هل يمكننا، ونحن نقرأ الإنجيل، أن نلاحظ التنوع الكبير في نظرة المسيحيين الأوّلين
إلى المسيح؟
وهل يمكننا أن نشعر بالتوتر ومخاطر الانقسام التي أثارها،
منذ اللحظة الأولى، ذلك الذي لا يمكن تقييده في أيّ صياغة كانت؟
من خلال البحث الفريد هذا في نصوص العهد الجديد يبرز السؤال الذي وجّهه يسوع إلى
تلاميذه:
"ومن أنا في قولكم أنتم؟"
نشأت الكنيسة في فلسطين، وهي بلد صغير يقع بين البحر ونهر الأردن، وكان فيه التعايش
والتواجه بين العديد من الإثنيات والثقافات والديانات. وكانت اليهودية، بلا شك،
الديانة السائدة، إلا أنها كانت هي أيضًا شديدة التنوّع. وفي البوتقة الثقافية
والدينية هذه، كتب للكنيسة المسيحية في القرن الأول، على ما يبدو، إن لم يكن
الانقسام، فالتنوع السريع على الأقل. وكان من شأن تمركز الكنيسة المبكر، في أقاليم
تختلف كل الاختلاف عن الوسط الفلسطيني الذي نشأت فيه، أن يضاعف النزعة إلى التفتت.
لكن، وحتى في أخطر أنواع التمزق، ومع أن المؤسس غاب قبل الآوان، فقد حافظت الكنيسة
على الشعور بوحدتها، ونظرت إلى هذه الوحدة على أنها في وقت واحد اعتبار لا يُمسّ
وتطلّع لا يُفنى، وأنها تستند مباشرة إلى شخص يسوع. وإذا صح أن الكنيسة قد تمكنت
بذلك من المحافظة على تماسكها، فلأنها عرفت أنها تحمل رسالة إلى العالم هي
"المناداة ببشرى" غير عادية. وفي صلب هذه البشرى، برز أمران هما المطابقة بين يسوع
والمسيح المنتظر، ودوره الحاسم في تاريخ البشرية. وقد أصبح هذا الأمران مرجعًا مكن
المسيحيين جميعهم أن يبقوا متلاحمين في إيمان واحد ومتعالين على الاختلافات اللغوية
كلها.
لكن الوحدة الراسخة هذه لم تخل من الفوارق ولم يعبّر عنها بالطريقة نفسها في كل
مكان. وهناك تأكيدان من التأكيدات الأساسية التي وردت في المناداة بالبشرى – وهما
أن يسوع هو المسيح وأن هذا المسيح قد قام – يبدوان غريبين ويصعب التعبير عنهما
بألفاظ تكون في متناول جميع الناس، حتى إنهما أصبحا موضع تفسيرات اختلفت باختلاف
الأوساط. فكانت كل جماعة أو مجموعة من الجماعات تجد نفسها مضطرة إلى التفكير في
معنى هذه العناصر التي تضمنتها البشرى، وإلى التعبير عنها بألفاظ يفهمها من يحيطون
بهذه الجماعة. فعاد التنوّع وبرز داخل تلك العناصر التي توحّد المسيحيين.
المسيح حيّ، ولكن أين؟
كيف تصور المسيحيون الأولون شخص يسوع المسيح القائم من الموت؟
كان التلاميذ الأولون كلهم يهود التربية، فكانت فكرة قيامة الموتى، في نظرهم، ترتبط
ارتباطًا وثيقًا بالمأساة الأخيرة الكبرى التي وصفتها رؤى ذلك الزمان. وليست قيامة
يسوع مجرد عودته إلى الحياة: فقد تبدل "جسده"، كما ستتبدل أجساد الموتى الذين
سيعيدهم الله إلى الحياة في اليوم الأخير (راجع 1 كور 15: 35-52). ولقاؤه، وهو يبقى
خفيًا دائمًا، اتصال بالعالم الآتي كما سيتحقق يوم الدينونة العظمى. ومع أن يسوع هو
حيّ أكثر منه في أي وقت مضى، فإنه لا يخضع للقوانين الطبيعية العاديّة. وهذا ما
يعبِّر عنه ما ورد في روايات الترائيات من صور لا تخلو من السذاجة: فهو يدخل في
أماكن مغلقة أبوابها بإحكام، ويصعب التعرف إليه، ويختفي بالغرابة التي حضر بها...
ولكن أين هو يسوع الحيّ هذا؟
غالبًا من نتصور أن المسيحيين الأولين كانوا يعتقدون أن هذا الشخص الذي ينتمي إلى
العالم الآتي كان يسكن في العالم العلوي حيث يقيم الله والملائكة ومن حيث ينزل
ليزور تلاميذه.
وفي وقت مبكر جدًا، تآلفت فكرتا صعود يسوع في المجد وقيامته من بين الأموات (أعمال
2: 34-35 وفل 2: 9). غير أن المسيحيين لم يتصوّروا، حتى ذلك اليوم، صعود يسوع بصورة
انطلاق للإقامة في السموات حتى عودته المجيدة في اليوم الأخير.
إذ إن التفسير الجديد هذا الذي فُسر به صعود يسوع لم يظهر إلا في وقت لاحق، في
مؤلفات لوقا ويوحنا، حوالي السنين 80 إلى 100 من عصرنا. أما عند الإنجليين مرقس
ومتى وحتى في رسائل بولس، فلم يكن يسوع القائم من الموت منعزلا في سماء بعيدة، بل
كان حاضرًا حضورًا خفيًا بين أولئك الذين ينتمون إليه.
فهناك إذًا صورتان مختلفتان لحدث أساسي واحد. والغاية من هذا المثال هي توضيح ذلك
الاختلاف وكشف الأسباب التي منعته من إفساد وحدة الكنيسة الناشئة.
مسيح حاضر
في التقليد الذي سبق كتابة الأناجيل، وفي إنجيلي مرقس ومتى وفي رسائل بولس، يظهر
يسوع القائم من الموت حاضرًا بين تلاميذه وجميع الذين ينتمون إليه. ويصغي هؤلاء إلى
تعليم معلمهم إصغاءهم إلى كلمة موجهة مباشرة إليهم. وعندما يكيفون هذا التعليم،
آخذين في الاعتبار أوضاعهم الخاصة (راجع تعليم يسوع في الطلاق مرقس 10: 2-12 ومتى
5: 31-32 و 19: 3-12) فإنهم يُسلمون ضمنًا بأن يسوع ما زال يرشدهم، كما فعل في
السابق حين كانوا يرونه إلى جانبهم. وحين كانوا يشفون الناس ويطردون الشياطين،
كانوا يدركون أن قوتهم مستمدة من حضوره بينهم (مر 9: 14-27).
مفهوم يشارك فيه بولس
يردّ بولس الحياة المسيحية كلها إلى الاتحاد بالمسيح: وهو يستعمل عبارة "في المسيح"
أكثر من 150 مرة في رسائله. فهل هذا يعني في نظره أن جميع المؤمنين يستطيعون أن
يقوموا باختبار تصوّفي؟ طبعًا لا. لأنه، حين يشير إلى اختبار من هذا النوع، فهو
يعرضه كحدث استثنائي ويستخدم ألفاظا أخرى (2 كور 12: 1-4). ولكنه يريد التنويه بأن
كل مسيحيّ يحيا حياته اليومية "في المسيح" حقًا. بولس مقتنع أيضًا بأن القائم من
الموت هو الذي يرافق ويقود جميع الذين اتحدوا به بإيمانهم ومعموديتهم (روم6: 1-14).
فهذا هو التأكيد أن يسوع الحاضر في قلب الجماعة المؤمنة، وقد عُرض في صيغة أكثر
تطورًا من التي نجدها في التقليد الذي سبق كتابة الأناجيل.
... ومتى
ومتى أيضًا يوحي بأن يسوع حاضر بين البشر، بوجه ضمني أولا، ثم بشكل واضح جدًا، حين
يصل، في كلامه، إلى المرحلة التي تلت عيد الفصح، ويبدو الكلام الذي ينسبه متى إلى
المعلم في (18: 20 و 28: 20) في منتهى الصراحة: "فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي،
كنت هناك بينهم". "هاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم". فليس هناك شيء أوضح
من ذلك. إن القائم من الموت حاضر بالقرب من الرسل الملتزمين بالمغامرة الرسولية
الكبرى، لكنه حاضر أيضًا في وسط كل مجموعة من المسيحيين، مهما صغرت. أما مشهد
الدينونة العظمى (متى25: 31-46)، فلا يمكن فهمه، إن لم يكن ابن الإنسان حاضرًا بوجه
خفيّ في كل أخ فقير أو مريض أو مضطهد.
... ومرقس
وهذا الاتجاه نفسه يظهر أيضًا في إنجيل مرقس، مع التشديد هنا على العمل الذي يجب
مواصلته. فإن مرقس يشدد على أن القائم من الموت يواصل، بمؤازرة تلاميذه، العمل الذي
بدأه بين البشر قبل أن يُصلب. ولا نستغرب التشديد على هذه الفكرة، في إطار جدال
متخف بين كاتب هذا الإنجيل وتلاميذ يرتبطون على الأرجح بكنيسة أورشليم.
وتركز رهان هذا الجدال على طريقة تصور العلاقة بالمسيح القائم من الموت. فما من أحد
كان يشك في حضور المسيح في وسط الجماعة. ولكن كيف يجب التصرف إزاءه؟
كانت الكنيسة القديمة قد شعرت بحاجة ملحة إلى سبر أغوار الكتب المقدسة لتكتشف فيها
كل ما أنبئ به عن المسيح. وبهذه الوسيلة جمعت حول "المناداة بالبشرى" كل ما كان له
مغزى في نصوص العهد القديم (راجع أعمال 2: 25-31، 34 و 3: 22-26 و 4: 11) وجميع
الألقاب التي نسبها أنبياء ذلك الزمن إلى مسيح إسرائيل: لا إلا الممسوح فقط (المشيح
بالعبرية وخرستُس باليونانية)، بل إلى النبيّ والمعلم والرب والملك وابن الإنسان
وابن الله وعبد الله الأزليّ والقدوس والبار وأمير الحياة... كما أنها اجتهدت أيضًا
في تصنيف هذه المجموعة من الألقاب (راجع مر 6: 27-30) والدفاع عنها في وجه
الانتقادات (راجع مر 12: 35-37). وقد أدى العمل المسيحاني الأول هذا خدمة جليلة
للفكر المسيحي في كل العصور. ولكن، مع أن هذا العمل كان في منتهى البساطة، فقد تضمن
أمورًا فكرية، لا بل عملية، أثارت ردود فعل لا تخلو من العنف في بعض الأوساط، أفلا
يعد التيهان في دقيق المناقشات خيانة للإنجيل؟ أولا يُنسى أن الصلة بالمسيح الحاضر
هي قبل كل شيء اشتراك في حياته الرسولية والمتألمة؟ وقد ذكر مرقس في إنجيله مثل
ردود الفعل هذه (راجع مر 8: 31-38 وهو يتناقض مع ما ورد في 8: 27-30). لقد نشأ هذا
الإنجيل في بيئة تضم مجموعات من "الفعّاليين"، الذين كانوا يُعدون هامشيين بالنسبة
إلى جماعة أورشليم، فأراد أن يُشعر قراءه بالمشروع الكبير الذي التزموا به مع
المعلم. ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف، يؤون إنجيل مرقس باستمرار كل ما يرويه عن
يسوع الذي كان يُرى في الأمس سائرًا على طرقات فلسطين. وإذا حث المسيحيين على "اتباع
يسوع"، فهو يقصد الاتباع بمعناه الحرفي: فالقائم من الموت يسير على هذه الأرض، وعلى
التلاميذ أن يقتفوا آثاره، مهما كلفهم الأمر (مر 10: 17-31).
خلافات عائلية...
كان هذا أول خلاف عائلي بين "الفعاليّين" و "المفكرين"، يجمعهم إيمان واحد بالمسيح
وتباعد بينهم طريقة مقاربتهم سرّه. وثمّة خلافات أخرى كثيرة... فكان على بولس
الرسول أن يسارع إلى الردّ بقسوة على المتمسكين باليهودية الذين أبدوا استعدادًا
لتقديم الخضوع للشريعة على الاتحاد بالرب يسوع (غل 2: 14-21)، وكان عليه أيضًا أن
يحارب "الفجّار الروحيين" الميّالين إلى تفضيل حريتهم الشخصية على اشتراكهم مع
المسيح (1كور 6: 12-20).
وفي ما بعد، وحوالي السنة 90، يبدو أن متى الإنجيلي ألقى المسؤولية على بولس، أو
أقله على بعض تلاميذه، في بعض الفقرات من العظة على الجبل، وهي الفقرات التي يغيّر
فيها مضمون التقاليد المألوفة ليزيدها إلزامًا. ففي (5: 17-20) ينتقد متى الإفراط
في الابتعاد عن الشريعة "ولا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة..."، وفي (7: 13-23)
يستنكر الميل إلى استخدام الرب من دون الخضوع له.
... يقابلها وحدة دينية عميقة
ربّما كانت هذه الخلافات تحجب الأخوّة التي جمعت تلاميذ يسوع. إلا أن جميع
المسيحيين كانوا متساوين في الاقتناع بأن القائم من الموت حاضر في وسطهم حضورًا
يفوق الطبيعة، وكانوا يرون في هذا الحضور – كما أشرنا إلى ذلك سابقا – استباقًا
للعالم الآتي. وهذا الاقتناع كان يوجه بمنتهى الوضوح حياة الجماعات التي أيّدته.
وهذا ما يفسر الحرارة الأخيرية تلك التي كانت تلتهمهم. لم يتوقعوا نهاية العالم
وكأنها ستحدث في الغد، ويبدو أن هذه الفكرة لم تكن أكثر شيوعًا عند المسيحيين
الأولين منها عند اليهود المعاصرين لهم. إلا أنهم كانوا يشعرون بأنهم معنيّون
بمأساة كونية في مراحلها الأولى، وأنهم محررون من قوانين كثيرة لم يفكروا قطّ في
تجاوزها إبّان مجرى الأمور العادي، كراحة يوم السبت والأحكام المختصة بالطهارة
الطقسية والواجبات العائلية... (راجع مر 2: 15-18 و 7: 1-23...). وفي المقابل، يفرض
يسوع الحاضر على رفقاءه نظام حياة صارمًا لا يمكن تصوره في عالم ثابت: كالتخلي عن
الثروات والضمانات وحتى عن النفس.
ومن جهة أخرى، كان المسيحيون المنتمون إلى مختلف الجماعات ممتلئين بأجلّ مشاعر
الاحترام لرفيقهم الخفيّ. وقد عبروا عن هذا الاحترام الفائق بكثرة ما أضفوا عليه من
الالقاب الجليلة: فإن المشيح (خرستُس باليونانية) وابن الإنسان وابن الله والنبيّ
والمعلم والرابي والربّ وملك اسرائيل. ولكل من هذه الالقاب تاريخ طويل ومعنى قابل
للتكييف، عمل على تحويله، في بعض الأحيان، الانتقال من محيط ساميّ إلى محيط يوناني.
وبالرغم من هذه التقلبات، ثمة أمر بقي ثابتًا في موقف الكنائس الملتفة حول المسيح
الحاضر، وهو أن إكرام الرب لم ينقلب إلى عبادة. فكانوا يتبعون يسوع ويقتدون به
ويطيعونه، من غير أن يرفعوا إليه الصلاة بحصر المعنى أو يؤدوا له شعائر العبادة.
وفي الختام يمكننا أن نقول من دون مبالغة إن هذه الكنائس ظلت في حضن الدين اليهودي،
شرط ألا نحصر هذا الدين في التفسير الخاص الذي تبناه الفريسيون بعد خراب هيكل
أورشليم سنة 70. فالتوحيد غي المتساهل والتشديد على ممارسة الديانة، بدلا من تكوين
المفاهيم عنها، وأهمية الكلمة كوسيلة تنقل الوحي الالهي، هي كلها عناصر يهودية
نجدها أيضًا في حياة المسيحية وتفكيرها. وعلى كل حال، كانت المسيحية تعرف أنها
يهودية وتريد ذلك رغم كل المناظرات التي حملتها على مواجهة السلطات الدينية في
الدين اليهودي. فإن بولس أعلن أنه يهودي وكتب بدمه الفصول الثلاثة (من 9 إلى 11) من
الرسالة إلى أهل رومة، واجتهد مرقس أن يجذب الجموع اليهودية إلى اتباع يسوع، وخلط
متى بين الكنيسة وإسرائيل.
وبناءً على ذلك، استمر مفهوم حضور القائم من الموت بين ذويه من دون انقطاع منذ
بدايات الكنيسة إلى السنين الأخيرة من القرن الأول، بالرغم من أنواع الانقطاع
العائد إلى الأسباب الثقافية أو الكنسية.
رب سماوي
ومع ذلك، ففي نهاية القرن الأول، نافس مفهوم المسيح الحاضر بين البشر تعليم أتت به
كتابات مسيحية أخرى كانت ترى في القائم من الموت كائنًا سماويًا ابتعد عن ذويه بعد
صلبه.
ومع أن فكرة حضور المسيح كانت أساسية في نظر بولس الرسول، فقد أخذت الفكرة الثانية
ترتسم في رسائله: أن يسوع رُفع إلى المقام الأعلى بعد موته على الصليب (فل2: 9-11)
وهو يقيم بالقرب من الله (كو3: 1-4 وأف1: 20-22) وينتظر أن ينزل من أعالي السموات
في نهاية الأزمنة (1 تس 4: 15-17 و 2 تس1: 7). إلا أن هذه الصور المقتبسة من (مز
110) ومن الروئ لم تُستخدم على نحو منطقي. فهي تفيد خصوصًا حاجات الإرشاد الأخلاقي.
أما ما يبقى جوهريًا في فكر بولس فهو الشركة بين المؤمن والمسيح القريب منه بوجه
خفيّ.
لوقا شاهد المفهوم الآخر
إن الانتقال الحقيقي إلى مفهوم ربّ سماوي تم بصدور إنجيل لوقا وسفر أعمال الرسل،
وقد كتبا بعد مرور نحو عشرين سنة على موت بولس. وهما يوليان مسألة رفع القائم من
الموت إلى الله وجلوسه على عرش سماوي حتى اليوم الآخر أهمية خاصة. والرواية
المزدوجة التي تنقل خبر الصعود – وهو يختتم الإنجيل (لو24: 50-53) ويفتتح سفر
الأعمال (أعمال 1: 9-12) – تشير بوضوح إلى الفرق القائم بين زمن حياة يسوع الأرضية
والزمن الذي يلي عيد الفصح. فقبل الفصح، كان يسوع يعيش برفقة تلاميذه، وبعد ذلك،
نشاهد انفصالا جذريًا بين الرب في السماء والمؤمنين الباقين على الأرض. ويقضي
التدبير الإلهي بأن تستقبل السموات القائم من الموت حتى يوم عودته في نهاية الأزمنة
(أعمال 3: 21). ونلاحظ أن زمن ترائيات المسيح عند لوقا أقصر بكثير مما هو في رسائل
بولس (راجع 1كور 15: 5-8)، علمًا بأن حُصر في أربعين يومًا (أعمال 1: 3). أما
الرؤيا التي رآها بولس على طريق دمشق فتبدو وكأنها استثناء أتى من السماء حيث يسكن
المسيح منذ صعوده (أعمال 9: 3 و 22: 6 و 26: 13).
لِمَ هذا التطور؟
يبدو مثل هذا التطور مدهشًا للوهلة الأولى. فاليقين بالقيام قرب المعلم كان مشحونًا
بقوة عاطفية كبرى. فلم التخلي عنه بهذه السرعة؟
لا شك في أن تطور التفكير المسيحاني كان له دور في ذلك: فكلما ظهر المسيح إلهيًا،
برز الميل إلى التشديد على الطابع المتعالي الذي يميز شخصه. وفي الزمن نفسه، شددت
اليهودية بإلحاح على فكرة تعالي الله، فتأثرت بذلك كنيسة لوقا، وهي ما زالت يهودية
في جوهرها رغم صبغتها اليونانية. ولكن هناك سببًا آخر أدى إلى هذا التطور. وإذا صح
أن المحيط الذي يتوجه إليه لوقا ما زال يهوديًا إلى حد ما، فهو لم يعد فيه أي شيء
فلسطيني. فلا شك في أن مسيحيي مقدونية وآخائية وجدوا روايات يسوع وأقواله "غريبة"
بعض الشيء، لأنها تصلهم في تقليد متأثر بالدين اليهودي المنتشر في اليهودية والجليل.
وحيث لم يجد قراء إنجيل مرقس الأولون أي عناء في الشعور بأنفسهم قريبين من القائم
من الموت، وهو يواصل عمل يسوع الأرضي، كان قراء إنجيل لوقا معرضين للشعور بالغربة
بسبب التعذر الشديد عليهم أن يتصوروا ربهم بمظهر رابي أو طبيب على طريقة يسوع
التاريخي. وعلى العكس من ذلك، فحين جعلوا السموات مسكن القائم من الموت، تمكنوا أن
يكونوا عنه فكرة أكثر تجريدًا، تُبعد عنهم هواجس الغربة.
التشديد على أمرين جديدين
وهذا الانتقال من مفهوم المسيح الحاضر بين البشر إلى مفهوم الرب السماوي كان يحمل
خطرًا في طياته: أفلا يُخشى أن تتراخى الروابط التي تجمع بين القائم من الموت
والمؤمنين؟ أولا يخشى أن يصبح الإيمان المسيحي تافهًا؟ كان الأمر محتملا، لو لم
تحافظ الكنيسة التي يتوجه إليها لوقا على شعور قوي بالشركة الوثيقة التي توحد
مؤمنيها بالمسيح. وهناك ظاهرتان تعويضيتان تشهدان على ذلك. قامت الظاهرة الأولى على
التوسع في عنصر كان قد ورد عرضًا عند بولس (روم10: 12-14) واتخذ أهمية في سفر
الأعمال: وهو الصلاة الموجهة إلى الرب يسوع (أعمال 2: 21 و 7: 59 و 9: 14 و 21:
16). ولا شك في أن هذه الصلاة تكاد لا تتميز عن شهادة الإيمان، ولكنها تؤلف رابطًا
جديدًا بين المؤمن وربّه، فتتضاءل المسافة بينهما.
وقامت الظاهرة الثانية على التعمّق في التعليم الخاص بالروح القدس. وهذا التعليم،
بعد أن كان بدائيًا في إنجيلي مرقس ومتى، اتخذ أهمية كبرى عند بولس. ففي نظره، لا
يصلي المسيحيون ولا يعيشون في الكنيسة ويتقدسون إلا بفعل روح الله (راجع 1 كور 12 و
14 مثلا). لكن بولس لم يجمع بين الروح والمسيح إلا استثنائيًا (روم8: 9 وفل 1: 19).
وعلى العكس من ذلك، يشدد سفر الأعمال على أن القائم من الموت هو الذي يُفيض روحه
على ذويه (أعمال 2: 33، راجع 1: 5 و 8). وهذه العطية تُمنح كل مؤمن، لأنها،
باستثناء بعض الحالات (أعمال 8: 14-17 و 10: 44-48 و 19: 1-7)، ترتبط بالمعمودية (أعمال
2: 38). وهذا ما أدى إلى قيام علاقات مباشرة ووثيقة بين الرب السماوي وكل مسيحي،
بالرغم من الهوّة الكبيرة التي تفصل بينهما والتي لا يمكن اجتيازها.
وأسطع برهان على أن العلاقات القائمة بين المسيح والكنيسة المسيحية لا تفقد شيئًا
من متانتها في نظر لوقا هو روايته للعنصرة في (أعمال 12) وهي توازي تمامًا رواية
الصعود. وكان لوقا يحرص على ألا يُفهم الصعود وكأنه نقص تُعانيه الجماعة المؤمنة
التي حُرمت حضور معلمها شبه الجسدي. لذلك أحيط إرسال الروح القدس من قبل الرب، الذي
رفعه الله إليه، بأبهة خاصة. وصورت العنصرة بصورة نقطة تحول حاسم في تاريخ الخلاص.
فهي تمنح الرسل قدرة فائقة الطبيعة تضفي على تبشيرهم الرسولي فعالية لا تضاهي. من
خلال عضات الرسل، يعمل المسيح السماوي نفسه وينشئ جماعات مؤمنة.
لا شك في أن مؤلف لوقا لا يجسد فكرًا لاهوتيًا مستفيضًا، ولكنه يشهد على إعادة
صياغة شاملة للأفكار العائدة إلى الصلة التي تربط المسيح بكنيسته في بعض الأوساط
المسيحية في الجيل الثاني.
المسيح في إنجيل يوحنا
إن ما يعرضه الإنجيل الرابع من مفهوم للمسيح السماوي ولصلته بالكنيسة يحاكي فكر
لوقا عن قرب. وُضع هذا الإنجيل بعد مرور عشرين أو خمس وعشرين سنة على كتابة مؤلفات
لوقا، ومن الراجح أن يعكس أفكار مجموعة صغيرة، ولكنها ذات نفوذ من حيث التأثير الذي
أحدثته.
ويحتل موضوع رفع يسوع إلى الله في ختام رسالته بين البشر مكانة مرموقة في هذا
الإنجيل. وهذا الرفع يكاد يتطابق تمامًا مع الصلب "وأنا إذا رُفعت من الأرض جذبت
إليّ الناس أجمعين" (يو 12: 32)، راجع ايضًا (يو 3: 14-15 و 8: 28 و 12: 24)، وهو
يُعتبر موازيًا للنزول من أعلى السموات، الذي ابتدأت به رسالة يسوع ("فما من أحد
يصعد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء" يو3: 13، راجع أيضًا 3: 31-32). ويدخل
النزول من السماء والصعود إليها في إطار تعليم مسيحاني مسهب يقوم فيه كيان يسوع
السابق بدور مهم (يو1: 1-18).
ولكننا نخطئ إن قصرنا مفهوم ابن الله هذا على نظام مجرد يكون صورة مسبقة للخلاصات
التعليمية الكبرى التي شهدتها القرون اللاحقة. وعلى غرار ما فعل لوقا، يحرص يوحنا
في انجيله على الإشارة إلى الشركة الوثيقة التي تربط القائم من الموت بذويه.
ويظهر رفع المسيح في إنجيل يوحنا بمظهر رحيل وانفصال يشعر التلاميذ بمرارته (يو7:
33-34 و 13: 33، 36-38 و 16: 5-6). فإن ابتعاد القائم من الموت يطرح مشكلة للكنيسة،
فلقد ظهر، على ما يبدو، حنين إلى الأيام التي كان يسوع يسير فيها مع تلاميذه على
طرقات فلسطين. وبدا الوجود المسيحي مستحيلاً في غياب المسيح (راجع يو 14: 1-21).
فهل يكفي وجود رب لا يكون إلا سماويًا، لتغذية الإيمان؟
ولذلك حاول كاتب الإنجيل الرابع جاهدًا أن يبرهن أن الانفصال عن يسوع هو لخير
التلاميذ: "إنه خير لكم أن أذهب" (يو16: 7). ذلك بأن ذهاب المعلم يقابله في الواقع
عودة (يو 14: 18 و 28)، وليس المقصود هنا المجيء الثاني في آخر الأزمنة، بل إنها،
في الوقت الحاضر، عطية الروح القدس التي أصبحت ممكنة بعد رفع ابن الله إلى المجد
السماوي: "فإن لم أذهب لا يأتكم المؤيد. أما إذا ذهبت فأرسله لكم" (يو 16: 7، راجع
أيضًا يو 14: 16، 26 و 15: 26). فالروح الإلهي يوصف هنا بأنه "بارقليط"، وأحد معاني
هذه الكلمة هو "المؤيد". وليس ذلك مجرد مصادفة. فما من أحد يستطيع أن يشدد على
البعد العاطفي الذي يميز العلاقة القائمة بين المسيح وكنيسته، أكثر مما فعل كاتب
الإنجيل الرابع. ومع أن الرب القائم من الموت غائب وبعيد، فهو، بفضل الروح، متحد
بذويه اتحادًا أشد متانة مما لو كان حاضرًا بالجسد.
وقد نستطيع أن نجسد تطور مفهوم الرب السماوي بالاستناد إلى كتابات مسيحية أخرى تعود
إلى نهاية القرن الأول ومطلع القرن الثاني. وقد نستطيع أيضًا أن نُثبت أن علم
اللاهوت المسيحي تخلى عن كل ما هو يهودي، اعتبارًا من بداية القرن الثاني، واتسم
شيئًا فشيئًا بالطابع الهليني. ولكننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أن الكنائس المسيحية
التي يجمعها إيمان واحد بالمسيح يسوع ألفت، نحو السنة 100، مجموعتين تختلفان من حيث
مفهومهما لطريقة حضور القائم من الموت بين المؤمنين به.
الحياة بالمسيح
أن يكون مثل ذلك الانقسام حول أهم موضوعات الإيمان المسيحي أمرًا خطيرًا، فهذا ما
أثبته بوضوح سياق تاريخ الدين المسيحي. ولكن، لا بأس أن نتساءل لماذا نجحت الكنائس
طوال القرون الثلاثة أو الأربعة الأوائل في تجنب الانشقاق الكبير، رغم اختلافها في
الأمور المسيحانية في وقت كان المسيح في صلب الإيمان المسيحي نفسه ولم يكن ينافسه
أي موضوع ديني آخر.
إن أسباب الحفاظ على هذه الوحدة لم تكن سياسية أو ثقافية. فمنذ البدء انتشرت
المسيحية في المناطق الواقعة في جهتي الحدود الاجتماعية التي كانت تفصل الشعب
اليهودي عن جيرانه، وتخطى انتشارها السريع الحدود الشرقية في الامبراطورية
الرومانية، وخطوط التماس اللغوية بين المناطق التي تبنت الثقافة اليونانية وتلك
التي بقيت محافظة على اللغة الآرامية في فلسطين وسورية. وباختصار، بدت كل الظروف
مؤاتية لحصول تفتت سريع في الجماعات المسيحية.
فهل ينبغي إذًا أن نرد وحدة الكنائس إلى أسباب تتعلق بالناحية التأسيسية؟ فإن سفر
الأعمال يشهد على تمركز السلطة الكنسية في أورشليم من الثلاثينيات إلى الستينيات من
عصرنا. ولكن هذا التمركز بقي جزئيًا إلى حد بعيد، ويبدو أنه لم يتجاوز قط مستوى
السلطة الأخلاقية. وعلى كل حال، أدى خراب أورشليم سنة 70 وانهيار الكنيسة فيها إلى
وضع حد نهائي لنواة ذلك النظام المركزي. وحتى في وقت متأخر من القرن الثاني، عاشت
الكنائس المسيحية في ظل نظام المركزية الشاملة أو نظام "الرعايا". وبالرغم من ذلك،
لم تُسئ الخلافات حول المسائل المسيحانية إلى وحدة الكنائس قبل مطلع القرن الثاني.
ولئن كانت الأمور على هذا النحو، فلا شك في أن مرد ذلك إلى أن هذه الخلافات أبقت
على الشعور بالاتفاق على الجوهر. وهذا الجوهر هو أولا الاستناد المشترك إلى يسوع،
وهو أيضًا التعبير العملي في حياة المؤمنين عن الصورة التي كونوها عن المسيح القائم
من الموت. وسواء أمسيحًا حاضرًا بوجه خفي كان هذا القائم من الموت أم ربًا سماويًا،
فقد كان يحرر الإنسان من القيود التي تُرخي بثقلها عليه ويمنحه حرية جديدة تمكنه من
إعادة بناء حياته بأكملها. أما إعادة البناء هذه فكانت، في وقت واحد، من عمل القائم
من الموت وبإرشاد يسوع الأرضي وتعليمه وقدوته. وكانت تتم في أجواء تشبه أجواء نهاية
الأزمنة، وهي حالة تبررها القيامة.
فلم يكن يسوع موضوع تفكير نظري، بقدر ما كان يعني لجميع مسيحييّ القرن الأول حياة
جديدة تتفتح في جماعتهم. وإذا صح أن كنائس القرون اللاحقة لاقت صعوبة كبرى في
الحفاظ على وحدتها، فقد يعود ذلك إلى أنها نسيت هذا الأمر تمامًا.
(+)
Etienne Trocmé، رئيس جامعة ستراسبورغ الثانية. |