|
1) إلى من هو في النور الإلهي وقد أفيض في نفسه، يفحص الخفايا ويقف على أسرار الروح
بالروح، من هو في الكوكب الوفير بهاؤه الطالع من قلبه، يتحد بالنور وهو في النور
[1]. إلى من ملأ تخوم الأرض بالمواهب والأفعال التي حققها الروح فيه، إلى من ينتشق
من الحيّ رائحة الحياة ويُدفع إلى إعلانها بنتانة الموت [2].
2) سيدي وأبا القديسين! ها لي زمن وأنا منتظر لألتقي بإنسانيتك المملوءة قداسة
والمدثرة بالله، لكن زمانة رجلي أعاقتني عن إتمام قصدي حتى الساعة. ليشهد الروح
الساكن فيك على صحة هذه الحجة!
3) هلاّ يهبني ربنا رؤية وجهك، ويُعتق قلبي من كربته قبل غروب شمس رحيلك إلى بلد
نور الأنوار، عالم أبد الآبدين، حيث ربما اختبأت عني بغمام مجد ربّك، فلم استحق
رؤيتك، لأنه لا ولوج إلى ذلك البلد للذي لم يختبره منذ الآن. فلا مهرب من ارتياد
ذلك البلد للذي لم يختبر ارتياده من ههنا، لإن عين بصيرته تتغشى حينذاك بأشعة نور
الغمام في الخارج من هناك، فتمنعه من الرؤية. أما الذهن الذي تلألأ فيه من ههنا
شعاع الحياة ليتنعم به حالما تغرب عن عينه شمس الدنيا، فهو يقسّم ميراثه ويرحل
لملاقاة الشمس العظيمة، نور العوالم العلوية.
4) أما من حيث الكلام عن كيفية تجلي الله في العقول المقدسة، فهذا غير مباح للسان.
أما تفسير السر العظيم، فقد وُضع في العقول النقية والنيّرة وخُتم عليه بالسكوت لأن
الله يتجلى لمحبيه في بلد الاندهاش فيدهشهم بجماله ويبطل حركاتهم بالإعجاب لدى
رؤيتهم أسراره. ولإن بلد الرؤى المُدهشة هذا هو مكان الإنذهال، فالسياج المحيط به
هو السكوت. وإذا أراد العقل أن يماري لإخراج السرّ من هناك إلى بلد الأصوات
لإفشائه، فإنه يصطدم بتخوم السكوت فيصمت.
5) فبأي شيء، تُعلن إذاً أسرار البلد الذي لسانه الصمت؟ فإذا كانت أسرار هذا البلد
تذهل ساكينه بالصمت، فبأي حيرة يقع أولئك الذين لم يختبروها في حال تجليها لهم. فمن
كل حركة وحسَ يُحرمون. والبلد الذي اسمه عجب، أليس تفسير أسراره انذهالا كذلك؟ وإن
وجب أن يُسمى هذا نطقا، فهو صمت بدون حركة أو تسمية. يحيّر سكانه من مجده، ويقيم
بحيرته السالكين فيه، ويغطس ناظريه بحلاوته التي لا تفسر. ليُشكل الوقح بالصمت
وليكمم بكمامة السكوت. ولإن لساني قد ترس من برد سيئاتي، ولم يستطع إعلان طوبى بني
أسرار الله، احتميت في كنف الرحمة ألتمس تحننك أنت يا خازن أسراره، وقاطن بلد
السكوت، والمتلألئ ببهاء الكائن الخفيّ الذي يهب رؤيا مجده لمحبيه.
6) مع أني صرت غريبًا عن الطوبى، تشفع بي بصلاتك الرحوم، لكي لا أبعد عن جبل
النجاة، فأضحى طعما للنار السدومية التي تبيد المنافقين [4]. يا أبانا، أسألك بدموع
أن تصلي لأجلي لأن رأسي تطأطأ من خزي أعمالي، والتجم لسان عقلي عن توسل المحبين
المتوكل والواثق. لقد زمنت رجلي من سلوك طريق بلا ظلّ، وانجرحت من عثرات الشرير،
وتكسَّرت بفخاخ أعوان المنافق. ولأن نور عيني تناءى عني بسبب نفاقي، ولم أستطع رؤية
تلك الأشياء، اجعل توابل صلاتك طبًا لجراحاتي، وحبّذا لو افتقدني في شجني عقلك
المضاءة حركاته بهذيذ يرى كل شيء [5]. ليجعلني ربنا أهلا لطوبى رؤيتك بالحس، كوني
فاقد نظري فأراك بالطريقة الأخرى.
7) لا تؤنبني إذ تحامقت مثل جاهل، فعين قلبك الفاحصة الخفايا بصلاحها، هي تستر
سيئاتي.
-------------------------------------------------------
حواشي:
[1] الكوكب هو السيد المسيح في مجده
[2] ربما كان المؤلف يتكلم عن شخصه
[3] هناك عدة ألفاظ يستخدمها الدلياتي للتعبير عن التعجب في الرسائل وهي الآتية:
- "دومارا" أي الاعجاب أو العجب
- "تهرا" أي التعجب أو العجب
- "بولهايا" أي الدهش أو الاندهاش
- "تمها" أي الذهول أو الانذهال
[4] راجع تك 19: 24.
[5] "زوعا" بالسريانية تعني أيضًا "مَلكة". لقد تم اختيار المعنى الأول وهو "حركة"
لأن له أهمية ذات مغزى في تفكير يوحنا الدالياتي. فالحركة هي على صلة مع الخوف
(تِمها) الذي يُمجد ملكات النفس. |
