"وكان جماعة الذين آمنوا قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة".
هذا ما يؤكده سفر الأعمال عندما يتحدث عن المسيحيين الأولين. لكن المشاركة لم تمنع
قيام التوتر في العلاقات. فوقع جدال بين بطرس وبولس، وعلى نتيجة توقف مستقبل
الكنيسة. فماذا جرى حين وقع حادث أنطاكية الشهير؟
"يعقوب وصخر (بطرس) ويوحنا، وهم يحسبون أعمدة الكنيسة... مدّوا إليّ وإلى برنابا
يُمنى المشاركة" (غل2: 9).
تلك المصافحة، الرسمية والرمزية، عُني بولس كثيرًا بإبرازها، لأنها كانت، في
الواقع، خاتمًا لتصالحه النهائي مع يعقوب.
كانت المواجهات قاسية والمقابلات كثيرة، وبولس لم يُخفِ ذلك. لكن الرهان كان على
جانب من الأهمية: فإن الأمر كان يتعلق بمستقبل كنيسة المسيح. وكل ما قد يعتبر مجرد
شجار بين "الأقدمين والمُحدثين" تم تخطيه إلى حد بعيد. يتحدث لوقا عن "خلاف شديد"
صوَّره من خلال المناقشة المجمعية التي تمت في مجمع أورشليم (أعمال 15). لكن بولس
نفسه يروي حادثة أخرى مهمة وذات مغزى، هي مشادته مع بطرس في أنطاكية (غل 2: 11)،
ركز فيها النقاش على استقلال الكنيسة المسيحية عن اليهودية.
في رأي يعقوب – وكنيسة أورشليم معه –، يجب على الجماعات المسيحية الغنية أن تقبى
أمينة على أحكام الشريعة اليهودية.
وعلى العكس من ذلك، كان بولس يرغب في أن يحرر من الشريعة الوثنيين المهتدين.
توتّر في العلاقات
حين انفجر النزاع علانية، كانت العلاقات بين كنيسة أورشليم وبولس متوترة، وكانت على
أهبة الاحتدام في أي لحظة. في الحقيقة، كان ارتياب مسيحي أورشليم حيال بولس يعود
إلى زمن اهتدائه: إذ إن معرفتهم للعداوة التي كان الرابّي الشاب شاول يكنها لهم
كانت أكبر من أن لا يترددوا في التسليم بصدق اهتدائه.
"كانوا كلهم يخافونه غير مصدقين أنه تلميذ" (أعمال 9: 26).
أما بولس فلم يكن مرتاحًا بقدر كاف في الجماعات الفلسطينية. فزياراته إليها كانت
سريعة وشبه خاطفة، حتى إنه لم يقم فعليًا للمرة الأولى في أورشليم، كما يشهد هو
نفسه، إلا بعد مرور أربعة عشر عامًا على اهتدائه.
على كل حال، كان لمبادرات رسول الأمم الجريئة كل ما يلزم لإلقاء الرعب في كنيسة
أورشليم. ففي الواقع، أدت رسالاته، التي امتدت شيئا فشيئا في الأراضي الوثنية، إلى
تأسيس كنائس لم تكن "سنن الأقدمين" مراعاة فيها على الإطلاق. واحتدت ردود الفعل
بقدر ما أهمل بولس دائمًا، على ما يبدو، أن يستشير الكنيسة – الأم... وتوالت
تحذيرات أنصار يعقوب، وكانوا متصلبين في أمانتهم لممارسات الشريعة. ولقد تشكى بولس
مرارًا من ذلك الوضع، وانتهى به الأمر إلى الشروع في طعن لاذع وعنيف وجهه إلى
المتهودين.
دور الشريعة
قبل أن نعرف ما هي القناعات التي كانوا يعرضونها بعضهم على بعض، لا بد أن نوضح ما
هي النقاط التي كانوا متفقين عليها. فالجميع، سواء أأنصارًا ليعقوب كانوا أم لبولس،
كانو يعترفون بأن المسيح هو وريث المواعد التي وُعد بها إبراهيم، وأنه يمثل تحقيق
العهد بوجه كامل. ففي المسيح يتخذ النسل المبارك الذي وعد به الله إبراهيم أبعاده
كلها. وهنا يتوقف كل تقارب بينهم...
فكان أنصار يعقوب، وهم المسيحيون الذين من أصل يهودي، يرون أن العهد يصل إلينا عن
طريق الشريعة.
والعهد، وهو وعد مهيب وغير واضح، يتجسد في ولادة الشعب المقدس الذي جمعه موسى عند
الخروج من مصر وأعطاه الشريعة. فبالشريعة والممارسة الموسوية إذا، يصبح المرء ويبقى
وريث الوعد. لم يكن يعقوب يرفض استقبال الوثنيين، لكنه كان يفرض عليهم أن ينضموا
إلى الشعب المختار باعتناقهم شريعته بتفاصيلها.
وعلى العكس من ذلك، يؤكد بولس في شكل قاطع أن "المسيح افتدانا من لعنة الشريعة"
(غل3: 13). فهي ليست في نظره سوى مجرد مرحلة تربوية وحمل ثقيل فُرض مؤقتًا، يجب
تخطيه بعد ذلك.
ولا يقول فقط بأن الشريعة ليست الطريق المحتم للحصول على نعمة الموعد، بل يضيف أنه
يخشى أن تُوقع في الخطأ وتُبقي في الوهم. وإن كان البر (أي العطية التي تجعلنا
أبناء الله) يمر بالشريعة، فهو "يُحصل عليه بالشريعة" (غل 3: 21) لا بالنعمة. لكن
إبراهيم لم "يُبرر" (أي لم يصبح قديسًا وصِدّيقًا وخليلا لله) بالشريعة، بل
بالإيمان كما ورد في الكتاب المقدس.
ولو كُتب لنظام الشريعة أن يستمر ويُفرض على الجميع، لتعطلت المجانية التامة التي
تتسم بها عطية الله. فحتى في نظر اليهودي الذي أصبح مسيحيًا، ليست "أعمال الشريعة"
(أي الأمانة لحفظ أحكامها) هي التي تحمل إليه الخلاص والحياة في المسيح، بل هو
الإيمان. فما أحرى الوثني بذلك، وهو الذي يجب أن يكون الإيمان عنده تحريرًا لا
إكراها.
الموعد هو للجميع
أرفق بولس محاجته اللاهوتية بتحليل عملي لمتطلبات المسيحية المتهودة، كان له دور
حاسم في تقرير مستقبل الكنيسة.
وكان إرغام كل طالب عماد على الخضوع لنير الشريعة الثقيل يعني ضمَّه إلى الشعب
اليهودي. لكن اليهود كانوا يؤلفون شعبًا من الشعوب، منفصلا عن سائر الشعوب. فالذين
يرضون بالإنضمام إليه و"بالتميُزبأن يعيشوا عيشة اليهود" (غل2: 14) ينفصلون طوعًا
عن سائر الناس. فلو أخذ بعين الاعتبار حفظ الشريعة، من ختان أو تحريم مؤاكلة
الوثنيين، على سبيل المثال، ماذا يحل بشمولية دعوة يسوع وانفتاح الملكوت على الأمم
كلها؟
وعلى الاعتراض القائل بأن الله أراد أن يعهد بوعده إلى شعب معين اختاره هو، يرد
بولس أن المقصود هنا هو تدبير مؤقت وساقط: لأن الموعد أعطي الجميع وإبراهيم هو أبو
جمهور من الأمم ونسل أوفر عددًا من نجوم السماء وذرات الرمل على شاطئ البحر.
ويرى بولس أن يسوع مزّق الشرنقة التي حاكتها الخصوصيات والتي كانت تحتضن اليهود
وتنبذ الوثنيين. وبصليبه هدم الحاجز الفاصل (أف 2: 14) وقرّب الأباعد وجعل من
اليهود والوثنيين شعبًا واحدًا. ولقد خلق يسوع "في شخصه من هاتين الجماعتين (اليهود
والوثنيين)... إنسانًا جديدًا واحدًا... وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما أي العداوة"
(أف 2: 14-15).
التفسير الحاسم
فهم كل من بولس ويعقوب أن التباينات القائمة بينهما كانت تدور على نقطة أساسية أضحى
من الضروري أن تُبت، لتبني أحد المفهومين عن الكنيسة. وإذا قرأنا رواية سفر الأعمال،
يبدو لنا أن اجتماعًا واحدًا يضم الرسولين بولس ويعقوب تداول الآراء... وأقر لبولس
بالحق.
لكن مطالعة الرسالة إلى أهل غلاطية تمكننا أن نوضح أن تمت بين بولس وأولئك الذين
يدعوهم "من هم رسل قبله" (غل 1: 17) عدة لقاءات شبه رسمية: من بينها لقاءان، ولا شك،
مع بطرس، من المحتمل أن يبعد الواحد عن الآخر أربع عشرة سنة (غل1: 18 و 2: 1)
ويختلفان كلاهما، على ما يبدو، عن (المجتمع) الذي تحدث عنه لوقا. ويختلف هذان
اللقاءان أيضًا عن المشادة التي حصلت في أنطاكية بين بولس وبطرس، حين أخذ الأول على
الثاني انقياده لـ "قوم من عند يعقوب" ورفضه الفجائي أن يأكل مع الوثنيين المهتدين
(غل 2: 11-14). وبناء على ذلك، يعتقد عموم المفسرين أن صياغة الفصل الخامس عشر من
أعمال الرسل، مع ما تتضمنه من تتابع خُطب منمقة، ليست سوى تركيب مؤلف من لقاءات
امتدت على عدة سنوات. من المسلم به، على كل حال، أنه حصل بين بولس ويعقوب (ومن
خلالهما بين الكنائس التي يمثلانها) تفاهم حاسم أدى إلى قرار مشترك يقضي بعدم فرض
الشريعة اليهودية على الوثنيين المهتدين.
في خدمة الأمم كلها
وبحسب ما ورد في ملخص أعمال الرسل المبسط، تبنى بطرس، باسم الكنيسة جمعاء، براهين
بولس المؤكدة أن الله يريد خلاص الوثنيين. هذا وإن بطرس كان أول من استقبل في
الكنيسة عائلة وثنية هي عائلة قائد المائة قُرنيليوس. وقد كان إيمانها العربون
الوحيد الذي أدى إلى تعميدها. وبالقرار الذي اتخذه مجمع أورشليم بالإجماع، عدلت
الكنيسة عن أن تكون مجرد "شيعة يهودية" منشقة على نحو غير واضح، لتكون في خدمة
الأمم كلها. لأن التحرير من الشريعة وحفظ أحكامها يُمكن وحده من إعلان الإنجيل إلى
كل ذي إرادة صالحة، أيّا كان وأينما كان...
وعبر بولس عن ذلك في نص رائع:
"لانكم جميعا ابناء الله بالايمان بالمسيح يسوع.
لان كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني. ليس عبد
ولا حر. ليس ذكر وانثى لانكم جميعا واحد في المسيح يسوع. فان كنتم للمسيح فانتم اذا
نسل ابراهيم وحسب الموعد ورثة" (غل3: 26-29). |