كما ابتداء الصالحات وكمالها هو الاتضاع هكذا ابتداء الشرور ونهايتها هو الكبرياء.
فكل تقشف وكل طاعة وكل فقر اختياري وكل علم إن كان ينقصها الاتضاع فهي باطلة.
الحكيم يتكبر بحكمته والقوي بقوته، والغني بثروته، والحسن الجمال بجماله. وهكذا
الشرير لا يفتر عن تجربة الروحانيين فالمطيع يجعله يتعظم بطاعته، والناسك بنسكه،
والصامت بصمته، والمتضع باتضاعه، والعالم بعلمه، أما المعرفة الحقيقية فهي المقترنة
بالاتضاع.
إن يزرع الزوان في الكل ولذلك رب المجد أعطانا سلاحًا ضده وهو الاتضاع قائلا" إذا
عملتم كل البر فقولوا إننا عبيد بطالون" وبولس الرسول يقول" ليس من يمدح نفسه هو
المزكى بل من يمدحه الرب" (رو10: 18)، فإن كنا نتعب في الخدمة فلا نتعظم على
الصامتين لأن الرب قد مدح مريم أكثر من مرثا لأنها اختارت النصيب الصالح الذي لا
يترع منها.
وإن كنا صامتين يجب ألا نترفع على المتعبين في الخدمة لأن الرب يعلمنا قائلا" ما
جئت لأُخدم بل لأخدم وأبذل نفسي فدية عن كثيرين".
وإن جلسنا في مكان هادئ ماذا ينفعنا ذلك المكان إن لم نعمل في اتضاع. وبولس الرسول
يقول" غير ناظرين على الأشياء التي ترى لأنها وقتية أما التي لا ترى فأبدية". لذلك
لا تجعل الفضيلة سببًا في سقطة الكبرياء.
إن كنت غنيًا فإنك لم تبلغ غنى إبراهيم أب الآباء الذي جعل ذاته ترابًا ورمادًا.
وإن أوكل إليك الاهتمام بشعب فموسى النبي كان رئيسًا لشعوب كثيرة. بل وصار مناجيًا
لله ومعاينًا مجد الرب، فلم يترفع قلبه ولم يتوان عن التواضع قط إذ شهد عنه الكتاب
المقدس قائلا" وكان موسى وديعًا جدًا أكثر من كافة الناس الموجودين على الأرض".
وإذا كنت ذا قوة وبأس ولابسًا التاج، فإنك لم تبلغ عظمة داود الملك الذي وضع ذاته
قائلا "أنا دودة حقيرة ولست إنسانًا".
وإن كنت ذا نسك وحكمة فإنك لم تبلغ الثلاثة فتية ودانيال النبي. إذ ابتهلوا بنفس
منسحقة وروح متواضعة.
فإن كان الصديقون لهم هذا التواضع، فكم يليق بنا نحن الخطاة؟!
عن من يترفع يكون سالكًا بالجسد كما يقول بولس الرسول إن كنتم تعيشون بالجسد
فستموتون وإن كنتم تميتون أعمال الجسد فستحيون.
كم من مصاعب احتملها بولس الرسول إذ قال لأهل كورنثوس: في الأتعاب أكثر، في الضربات
أوفر، في السجون أكثر، في الميتات مرارًا كثيرة (2كو11). إنه بعد أتعاب كثيرة
ومصاعب وفيرة يقول في اتضاع" إني ما أحتسب ذاتي قد أخذت شيئًا" ليبعد عنه أفكار
الكبرياء لأن من يتشامخ يشبه من يعير الله بفضائله.
الرب له المجد لم يعلمنا الاتضاع بالأقوال فقط بل بالأعمال إذ ائتزر بمئزر وغسل
أرجل تلاميذه وقال لهم" تعلموا مني فإني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم ".
إن جاءتك أفكار العدو فالأحرى بك أن تقول لذاتك: من أنت؟ وإلى أي حد وصلت؟ هل أنت
إيليا؟ وهل صنعت معجزات مثله؟ إذ بصلاته أغلق السماء فلم تمطر ثلاث سنين وستة أشهر
وبصلاته أيضًا أعطت السماء مطرًا! وأيضًا أحدر من السماء ثلاث مرات نارًا... وإن
كنت قد اقتنيت الإيمان فأقم بصلاتك الموتى، وفتح أعين العميان، أطرد الشياطين لأنه
قد قال "إن من يؤمن بي يعمل الأعمال التي صنعتها أنا وأعظم منها "وإن قال أحد ما
إذا لم نعمل تلك المعجزات فهل ليس لنا رجاء في خلاصنا؟ فنقول لنا رجاء في الخلاص إن
اعترفنا بضعفنا، لأن الضعيف يلتمس رحمة وليس تعظمًا.
إن كنا نطلب الرحمة فنحتاج إلى الاتضاع، وبهذا الاتضاع تكون لنا مراحم الله. لأنه
قد كتب" في تواضعنا ذكرنا الرب وخلصنا من أعدائنا" و" اتضعت فخلصني ".
بالكبرياء نستند على الرياح وبه نزج بأنفسنا إلى اللجة، فلا تقبل مرض الكبرياء لئلا
يسرقك العدو، وتيقظ من تعالي أفكار
الاعتداد بالذات لأنه بذلك تربط شبكة على رجليك.
بالتواضع اغسل ذهنك ونظفه من السم القاتل مثل الذي يكنس بيته فإنه ينحني على الأرض
وينظفها، فكم بالحري نحتاج
أن ننحني باهتمام كبير واتضاع أكثر لأجل تنظيف نفسنا.
لا تترك داخلك الأشياء التي يرذلها الله لأن النفس المتواضعة يسكن فيها الآب والابن
والروح القدس لأنه مكتوب" أية شركة للبر مع الإثم أو أية خلطة للنور مع الظلمة ".
فلنهرب من الكبرياء التي يبغضها الرب ونحب تواضع العقل الذي به أرضى الرب كافة
الصديقين لأن قربان عظيم، ومجد
وكرامة لكل من اقتناه فباستعلاء العقل دين الفريسي، وبالاتضاع تبرر العشار. ولنتضرع
إلى الرب أن يؤهلنا للميراث مع الودعاء الأبرار في ملكوت السموات.
من يشاء أن ينقل صخرة فإنه يضع العتلة تحتها لا فوقها وحينئذ يدحرجها بسهولة وهذا
نموذج الاتضاع.
نحن في جفاف من البر دائمًا لعدم الاتضاع والتأديب، فلا نجيد تحريك المجداف وندبر.
في الإنسان المتواضع تستريح روح الحكمة.
إذا ظهرت في أعين إخوتك كالذهب النقي فاحتسب نفسك مثل إناء لا يحتاج إليه فتفلت من
الكبرياء الممقوتة من الله والناس.
لا يكن وجهك فقط مطرقًا إلى الأرض بل وقلبك أيضًا.
إن رأيت إنسانًا قد نال رتبة عالية على الأرض فلا تعجب من هذا بل تعجب من الذي يبغض
الشرف الأرضي.
المتكبر مثل شجرة مرتفعة وبهية ولا ثمر فيها... والحسود مثل ثمر بهي من ظاهره وتالف
في داخله. |