطاعة المسيحيين الأولين أن يتحملوا إبطاءه. وقد احتاجوا إلى
وقت طويل ليسلموا بأن الوعد الذي وعده المسيح نفسه قد يمتد على قرون. فكانوا يعيشون
في انتظار حار للرب يسوع، كما تشهد على ذلك خاتمة سفر الرؤيا، وهو كتاب يرقى عهده
إلى نهاية القرن الأول، وقد حفظ لنا هذا الدعاء وهو قديم حتى إنه لم يُصغ اليونانية،
بل باللغة القديمة المحكية في فلسطين أي الآرامية: "مارانا تا! تعال، أيها الرب
يسوع!". |