حول أي حقائق أساسية نظم المسيحيون الأوائل إعلان البشرى وأيا كان أول إعلان
للإيمان؟
يمكننا البحث في نصوص العهد الجديد من الإجابة عن هذه الأسئلة المطروحة بإلحاح في
أيامنا.
في الماضي، كان أحد الموظفين الرسميين يتولى نقل الأخبار إلى الشعب، بعد تجميع
الناس في الساحات العامة أو عند مفترقات الطرق. وبعد ذلك، استعيض عن هذا الموظف
بلوحات إعلانية كانت تعلق عليها أوراق تحمل الأنباء التي تهم أهل البلدة أو
المدينة. وفي مرحلة لاحقة، استبدلت بهذه الوسيلة التقليدية وسائل اتصال جماعية أوسع
انتشارًا وأسرع إعلامًا، هي الصحف والإذاعات والتلفزيون.
فكان "المنادي" أول رجل إعلام ينقل أخبار التعبئة العامة والحروب والانتصارات
ومعاهدات السلام وتغيير نظام الحكم وجلوس الملوك على العرش أو وفاتهم... وباختصار،
كان ينادي في الساحات بأخبار الأحزان والأفراح الكبرى والأنباء السعيدة والسيئة على
السواء.
فلا عجب أن يكون حاملو "البشرى" قد اعتبروا أنفسهم "منادين" أرسلهم ملك العالم
ليعلنوا في كل مكان مجيء مُلكه. وفي اللغة اليونانية، يُدعى المنادي кήρυζ. وعندما
يستعمل أهل الاختصاص في العهد الجديد أو علماء اللاهوت هذه الكلمة العلمية في
ظاهرها، فإنما يوحون بتلك الصورة البسيطة والمألوفة التي تدل على أناس ينادون في
مفترقات العالم كلها بالـ "بشرى" الوحيدة التي تستحق فعلا أن يُزعج المرء نفسه
ليأتي فيسمعها ويغير حياته بناء عليها. ولقد صور لنا يسوع نفسه في الإنجيل بأنه
يقوم بهذا الدور، وهو يذهب به دائمًا إلى أبعد على طرقات الجليل:
"فقال لهم" لنذهب إلى مكان آخر، إلى القرى المجاورة، لأنادي فيها أيضًا بالبشرى،
فإني لهذا خرجت". وسار في الجليل كله، ينادي بالبشرى في مجامعهم" (مر 1: 38-39).
ولم يذكر لنا صاحب الإنجيل هنا حتى ما كان مضمون تلك المناداة (ولكنه يلخصه في مكان
آخر، في (مر 1: 14-15) مثلا). فالمهم هو أن يسوع "خرج" إلى البلاد كلها وخاطب
الشعب. والكنيسة منذ بداياتها لم تكن مجموعة منطوية على نفسها، او شيعة يتهامس
أعضاؤها بالأسرار، بل مجموعة تدفعها قوة باطنية على أن تنادي في كل مكان برسالة
موجهة إلى الجميع.
مختصر مفيد
إلا أن تلك الرسالة كان لها، بدون شك، مضمون صيغ أحيانا بكلمات قليلة. فإن بولس
نفسه، وهو يعرف كيف يتوسع في شرح فكره ويتقصاه إلى أبعد حدّ في رسائل طويلة، كان
قادرًا، في بعض الأحيان، على اختصار "مناداته" بالبشرى ببضع كلمات:
"فالبشرى التي ننادي بها هي المسيح مصلوب" (1 كور 1: 23).
"فلسنا ننادي بأنفسنا، بل بيسوع المسيح الربّ. وما نحن إلا خدم لكم من أجل يسوع" (2
كور4: 5).
والكلام الذي يتحدث عنه العهد القديم "هو كلام" الإيمان الذي ننادي به. "فإذا شهدت
بفمك أن يسوع ربّ، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من بين الأموات، نلت الخلاص" (روم 10:
8-9).
وفي رسائل بولس وردت أيضًا صيغ أخرى مماثلة لا يستخدم فيها كلمة "المناداة
بالبشرى".
"لا يستطيع أحد أن يقول: "يسوع رب" إلا بإلهام من الروح القدس" (1 كور 12: 3).
"نحن نؤمن بأن يسوع قد مات ثم قام" (1 تس4: 14).
فقد استعملت أقصر صيغة للتعبير هنا عن البشارة مرتين. وهي تتألف من كلمتين تختصران
كل ما هو أساسي: يسوع ربّ.
ومن يعلن ان نجار الناصرة، يسوع، هو ربّ، أو سيد، إنما يعترف في الوقت نفسه بأمرين
لهما أهمية كبرى:
فمن جهة، كان لقب "سيد" يطلق على الأمبراطور الروماني، فالحاكم فسطس يتحدث عن
الكتابة "إلى السيد" (رسل 25: 26) في إطار لا يفترض أن يكون الأمبراطور إلها، بل
يعظمه تعظيمًا رسميًا ويضعه في مرتبة فريدة على رأس المجتمع. ومن يعلن أن يسوع هو
ربّ، أو سيد، إنما يعلن سيادته المطلقة على عالمنا ومحدودية كل شكل من أشكال
السلطة بوجه جذري.
ومن جهة أخرى، تستعمل دائمًا كلمة "سيد" في اليونانية للتعبير عن اسم إله إسرائيل
الذي لا يوصف، أي يهوه: ومن يدعو يسوع "سيدًا"، قد لا يؤكد بالضبط أن يسوع هو الله،
بل يؤكد في جميع الأحوال أن الله يشركه في مجده وأنه يضعه في مرتبة تفوق كل المراتب
التي يمكن لأحد الناس أن يحتلها.
وثمة كلمة أخرى استعلمت في الصيغ التي ذكرناها، هي كلمة مسيح. ونحن لا نجهل
أهميتها: فإنها الكلمة التي توحي بالمسحة الملوكية التي قبلها داود وخلفاؤه. و
χριστός هي الترجمة اليونانية للكلمة العبرية Mashiah التي جعلناها "مسيح". ومن
يعلن أن يسوع هو المسيح، إنما يعترف بأنه المشيح الذي ينتظره إسرائيل منذ عدة قرون
والذي وعد به الأنبياء، ويعلن أن هذا الانتظار قد انتهى وأن ملك المجد قد أقام
مُلكه بيننا.
لكن القول بمسيح مصلوب يحمل مفارقة، لا بل عثارًا. فعلى المسيح (المشيح) أن يكون
ملك مجد وقوة لا تقهر. والصليب هو عقوبة العبيد الشائنة. فكيف السبيل إلى التوفيق
بين هاتين الكلمتين، وبوجه خاص حين نستعمل باليونانية، كما فعل بولس، لا صيغة اسم
المفعول التي توحي بأن هذا الصلب هو مجرد حدث تم في وقت ما (اسم مفعول "غير محدد")،
بل صيغة تجعل من هذا الصلب حالة ثابتة (اسم مفعول "تام"): فيبدو أن الصلب الشائن
طبع للأبد في مميزات هذا المشيح الغريب.
وهناك أخيرًا نصان من النصوص التي سبق ذكرهما يتحدثان عن يسوع القائم من الموت، وهو
الموضوع الأساسي الذي سنجده باستمرار في بقية هذا البحث، إذ إنه بالقيامة يتخذ صلب
المسيح معنى. والقيامة هي، في الوقت نفسه، تلك المفارقة الكبرى التي ينبغي دائمًا
للإيمان أن يتخذ القرار إزاءها. فإن المقصود هو التسليم بأن الذي مات على الصليب لم
يجد فيه نهاية. مصيره، بل إنه عاد إلى الحياة، إلى حياة لا تنتهي، وباختصار أنه حيّ
بين ذويه. وهذا التأكيد أن يسوع حيّ نجده في بعض العبارات الرائعة التي تستحق أن
تذكر هنا، وإن لم تكن "مناداة بالبشرى" بحصر المعنى. وهذه العبارات لا نقرأها في
رسائل بولس، بل في إنجيل لوقا وفي أعمال الرسل.
قال الملاكان للنسوة عند القبر: "لماذا تبحثن عن الحيّ بين الأموات؟" (لو 24: 5).
وروى تلميذا عمّاوس هذه الرسالة نفسها: "قالوا إنه حيّ" (لو 24: 23).
ولخص الحاكم فِسطس الاتهامات الموجهة إلى بولس بان الأمر يتعلق بـ "امرئ اسمه يسوع
قد مات، وبولس يزعم أنه حيّ" (رسل 25: 19).
في كل مكان تتردد الكلمة نفسها: لا شك في موت يسوع... ومع ذلك فهو حيّ. أيا كانت
تلك الحياة بالضبط؟ وهل هي الحياة نفسها التي كانت سابقا، أم إنها حياة "أخرى"؟
فالنصوص القصيرة جدًا هذه لا تقول شيئا عن ذلك. أما معنى الحدث، فقد قال يسوع
لتلميذي عمّاوس جملة تأتي في تلك الأجواء العابقة بإعلان البشرى:
"أما كان يجب على المسيح أن يعاني الآلام فيدخل في مجده؟" (لو 24: 26).
وهنا تقع مرة أخرى على مفارقة المسيح المصلوب، ولكن على المجد أيضًا، وعلى تأكيد
حتمية خفية وتدبير إلهي.
قانون إيمان بولس
والآن هذا نص أكثر توسعًا إلى حد ما وجدير بانتباه كبير، يعرضه لنا بولس على النحو
التالي:
"... البشارة التي بشرتكم بها وقبلتموها ولا تزالون عليها ثابتين، وبها تنالون
الخلاص" (1 كور15: 1-2).
فهناك إذا ما هو أساسي للمسيحيين: وهذا ما أتى بولس ليقوله عند وصوله إلى كورنثوس.
وهو كلام لا يصدر عنه: "سلمت إليكم قبل كل شيء ما تسلمته أنا أيضًأ" (1 كور15: 3).
ولا شك في أن العبارة القصيرة والموزونة هذه هي التي تلقاها من "الأخوة" فور دخوله
الكنيسة: "... أن المسيح (المشيح) مات من أجل خطايانا، كما ورد في الكتب، وأن قبر
وقام في اليوم الثالث كما ورد في الكتب، وأنه تراءى لصخر (بطرس)، فالاثني عشر" (1
كور15: 3-5).
ويضيف بولس الكلمات التالية، وهي ليست جزءًا من النواة الأولى: "ثم تراءى لأكثر من
خمسمائة أخ معًا... ثم تراءى ليعقوب، ثم لجميع الرسل، حتى تراءى آخر الأمر لي
أيضًا... هذا ما ننادي به وهذا ما به آمنتم" (1كور15: 5-8 و 11).
نشير هنا إلى استخدام فعل "نادى" وإلى التواصل الذي يقيمه بولس بين الشهود الأولين
(بطرس والاثني عشر) وبينه هو "الأخير". فالإيمان الذي تلقاه من الجماعة اختبره هو
نفسه.
ولكن لنعد إلى الألفاظ التي تضمنها ملخص الإيمان هذا. فهو يُقسم، بدون شك، إلى
مقطعين:
أ – في المقطع الأول كلام على موت يسوع، يبدأ بالمفارقة التي نعرفها: فالمشيح، ملك
المجد، مات في أحد الأيام (يشير الفعل باليونانية إلى نقطة محددة من الزمن). والقبر
هو العلامة والبرهان الذي لا يدحض على هذا الموت. وهناك توضيحان آخران:
- أولاً، مات "من أجل خطايانا": فليس هذا الموت موتا عاديًا وغير معقول خضع له
يسوع، بل هو موت ذو معنى، موت يهدف إلى انتشالنا من الخطيئة التي تلقي بثقلها علينا
وتمنعنا من أن نكون في اتحاد بالله.
- ثم إن هذا الموت يأتي وفقا لما ورد في الكتب: وهو صدى لذلك النشيد الشهير، نشيد
العبد المتألم: "طعن بسبب معاصينا... وبجرحه شُفينا" (اش35: 5).
ولكن المقصود ليس مجرد مقارنة غريبة. ولا يكفي أن نقول إن أحد الملهمين في الماضي
قد "رأى سابقا". إذ أن الاستناد إلى الكتب المقدسة يعني التأكيد أن للحدث مكانًا في
تدبير الله من أجل العالم، وأنه ليس معزولا، بل هو مُعد منذ زمن طويل. لا بل نضيف
أن حدث المسيح هو، بوجه من الوجوه، الحدث الوحيد الذي تم وفقا لـ "ما ورد في
الكتب"، لأنه النتيجة الوحيدة التي يؤدي إليها تاريخ الخلاص الذي عاشه إسرائيل.
ب – لكن المقطع الأول يذكر هنا تمهيدًا للمقطع الثاني المبني على التصميم نفسه،
وفيه كلام على القيامة. وهنا نقع على مفارقة أخرى، وهي أن المشيح الذي مات عاد من
الموت. والفعل اليوناني يُستعمل في صيغة المجهول (والكلمة تعني "أنهض")، للإشارة
إلى أن الله هو الذي أعاده إلى الحياة، وفي صيغة "تامة" للدلالة على أن هذه الحالة
ليست انتقالية، بل نهائية: فهو لا يزال إلى اليوم قائمًا من الموت. والعلامة التي
تثبت القيامة (في موازاة علامة القبر التي تثبت الموت) هي أنه "أرى نفسه" (وتستعمل
صيغة الفعل اليوناني هذه في مواضع أخرى للدلالة على مبادرة الله): وقد تدخل بوجه
حاسم في حياة بطرس والاثني عشر، فيكونون منذ الآن شهودًا على ذلك. وثمة توضيحان
آخران هنا هما "اليوم الثالث" و "كما ورد في الكتب". وقد أظهر أهل الاختصاص أن
"اليوم الثالث" هذا ليس مجرد إشارة زمنية إلى يوم الأحد. ففي الكتاب المقدس، غالبًا
ما يعني اليوم الثالث يوم تدخل الله (تك22: 4 و خر19: 16 وهو 6: 2). وورد في نص
يهودي أنه "يوم إحياء الموتى". والتلميح إلى الكتب المقدسة، وهو يضع الحدث في صُلب
التدبير الإلهي كما رأينا سابقا، من الراجح أنه ينطبق تمامًا على نص هوشع 6: 2 الذي
يشير إلى خلاص إسرائيل: "بعد يومين يُحيينا وفي اليوم الثالث يُقيمنا".
ذاك هو مضمون قانون الإيمان العريق في القدم، الذي ينقله بولس إلينا: إن يسوع الذي
مات عاد إلى الحياة للأبد، والله حقق في شأنه كل ما وعد به إسرائيل لما سيكون في
آخر الأزمنة. وبذلك يتم الله تدبيره المليء بالحب للعالم، فكما أن القبر المفتوح
أثبت موت المسيح، أثبتت شهادة الرسل قيامته.
الرسل يوضحون فكرهم
جميع الاثباتات الإيمانية التي وجدناها حتى الآن لها حتمًا مصدر مشترك هو مناداة
الرسل بالبشرى في أورشليم أولا، ثم في أماكن أخرى. ولكن، هل يمكننا ان نرجع إلى ذلك
المصدر؟
مع أن هذا السؤال بسيط، لا بد من الجواب عنه بنعم ولا في وقت واحد: نُجيب نعم،
علمًا بأن سفر اعمال الرسل يروي أخبار التبشير الأول هذا، ولا سيما التبشير الذي
قام به بطرس. ونجيب بلا لأن سفر الأعمال هو مؤلف أدبي ولاهوتي وُضع بعد مرور بضع
عشرات من السنين على وقوع الأحداث: فلا نجد فيه أقوال الرسل كما خرجت من أفواههم.
فما الذي ينقله إلينا هذا الكتاب بالضبط؟ إن مؤلفه لوقا هو رجل مؤمن أراد أن يبشر
بالمسيح من خلال حديثه عن بدايات الكنيسة. وهو أيضًا كاتب سار على طريقة المؤرخين
الأقدمين، ولقد أخذ عنهم أسلوب الخطاب خاصة. ففي المراحل الحاسمة من سرد الأحداث،
كانوا يضعون على لسان أهم الأشخاص كلامًا لم يقولوه حتمًا، بل هو يلخص الوضع الراهن
ووجهة نظر الشخص حوله. فحين يضع لوقا كلامًا على لسان بطرس أو بولس، ليس من البديهي
أن ينقل كلامهم بمضمونه الدقيق، بل ينقله بأسلوبه الخاص الذي هو أسلوب كاتب موهوب.
لكن هذا المؤمن الذي يخدم الرسالة لم يختلق تلك الخطب، بل استخبر عن طريقة الرسل في
التبشير بالمسيح. وعلى كل حال، لم يكن في استطاعته أن ينسى رسالتهم لأنها كانت سبب
اهتدائه. فإذا صح أن سفر الأعمال يروي لنا حرفية تبشير الرسل في هذه المناسبة أو
تلك، فهو يكشف لنا مضمونه الأساسي وأهم مواده.
يعرض لنا سفر الأعمال مناداة الرسل بالبشرى في ست خطب متفاوتة الطول، خمس منها
ألقاها بطرس (2: 14-40 و 3: 12-26 و 4: 9-12 و 5: 29-32 و 10: 34-43) وواحدة ألقاها
بولس (13: 16-41، ولخطبة آثينة في (17: 22-31) طابع مختلف إلى حد ما، فندعها
جانبًا).
وأول ملاحظة لا بد من ذكرها هي أن بين هذه النصوص كلها أربعة عناصر أساسية مشتركة:
- حُكم على يسوع بالموت وقتله يهود أورشليم،
- لكن الله أقامه،
- والرسل هم شهود على تلك الأحداث امام الناس،
- ومن شأن قبول هذه الشهادة أن يحمل أولئك الناس على الاهتداء لينالوا مغفرة
الخطايا، أي، بلغة الكتاب المقدس، المصالحة مع الله والوصول إلى الحياة الحقيقية.
وتجدر الإشارة إلى أن الموضوعات الأساسية هذه، التي نجدها في كل مكان، يعبر عنها
(ولا سيما عن الموضوعات الأولى) بكلمات يختلف بعضها عن بعض إلى حد ما، وإلى أن هناك
موضوعات أخرى تتشابك مع الموضوعات المهمة هذه. وهذا يعني أن الكنيسة، التي حرصت على
تركيز إيمانها على هذه المحاور الأساسية، لم ترد مع ذلك أن تفرض صياغة موحدة ولغة
مقولبة تشبه "الكلمات السحرية". فالإيمان هنا يُثبت بقوة ولا يُتلى على نحو آليّ.
ويترسخ هذا الانطباع نفسه، حين نتعمق في القراءة. فهناك موضوعات أخرى تظهر في كل
مكان تقريبًا، ولكن بصياغات متنوعة جدًا هذه المرة، نختار منها أربعة عناصر أساسية:
- إن مصدر تلك الأحداث كلها هو الله، وهو يذكر باستمرار ويرد في محل الفاعل في معظم
الجمل، ولا سيما في قيامة يسوع من الموت. وليس المسيح وحده في وسط كل شيء، بل هو لا
يزال مرتبطا بالآب وبتدبيره الأزلي.
- وهذا الارتباط بتدبير الله نراه صراحة من الاستناد إلى العهد القديم. ويظهر هنا
بوضوح في ذكر الأنبياء (3: 17 و 10: 43 و 13: 27) و "الآباء" (13: 32)، وفي الجملة
التي ورد فيها حجر الزاوية (4: 11) وهي استشهاد من أحد المزامير (مز 118: 22). وفي
تلك الخطب الست نجد سلسلة نصوص كتابية تنطبق على المسيح. وفي أعمال (13: 17-22)،
يتناول بولس تاريخ إسرائيل منذ الخروج وصولا إلى يسوع. فموضوع تتميم الكتب المقدسة
(راجع 1 كور 15) هو موضوع أساسي في تفكير المسيحيين الأولين.
- ولمّا جاء يسوع إلى العالم بعد المسيرة الطويلة التي قام بها إسرائيل، قضى حياة
بكاملها قبل بلوغه ذروة موته. وفي ألفاظ المناداة بالبشرى تلميحات متنوعة إلى حياة
يسوع هذه: يوحنا والمعمودية (10: 37 و 13: 24) والمعجزات والأشفية (2: 22 و 10:
38)، وعدم تفهم اليهود (13: 27)، ومشاهد الآلام بما فيها مشهد بيلاطس وبرأبا (3:
13-14 و 13: 28). ولا يمكن تفهم موت يسوع كما يجب إلا في أعقاب مسيرة وجد فيها نفسه
في مواجهة البشر. ولا يصعب علينا أن نرى كيف أن المهتدين الجدد، بعد التلميحات
القصيرة التي ذكرتها المناداة بالبشرى، لم يتأخروا في المطالبة بمعرفة أوسع لرسالة
يسوع ومأساته، فكان أن وُضعت الأناجيل.
- وإن يسوع، الذي أقامه الله من الموت، هو الآن في مجد الله (3: 13). والله يغمره
بروحه (2: 32)، ويمنحه ألقابًا لامعة: الرب والمسيح (2: 36) وحجر الزاوية (4: 11)
والسيد والمخلص (5: 31) وديّان الأحياء والأموات (10: 42). ويتعمق الفكر المسيحي في
هذه الألقاب كلها، ويسعى أيضًا إلى توضيح ما أضافته القيامة على ما كان عليه يسوع
منذ البدء، لأن المناداة بالبشرى كانت لا تزال غير واضحة تمامًا حول هذا الأمر.
فالمناداة بالبشرى إذا هي قبل كل شيء تأكيد مقتضب وموجز لحدث هو أن يسوع مات وقام،
ولدعوة إلى التوبة ونيل الغفران. ولكن، منذ ذلك الحين، تركزت على هذه النواة عناصر
روائية وخطوط تفكير أولى تحمل بذور التطورات اللاحقة التي عرفها الفكر المسيحي،
بدءًا بتفكير كل من بولس ويوحنا. وفضلا عن ذلك فإن تلك المناداة بالبشرى، بطبيعتها
الإعلانية، حملها شعب بأسره تجمّع حول شهود القيامة المحظيين: فالمناداة بالبشرى
حملتها الكنيسة، وهي التي ولدت الكنيسة.
[*] Claude Wiener، من مفسري الكتاب المقدس.
|