معنى الشك
يُعرّف الشكّ بأنه قصور الإنسان عن اتخاذ القرار فيما يخص قضية أو موقف ما، وهو
التردد بين نقيضين بلا ترجيح لأحدهما على الأخر. ففي حالة الوصول إلى مرحلة
تتكافئ فيها كفتي ميزان القرار وتقييم شيئين يكون عندئذ من الصعب الاختيار أو
الانتقاء بين أحد الأمرين والوصول إلى مرحلة العجز. وقد يفهم البعض أو يُفسر الشك
في الحياة الروحية على أنه عدم إيمان أو نكران الإيمان، لكن من الخطأ أن نكوّن تلك
الفكرة عن الشكّ، فالإنسان الشاك هو الذي تتساوى عنده المفاهيم وله المقدرة على
الاختيار لكنه يرفض الانحياز، بينما الإنسان الغير مؤمن فهو الإنسان الذي قد اتخذ
قراره بشأن الإيمان باللـه وهو أن اللـه غير موجود أو ما شابه ذلك من تصورات كأن
تكون نكران كلمة الله أو تحريف الكتاب المقدس أو...
وليس من إنسان في الوجود لم يدركه الشكّ في حياته، وعلينا أن نرى في ذلك الإرداة
الحرّة فحيث هناك فرصة لأن يتخذ الشخص قراره ويُمانع في ذلك فهذا هو تعبير بسيط عن
مفهوم الحرية الاختيارية للمرء. وكم هناك أناس دفعهم الشكّ إلى البحث وراء الحقيقية
واليقين ووصلوهم أخيرًا إلى قناعة تامة ساعدتهم في اتخاذ أهم القرارات التي غيرت
مجرى حياتهم. وكم نقرأ عن أناس مارسوا إرداتهم الحرّة في البحث والاستقصاء حتى
وصلوا في نهاية المطاف إلى أن يبنوا بيت إيمانهم على حجر لا يتزعزع مهما سالت
الأمطار وهبت العواصف. فلكل منا الحق في التفتيش والبحث حتى نصل إلى المعرفة،
والرائع في الأمر بأن الإنسان يكتشف بعد أن يعود من رحلته مع الشكّ إلى قناعة بأن
كل ما كان يعيشه في الماضي هو وهم ونسج من الخيال، وما قد وصله اليوم هو الحقيقة
المبتغاة.
متى كان الشكّ؟
أول تجربة شكّ يتناولها الكتاب المقدس هي حوار الحيّة التي كانت أمكر الحيوانات مع
حواء عند سؤالها لها "أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟" (تك3: 1). وهنا
يحاول إبليس الذي هو على صورة الحيّة أن يخلق نوع من القلق والتخوف تجاه المصير
والمستقبل، ويهبط من مستوى القناعة وتسليم الذات التي خضعت لها حواء ويزرع عوضا
فيها الشكّ حتى وصل الأمر به أن يزيد من نفث سمومه بقوله "اللـه عالم أنه يوم
تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان كاللـه عارفين الخير والشر" ويزعزع من ثقة
الإنسان باللـه خالقه. وهذا ما نعيشه في العديد من مفترقات حياتنا والحروب التي
يشنها الشرير، فتكون لتهتز ثقتنا باللـه وخضوعنا لمشيئته. من هذا نتعلم بعض
الأساسيات التي هي في غاية الإهمية:
1. الوسيلة التي دخلت فيها الخطيئة إلى العالم كانت بزرع الشرير الشكّ في أعماق
الإنسان ليشوّه مكانته كصورة اللـه بعصيانه الخالق وكسر وصيته.
2. إن الذهن هو باب الشكّ، فمنه وعن طريقه يحاول الشيطان التسلل إلى أعماق الذات
ويحاول تكبيلها بالحجج التي تبدو منطقية حسب معرفتنا وحكمتنا البسيطة "فرأت المرأة
أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر" (تك 3: 6).
3. يخطف الشرير ثقتنا باللـه عندما نكون بعيدين عن مصدر القوة الحقيقي في حياتنا،
كلمة اللـه الحيّة، وبذلك يكون من السهل أن يأسرنا في شباكه.
شخصيات أختبرت الشكّ
الكتاب المقدس مليء باختبارت أناس كان على إيمانهم أن يمر بمرحلة الشكّ أولا.
وسنتناول خبرة البعض منهم بإسهاب ونتمنى من القارئ أن يعود إلى الكتاب المقدس ليطلع
على الحكاية كاملة:
1- إبراهيم: أب المؤمنين، الذي آمن باللـه وحُسب له برًا ذاق الشكّ لمّا لم يصبر
تحقيق مواعيد اللـه بأن يعطي لنسله هذه الأرض، فاتخذ من جاريته هاجر ولدًا له لمّا
شاخ هو وزوجته ساره وعجزوا عن الإنجاب، فهو لم يثق تمامًا بوعده اللـه بأن من ذريته
ومن زوجته ساره سيتحقق الوعد. وهذا ما نعيشه في حياتنا الروحية بأن نخطط حياتنا
بعيدًا عن تحقيق مواعيد اللـه فيها، وبذلك نخالف ميثاقه. إن أصعب ما يواجهه المؤمن
في حياته هو انتظار تحقيق المواعيد فيتضائل بصيص الرجاء لديه ويبدأ بالاعتماد على
معرفته البشرية والتي لا توافق دائمًا معرفة الله التي يمنحها لأبناءه.
2- جدعون: إختاره الرب الإله ليخلص إسرائيل من كف مديان، وقد شكّ بذلك بقوله لملاك
الرب "بماذا أخلص إسرائيل، ها عشيرتي هي الذلى في منسى وأنا الأصغر في بيت أبي"
(قضاة 6: 15)، وبهذا بدأ يحلل بذهنه ومعرفته البشرية كيفية خلاص إسرائيل على يديه.
لكنه وصل إلى طريقة يختبر بها رسالة الرب ووعده بجزة صوف (قضاة 6: 36-40)، فتأكد
تمامًا واذعن لأمر الرب. وقد يتمنى الكثير أن تكون لهم تلك السماحية بأن يختبروا
ويفحصوا مشيئة اللـه إن كانت تخصهم، لكن ما ينقصنا هو أن نفتش بإهتمام عن جزتنا
الصوفية ونضعها في بيدرنا، فلكل مؤمن جزة أوجدها اللـه في حياته تحكي إختلاف معين
بطلها أو جفافها.
3- زكريا: اضطرب وشكّ ببشارة الملاك له بأن سيولد له ابن وهو شيخ وامرأته متقدمة
أيامها، ولم يؤمن بكلام الملاك وبشارته فظل صامتاً ولم يقدر أن يتكلم إلى اليوم
الذي تحققت فيه تلك البشارة (لو1: 5-22). إننا نضطرب لمّا يخاطبنا الرب بكلام لا
تلم به معرفتنا، فلا نثق به ولا نسلم ذواتنا لمشيئته، وجراء ذلك نومئ بدلا من أن
نتكلم وننقطع عن الكلام حتى يرينا اللـه ما خبّرنا به.
4- بطرس: إن أروع ما يسرده الكتاب المقدس عن الشكّ هو ما اختبره بطرس، حيث شخصية
بطرس الجريئة جعلته سباقا في أقواله وردود أفعاله منازعًا بجسارة الخوف والقلق.
يسرد متى حكاية يسوع ماشيًا على البحر بينما سفينة تلاميذه معذبة من الأمواج (متى
14: 22-32)، وحال رؤية تلاميذه له بدأ الخوف والاضطراب والشكّ فيما يروه إن كان
حقيقة أم خيال، وهذا ما نختبره في علاقتنا مع اللـه، فنحلل كل ما نراه حسب منطق
عيوننا البشرية. لكن اللـه لم يتركهم ولن يترك سفينة حياتنا تتعذب من أمواج الشكّ
والاضطراب والقلق، فهو يشجعنا ويؤكد لنا كما أكد لتلاميذه بأنه هو فلا داعي للخوف.
وقد شكّ بطرس في الرب لذا طلب منه أن يأمره بأن يأتي إليه على الماء، ولم يطلب أن
يحل الرب في سفينتهم وتهدأ عاصفة مخاوفهم، وهذا ما نراه مميزًا في شخصية بطرس
الجريئة، وهذا ما نحتاجه اليوم فعليًا في حياتنا الروحية، في تطبيقه في كنائسنا، في
علاقاتنا مع الآخرين حتى إن تتطلب ذلك أن ننزل من سفينتا وأن لا نسير على يابسة
المنطق فقط بل بثقة تامة بكلام إلهنا. لقد آمن بطرس ووثق أولا بكلام الرب يسوع، وفي
الحال نزل من السفينة وبدأ يمشي على الماء ليأتي إلى يسوع، لكن بعد وهلة قصيرة لمّا
رأى الرياح شديدة ابتدأ يغرق، وهذا ما نختبره في معظم لحظات إيماننا القليل،
فالكثير منا لا يرجون أن يسيروا عكس الرياح أو أن يمشوا على المياه، وعند مصادفتهم
لضيق ما في حياتهم فما لهم إلا أن يصرخوا طالبين المعونة من الرب، حتى إن لم يكونوا
على يقين تام أنه موجود في حياتهم وقد يكون مجرد خيال، فأفضل أن يصرخوا إلى أحد ما
بدلا من أن يبقوا وحيدين في سفينتهم. لقد انتهر الرب بطرس لقلة إيمانه ولأنه شكّ،
وهذا ما ينتظرنا عندما لا نثق بصوت الرب في حياتنا ولمّا نشكّ في وعوده.
5- مريم المجدلية: كانت واقفة عند قبر يسوع وظهر لها ملاكين (يو20: 11-18) وأعلماها
بخبر يسوع القائم من الموت، وقد رأت يسوع واقفاً ونادى لها بصوته لما ألتفت إلى
الوراء، ولم تعرفه لأنها شكت وظنت بأنه البستاني. الرب واقف بقربنا ومن حولنا، فقط
علينا أن نلتف إلى الوراء أحيانا لنراه، والرب ينادي كل إنسان بصوته، وهذا الصوت
مميز، ليس من الصعب أبدًا تمييزه، لكن يتطلب أن نصمت ونُسكت كل ما حولنا كي نستطيع
الإصغاء إليه. وما جعل مريم لا تميز رؤية الرب القائم هو صوت بكائها وأعينها
المملؤة دموع، لكن الرب يحاول أن يلمس كل حواسنا ليؤكد لنا بأنه هو وليس آخر. ما
نحتاجه بالفعل في حياتنا وعلاقتنا باللـه هو تلك اللحظات التي نعيشها فقط للـه، أن
نختلي بأنفسنا مع اللـه، أن نصمت، أن نتأمل، فالعالم يعيش اليوم لحظات صراع مستمرة،
صراع مع كل ما حولنا، حتى صراع مع أنفسنا.
6- توما: لقد لقب توما بالشكوك فهو لم يؤمن بقيامة الرب لأنه لم يختبر تلك القيامة
شخصيًا بل نقلت إليه عبر أصحابه، وهذا ما أراه حقيقة قمة العلاقة الصحيحة مع اللـه،
فليس علينا أن نثق بكل ما نسمعه مالم نختبر ذلك شخصيًا. لكل منا طريقة وخصوصية
منفردة مع إلهنا، لا أن ننسخ علاقة الآخرين وإختباراتهم مع اللـه ونلصقها في
حياتنا. توما لم يكن الوحيد الذي لم يصدّق قيامة الرب، فقد شكّ البعض الآخر (متى
28: 17)، لكن ما تميز به شكّ توما أنه كان لأجل بنية إيمان وثقة تامة بشخص يسوع
القائم، فهو لم ينكر قيامة الرب وإنما وضع شروط لذاك الإيمان فقال لأصحابه لمّا
أخبروه بأنهم رأوا الرب: "إن لم أبصر في يديه أثر المسامير وأضع اصبعي في أثر
المسامير وأضع يدي في جنبه لا اؤمن" (يو20: 24، 25).
لن يترك الرب إنسان يمر في حالة الشكّ دون أن يخلصه، فهذا ما فعله مع توما لمّا جاء
يسوع والأبواب مغلقة، ولم يتركه في حيرته وأذن له بأن يجس يديه وجنبه ليرى أثر
المسامير. إن الإنسان الباحث عن اللـه في حياته بصدق سيصل في النهاية إلى رؤية الرب
وأثر المسامير في يديه وجنبه ليكون على يقين الإيمان باللـه وخطته للخلاص. لم ينتهر
الرب توما لعدم إيمانه، بل طلب منه أن يتأكد من قيامته وما دام سنحت له الفرصة
ليتأكد من ذلك فعليه أن يُقدِم على الفحص ليُبعد كل شكّ من قلبه. إن أخطر ما قد
يواجهه المرء في رحلة بحثه عن اللـه هو التوان والكسل في اختبار الخلاص والبحث عن
يقين الرجاء.
إن معركة الشكّ مازالت مستمرة كما أن حربنا مع الشيطان مستمرة، فكل نمو في الإيمان
يصاحبه بعض الاضطراب والقلق والشكّ، لكن لنعلم إن إنجيل ربنا لم يصر لنا بالكلام
فقط بل بالقوة أيضًا وبالروح القدس ويقين شديد، لذا صدّ مثل هكذا أفكار لا يتم مالم
نتسلح بكلام اللـه وبرّه الذي هو قادر أن يفعل فوق كل شيء أكثر جدًا مما نطلب أو
نفتكر... آمين. |