مقدمة
الكلام عن آباء الكنيسة يعود بنا الى القرون الاولى للمسيحية، أي من الفرن الثالث
وحتى اوائل القرن الثامن. هؤلاء الآباء هم لؤلؤة ناصعة في جبين الكنيسة، ورثوا عن
الرسل والتلاميذ الكتاب المقدّس وتقليد الكنيسة وتعاليمها، فكانوا علماء ولاهوتيين
ورعاة وأيضاً آباء روحيين.
هؤلاء الآباء ارتكزوا أولاً وآخراً على الكتاب المقدّس، فاستوحوا تعاليمهم فدرسوها
بعمق بهدف ايصالها الى الناس من أجل تثقيفهم للوقوف بوجه الاخطار الفلسفية
واللاهوتية الخاطئة كمذلك بالتصدّي للبدع والهرطقات. منها على سبيل المثال حول
الثالوث في القرن الرابع وحول سرّ المسيح الاله- المتجسّد في القرن الخامس.
ماذا نعني بآباء الكنيسة؟
إنهم ينتمون الى عدّة مدارس، منها مدرسة الاسكندرية ومنها مدرسة انطاكية، وهناك
أيضاً الآباء السريان وآباء الكبادوك والآباء اللاتين. أما المدرستان الكبريان في
تلك الحقبة فهما مدرستا الاسكندرية وانطاكية وكانتا على خلاف فكري وفلسفي بينهما.
فكلّ منهما تبنّت طريقة خاصة في تفسير الكتاب المقدّس، ممّا ادّى الى سوء التفاهم
والى التباعد. في انطاكية كان اللاهوتيون والمفسّرون أكثر ميلاً الى النظرة
الارسطوطالية، ومهتمّين بالحقائق الملموسة المرئية ويعتمدون على التفسير الحرفي
للكتاب المقدّس باللجوء الى المعلومات التاريخية والتحليل العقلي والمقارنة بين
اقوال الكتاب المقدّس والنظريات الفلسفية. ففي اقرارهم بألوهية المسيح كانوا ينظرون
الى حياته الانسانية الارضية.
امّا مدرسة الاسكندرية، فكانت اكثر ميلاً الى الافلاطونية والى التفسير التأويلي
الرمزي للحقائق. فالأمر الذي كان يشدّ اهتمام اساتذة الاسكندرية في المسيح كان
لاهوته اكثر من ناسوته. وكان هذا الاختلاف في الاسلوب المدرسي يزداد حدّة بسبب
النعرة العنصرية والتنافس على الكراسي الاسقفية.
القسم الأول: تيودوروس
أ- من هو تيودوروس المبسوسطي (اسقف المصيصة)؟
لقد اخترت الاسقف تيودوروس لأسباب عديدة:
1- لأنه الوجه الاكثر تمثيلاً لمدرسة انطاكية من حيث التفسير الكتابي، في حين كان
صديقه القديس يوحنا فم الذهب كان الخطيب الاول لهذه المدرسة.
2- لأن هذا الاسقف لم يكن فقط مفسّراً وشارحاً كتابياً، بل اكثر من ذلك لأنه كان
راعياً غيوراً ومحبّاً لرسالته ولشعبه.
3- لأنه في تعليمه ورعايته كان يرتكز على الاناجيل الإزائية وعلى انجيل متّى بنوع
خاص. فهذا الانجيل يعطي النموذج الحّي ويعلّمنا كيف ننتمي ونعيش في قلب الكنيسة.
وهو غني بالمواعظ وبالتعليم ومفيد للموعوظين الذين يتأهبّون لاكتشاف كل جوانب
الحياة في الكنيسة.
4- لأن معظمنا ينتمي الى كنيسة انطاكية، اخترت تيودوروس، عارضاً طريقته التعليمية
وشرحه الراعوي وبالتحديد لصلاة الابانا بحسب انجيل القديس متّى.
ولكن وقبل ان نتعرّف الى شرحه للصلاة الربيّة تعالوا نتعرّف سريعاً الى حياته
ومؤلفّاته.
ب- حياته ومؤلفاته:
أولاً- حياته
ولد تيودوروس في مدينة انطاكية سنة 350 من عائلة غنيّة. تتلمذ مع يوحنا فم الذهب
على يد لوقيانوس مدرّس البيان والبلاغة ومؤسّس المدرسة الانطاكية.
اختار بعد تردّد الحياة الرهبانية سنة 370 بعد ما قبل سرّ العماد المقدس.
- سيم كاهناً سنة 383 على يد فلابيانوس اسقف انطاكية.
في فترة كهنوته، تتلمذ على يد ديودوروس اسقف طرسوس، وتشبّع من مبادئ التفسير
الكتابي واللاهوتي. في هذه الفترة عُقد مجمع خلقيدونية أي سنة 381 وفيه اقرّ الآباء
المجتمعون قانون الايمان كما نصلّيه نحن اليوم.
- سيم اسقفاً سنة 392 على مدينة مبسوسطية او المصيصة كما نسمّيها اليوم وهي مدينة
تبعد 30 كيلومتراً الى الشمال من مدينة انطاكية. بقي في الاسقفية حتى وفاته سنة
428.
- بعد وفاته، وبسبب الجدال حول سرّ المسيح الاله- المتجسّد وتحريم
نسطور الانطاكي، وبطريرك القسطنطنية، اعتبر تيودوروس نسطورياً وأباً للنسطورية لأنه
كان معلماً لنسطور، فهاجمه خصومه وخصوم النسطورية وحرموه في مجمع القسطنطنية سنة
553 أي 125 سنة بعد موته، فأحرقت كتبه اسوة بديودوروس الطرسوسي وهييا الرهاوي.
- امّا كنيسة فارس التي كانت تقع خارج الامبراطورية البيزنطية، فقد اعتبرت وما
تزال، ان تيودوروس هو اللاهوتي الثابت الذي لا يحقّ لأحد ان يميل عن تعليمه. لذلك
نجد في هذه الكنيسة اكثر المعلومات عنه وأهمّ اعماله الكتابيّة واللاهوتية.
ثانياً- مؤلّفاته:
1- الشروح: شرح معظم اسفار الكتاب المقدّس أي العهد القديم والجديد.
2- المؤلفات اللاهوتية: شرح قانون الايمان والاسرار وهي ما نسميّها العظات
التعليمية الست عشرة. وشرح كذلك سرّ التجسّد وتحدث عن الروح القدس وردّ على اصحاب
البدع.
3- العظات التعليمية: هذه العظات تضمّ ست عشرة عظة. والعظات العشر الاولى تتطرّق
الى قانون الايمان، والعظات الست الباقية تحدّثنا عن الابانا (عظة واحدة) وسرّ
المعمودية (3 عظات) والقداس الالهي (عظتان). النصّ الاساسي الذي وصلنا هو في اللغة
السريانية وقد ترجم الى الفرنسية ومن ثمّ الى العربية على يد الخوري بولس الفغالي.
القسم الثاني: صلاة الأبانا
1- الابانا في عصر الآباء:
بعد شرحه لقانون الايمان يقول تيودورولس: "لقد انهينا البارحة، بنعمة الله، حديثنا
عن النؤمن... واليوم يحسن ان نقول ما هو ضروري عن الصلاة التي سلّمنا ايّاهـا
ربّنا... فهو الذي قال: اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمّدوهم بأسم الآب والابن
والروح القدس". وزاد: "علّموهم ان يحفظوا كل ما اوصيتكم به" (متّى 19:28). ويضيف:
"لهذا، ارفق آباؤنا النؤمن بالصلاة التي فيها تعليم كاف عن الآداب والتي اوجزها
ربّنا وسلّمها الى تلاميذه" (عظة 11: 1).
صلاة الابانا او الصلاة الربيّة كما سمّاها لأول مرّة القديس قبريانوس (+ 258)، هي
التي علّمها يسوع لتلاميذه بحسب انجيل متّى 9:6-13 وهي تحتوي على سبع طلبات
بالمقارنة مع صلاة الابانا عند لوقا 11: 2-4 التي تحوي خمس طلبات. طلبات الابانا
تقابلها من حيث المعنى والمبنى، الصلوات اليهودية ولا سيما "صلاة الطلبات الثماني
عشر" التي لا يزال اليهود يتلونها اليوم. والصلاة في انجيل متّى هي من الاركان
الثلاثة الى جانب الصدقة والصوم التي تقوم عليها التقوى اليهودية (فصل 6: 1-17).
إن أول من شرح الابانا باسهاب هو ترتليانوس، في اوائل القرن الثالث. ومنذ ذلك الوقت
أُدخلت في ممارسة سرّ العماد. وبعده القديس قبريانوس أي في النصف الثاني من القرن
الثالث. كما شرح الابانا ايضاً معظم آباء القرن الرابع امثال اغسطينوس وامبروسيوس
وادرجوها في اسرار التنشئة (العماد- الافخارستيا- التوبة) وكذلك في الذبيحة
الالهية.
ففي قرطاجة مثلاً، كان على الموعوظين تعلّم الابانا والنؤمن غيباً واعلانها جهاراً
امام المؤمنين اثناء قبول سرّ العماد.
أمّا في اورشليم، فإن القديسة كيرلّس (+ 386) كان يشرح هذه الصلاة اثناء الذبيحة
الالهية، ويطلب من المؤمنين ان يتلوها بعد النافور وقبل التقدّم من المحاولة.
يخبرنا دانيالو عن اهميّة الابانا: في قرطاجة كان التقليد يقضي، بعد تلاوة الصلاة
الربيّة، بالعودة الى الذات والتوبة عن الخطايا وذلك في اسبوع الآلام.
وبما ان قاعدة الايمان لا تنفصل عن قاعدة الصلاة، وقاعدة الصلاة لا تنفصل عن قاعدة
الحياة، ادرك الآباء بشكل عام اهميّة الصلاة الربيّة واعتبرها البعض انها مختصر
الانجيل كلّه لأنّها تعبّر عن الايمان وتكوّن القاعدة الاساسية لعيش هذا الايمان
وتطبيقه في الحياة اليوميّة.
2- الابانا في كتابات تيودوروس:
في عظته عن الابانا، يتكلّم تيودوروس عن الصلاة بصورة عامة وعن الابانا بصورة خاصة.
فهي بحكم موقعها، أي بين عظات النؤمن وشرح الاسرار والذبيحة الالهية، بمثابة همزة
الوصل والاساس، لأنها من جهة تتوّج قانون الايمان، ومن جهة ثانية تعتبر ضرورية
جدّاً للاستعداد لقبول اسرار العماد والتوبة والافخارستيا.
منذ بدء شرحه للأبانا، ينقل تيودوروس سامعيه الى العالم الروحاني. فأسلوبه العلمي
يبدو واضحاً من خلال تفسيره هذه الصلاة للموعوظين، فيدربّهم على العادات والاخلاق
المسيحية لينضمّوا فيما بعد الى الجماعة المسيحية.
امّا طريقة الشرح عنده فقوامها درس وشرح كل عبارة من الصلاة الربيّة وربط هذه
التفاسير بعضها ببعض لتأتي وحدة متماسكة.
في هذا المقطع سوف اتناول هيكلية الابانا ولاهوتها بحسب تيودوروس.
اولاً- هيكلية الابانا الداخلية
ان اوّل من تناول تقسيم الصلاة الربيّة هو ترتليانوس الذي قال: "ما اروع الحكمة
الالهية التي رتّبت هذه الصلاة، فبعد أمور السماء تأتي امور وحاجات الارض". أمور
السماء يعني الطلبات الثلاث الاولى التي تتكلّم عن تقديس اسم الله والملكوت وعن
مشيئة الله، امّا حاجات الارض فهي الخبز والغفران والنجاة من الشريّر.
وحده تيودوروس يعتمد تقسيماً جديداً ولو مشابهاً لترتليانوس (+ 220) لكنّ الروح
العلمية في التفسير الكتابي عنده تظهر هنا بوضوح. فهو يقسم الصلاة الى مقاطع ثلاثة:
الاول يحوي الطلبات الثلاث الاولى، الثاني يحوي الطلبة الرابعة فقط، والثالث يحوي
الطلبتينِ الاخيرتين. فيقول: "في الطلبات الثلاث الاولى، يضع سيدنا تحديدا لمعنى
الفضيلة، في الرابعة يثبت حدود همومنا، وفي الخامسة والسادسة يعطي يسوع الدواء
لضعفنا"
من الناحية الادبيّة، يؤكّد المفسّرون المعاصرون بأن عمل الله يتمّ في الطلبات
الثلاث الاولى حيث ان الفاعل هو إمّا الله وإمّا الانسان، بينما في القسم الاخير
تستعمل صيغة المتكلّم في الجمع، فتجمع المؤمنين الأفراد في جماعة واحدة.
ثانياً- لاهوت الصلاة الربيّة:
- مقدمة:
يعتقد تيودوروس بأن الحياة الحقيقية يجب ان تترافق مع الصلاة الربيّة. لأن هذه
الصلاة هي مختصر رائع لعقيدة الفداء وللحياة المسيحية. فيقول: "لقد استعمل ربّنا
هذه الكلمات الوجيزة وكأنّه يريد أن يقول إن الصلاة لا تقوم بالكلام، بل بالممارسة
والحب وفعل الخير، لأن الذي يميل الى الخير عليه أن يحيا حياته كلها في الصلاة...
في سبيل تحسين السلوك" (3:11).
والصلاة هي تعبير صادق عن محبتنا للآب السماوي، وتضعنا امام حقيقة ما سوف نعيشه
يوماً مع الرب. فكلمة "ابانا" تؤكد ان الله بحبّه الأبوي، قريب من البشر، ونعترف
بقوته تعالى وبشخصه الحاضر فيما بيننا بما انّه الخالق والصانع الكل.
يركّز تيودوروس تعليمه في تفسيره على شخص يسوع المسيح، الانسان الذي يعمل ويأكل
ويصلّي ويتألّم، وفي هذا تركيز على الفكر الانطاكي كما ذكرت، أي بالاهتمام بالناسوت
وبحياة يسوع الانسانية الواقعية ليصل فيما بعد الى الحالة الروحية.
واللافت ايضاً في هذه التفاسير، ان تيودوروس يرتكز في استشهادته على العهد الجديد.
سبع آيات من اناجيل متّى ولوقا ويوحنا، وثماني آيات من رسائل مار بولس للعبرانيين،
امّا بالنسبة الى العهد القديم، فأنه يستعمل آية واحدة من المزمور 81: 6 التي تقول:
"انكم آلهة، وبنو العلي كلكم، الاّ انكم مثل البشر تموتون".
قلّة الاستشهادات في العهد القديم يعود الى اعتماد التفسير الحرفي والتاريخي الذي
تمتاز بهما المدرسة الانطاكية.
2- الشرح اللاهوتي:
الطلبة الاولى: ابانا الذي في السماوات، ليتقدّس اسمك.
يقول تيودوروس: "قبل كل شيء، يجب ان تعرفوا ما كنتم وما صرتم اليه، وما هي الموهبة
التي نلتموها من الله وما اعظمها" (7:11). يشدّد على ان مسلكنا الماضي كان بالعيش
تحت نير الشريعة، امّا الآن فقد نلنا نعمة الروح القدس التي تجعلنا نهتف "ابّا" "يا
ابانا". لقد أعطينا نعمة التبنّي لأن لنا أباً واحداً في السماء. ويضيف قائلاً:
"بعد أن فهمتم نبُلكم والكرامة التي فيها تشاركون بأن تكونوا ابناء الآب، تتصرّفون
على هذا الشكل الى النهاية". يركّز تيودوروس هنا على هذه الصلاة التي ليست عقيدة
إنما هي حضور لله يتجلى من خلال عيشنا لهذا الحضور. لذلك فأنه يذكر الآية 6 من
المزمور 81 وهي "قلت انكم آلهة".
وعن السماوات يقول: "انها المقرّ اللائق بأبناء الله. حيث أعطي لنا أن ننتقل يوماً
اليها. بعد ما نلنا التبنّي صرنا مواطني السماء".
وعن عبارة "ليتقدّس اسمك". بالنسبة اليه يتمّ التقديس على مرحلتين. الاولى بألاَّ
نجدّف على اسم الله القدوس. والثانية بأن يستقيم سلوكنا وان نأتي اعمالاً تليق بأسم
الله لكي من خلالنا يمجّد الجميعُ اسمَ الله.
الطلبة الثانية: ليأت ملكوتك.
هنا يعطي تيودوروس معنى اسكاتولوجياً للملكوت. فالصلاة برأيه تعجّل بمجيء الملكوت
الذي دشّنه المسيح. الملكوت يعبّر عن محبة الله لنا، ولكي نستحقّه، علينا ان نعمل
ما يوافق حياة السماء وألاّ نأبه لأمور الارض والاهتمام بها، فيقول: "ونحن ايضاً
المدعوّون الى ملكوت السماوات، لا يجوز ان نهمل آداب السماء وما يليق بالحياة
الاخرى لنستسلم لتجارة هذا العالم حيث اعمال الاثم. فكيف يكون هذا وكيف نتصرّف
تصرّفاً جديراً بشرف ابينا السماوي" (11؛ 11)!
وقبل ان يشرح تيودوروس الطلبة الثالثة عن مشيئة الله يقول: "ولكن كيف نبتغي تصرّفات
السماء وماذا يجب ان نعمل لنمجّد اسم الله"؟
طلبة 3- لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الارض (11: 12-13)
يطرح تيودوروس سؤالاً مزدوجاً: من جهة، ماذا تعني مشيئة الآب؟ ومن جهة ثانية، لماذا
التركيز على الارض كما في السماء؟
الجواب: ما قيل عن اسم الله يقال كذلك عن مشيئته وملكوته. لا شيء يمنع مشيئة الآب
من ان تتمّ. كل المؤمنين يطلبون ذلك من الله في صلاتهم. يرى تيودوروس ان هذه الطلبة
هي ايضاً اسكاتولوجية وتجعل من الناس ومنذ الآن صانعي مشيئة الله في الحياة
الابدية. ويقول: "المطلوب منّا اذاً في هذا العالم، هو ان نثبت ما امكن في تتميم
ارادة الله ولا نحيد عنها، وكما أننا نؤمن أن إرادة الله تملك في السماء، هكذا
علينا ان نتمسّك بها ونحن على الارض كما يقول بولس الرسول: "لا تتشبّهوا بهذه
الدنيا، بل تبدّلوا بتجدّد عقولكم، لتميّزوا ما هي مشيئة الله وما هو صالح وما هو
مرضي وما هو كامل" (روم 12: 2).
اذن هذه الطلبة هي دعاء الى الله كي نتبع المسيح بسماع كلمته والعمل بمشيئته هو.
ونبقى هكذا مشدودين بين العمل بارادة الله وعامل الزمن والتاريخ. فلنثابر ولنتابع
الجهاد حتى تحقيق ملكوت الله النهائي وذلك بأن نحتقر امور هذا العالم وان نجتهد ان
نتمثّل بأمور العالم الآتي.
طلبة 4- اعطنا خبزنا اليوم كفافنا (11: 14)
إن تيودوروس وكذلك الخطّ الانطاكي ومعهم أغسطينوس، يأخذون بحرفيّة النص ويعتبرون ان
هذه الطلبة تعني الخبز اليومي بقدر ما يعني الخبز السماوي.
ينطلق تيودوروس من حاجة الانسان الاساسية ألا وهي الخبز اليومي، ويعتبرها الطلبة
الوحيدة المادية في صلاة الابانا. ربّما لأنه يشرحها للموعوظين الذين لم يقتبلوا
بعد سرّ العماد، فكيف يمكن ان يكلّمهم عن الخبز السماوي؟
وكلمة اليوم يشرحها تيودوروس ويقول: "انها تعني الآن". فالكتاب المقدس يسمّي
"اليوم" ما هو حاضر او وشيك: "اليوم اذا سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم" (عب 7:3).
وهذا يعني اننا ما دمنا في هذا العالم، فلنفكّر أننا سامعون ابداً هذه الكلمة.
وكذلك كلمة "كفافنا" فأنها تحدّد حاجتنا اليوم الى الخبز.
طلبة 5- اغفر لنا ذنوبنا (15:11)
بسبب ضعف الطبيعة البشرية وضعف الارادة، يقول تيودوروس بأنه من الصعب ان نبقى دون
خطيئة. لقد اعطانا الرب الدواء لهذا الضعف في طلب المغفرة. فالكتاب يعتبر ان هذه
الخطايا كلها عن غير ارادة، لأن من يسعى الى الخير يهتمّ بالتخلّص من الشرّ ولا
يسقط برضاه. ومن المؤكد، يقول تيودوروس، ان خطايا مثل هذا الرجل ليست عن ارادة وانه
سينال حتماً المغفرة.
طلبة 6- كما نحن نغفر لمن اساء الينا (16:11)
يعتقد تيودوروس بأن هناك عهداً بين الله والانسان. فهو يوضح امام الموعوظين اهمية
هذه الطلبة خاصة وان الآية بعد صلاة الابانا في انجيل متّى تتكلّم عن ضرورة الغفران
المتبادل فيقول: انه علينا ان نركع ونتضرّع لله ونستغفره، كذلك نحن ايضاً نغفر لمن
اساء الينا ويستغفرنا... فلنقبل بمحبة كل الذين اساءوا الينا وآلمونا بنوع من
الانواع.
طلبة 7- ولا تدخلنا في تجربة (13:11- 18)
التجارب كثيرة ومنها الجسدية كالألم الجسدي ومنها الروحية كالخطايا وكلها تجارب
تضعف ارادتنا. ويذكر هنا التجارب من قبل اخوة لنا في الايمان الذين يعرّضون الناس
للشك والخطيئة (متّى 6:18) نطلب في الصلاة ان ننجو منهم ومن الشرير. والشرير هنا هو
الشيطان في نظر تيودوروس، الذي يتلبّس بحيل كثيرة ومتنوعة ليخرجنا ويبعدنا عن
التعلّق بواجبنا.
(ربمّا اخذ بالمفرد حسب تث 17: 12= الشرير، والتي ترد اقل في العهد الجديد متّى
35:12: 1 كور 13:5. هكذا فهمت كنيسة اليونان هذه الآية من صلاة الابانا)
ويختم تيودوروس شرحه للصلاة باعتبارها الطريق نحو الكمال الادبي وما يجب ان نسعى
اليه ونطلبه من الله. فكما أن الايمان يعلّم التعليم المستقيم كذلك صلاة الابانا،
فأنها ضرورية لاقتراب الموعوظين من المعمودية لتنظيم حياتهم ليحيوها بالفضيلة بعدما
سجلّوا اسماءهم في مدينة الارض وعمّدوها بالاخلاق المسيحية.
ثم يشدّد تيودوروس في تعليمه على أن الصلاة الحقيقية هي بالضرورة ثالوثية. إنها
موجهة نحو الآب مع الابن ويفعل الروح القدس.
خاتمة
ونختم تعليم تيودوروس عن عظة الابانا بنقاط ثلاث:
1- في المرحلة الاولى من تفسيره يرتكز على التعليم الكتابي
2- مع انّه المفسّر الاول لمدرسة انطاكية من حيث الخط الحرفي، نراه احياناً يستعمل
الرمز اسوة بآباء الاسكندرية (الحياة الروحية على الارض هي رمز للحياة مع الله)
3- تعليم الاسرار يشتمل على الكتاب المقدس واللاهوت والليتورجيا.
اذن، التعليم يبدأ أولاً بالتفسير، يتناول الواقع، توضع الحقائق واضحة امام طالب
العماد ومنها: أحداث تاريخ الخلاص- عناصر الرمز، الطقوس والاسرار، كلّ هذا يقوم
بالتعليم واكثر من ذلك من خلال التربية الايمانية. فالايمان يولّد الرجاء؛ والرجاء
يفتح آفاقنا على المحبة. وهنا يقول اغسطينوس: "كل ما تعلّمون، اعطوه (علّموه)
بطريقة انّ من يسمعكم يؤمن بالاصغاء، يترجى بالايمان ويحبّ بالرجاء".
فالمبسوسطي يتبع في شرحه هذا خط كيرلّس الاورشليمي، أي انه يركّز على المعنى
التعليمي. فنراه يكلِّم مستمعيه وكأنّه يتوجّه الى عائلة وهو يعرف اخطاءها
وانحرافاتها. والفاظه لا تخلو احياناً من النقد اللاذع الذي وجّهه ضدّ اصحاب البدع
والهرطقات.
صلاة الابانا هي الصلاة التي على كل مؤمن ان يتلوها دون انقطاع. فهي لا تعطي ثمارها
الا بقدر ما تلاقي صدى في مجمل حياتنا. فزمن الملكوت قد ابتدأ وسوف يكتمل يوم يعود
الرب بالمجد. انها صلاة تجعلنا ندخل الحياة الابدية ونستعدّ للتحوّلات الكبيرة
عندما تصبح الارض سماء حسب تعبير اوريجانوس. فعلينا منذ الآن التخّلق بخلق المسيح
وان تطابق اعمالنا حياة ابناء السماء، لأن الابانا تنقلنا من عالم متحوّل وزائل الى
عالم ثابت وازلي. |