مقدمة
كل منا يقوم بمئات الاختيارات يوميًا، ومعظم هذه الاختيارات ليست قرارات خاطئة أو
صائبة في ذاتها، كما في حالة ماذا ألبس أو ماذا آكل، ولكننا نواجه دائمًا اتخاذ
قرارات ذات أهمية أكبر، ولا نريد ان نخطئ أو أن ندفع الآخرين لفعل الخطأ، فكيف
يمكننا اتخاذ مثل هذه القرارات؟
إن معنى قرار هو اختيار بين بدائل مختلفة، واتخاذ القرارات هو نشاط إنساني مركب
تبدأ بشعوره من الشك وعدم التأكد من جانب متخذ القرار حول ما يجب عمله حيال مشكلة
ما، وتنتهي باختيار أحد الحلول التي يتوقع أن تزيل حالة الشكّ وعدم التأكد والوصول
إلى حالة القناعة في حل القضية المطروحة.
تحمل المسئولية في قراراتنا
لا تبدأ عملية صنع القرار ما لم نتعلم تحمل المسئولية، فآدم لم يصنع قراره إلا لمّا
وضع اللـه على آدم مسئولية العناية بالجنة، وأوصاه ألا يأكل من شجرة المعرفة. وقد
رافق ذلك إعطاءه الحرية في اختياراته حتى ولو أدى به ذلك إلى سوء الاختيار. وما زال
اللـه يعطينا حرية الاختيار وتحمل المسئولية حتى اليوم لنصنع قراراتنا، وكثيرًا ما
نخطئ الاختيار. وهذه الاختيارات الخاطئة قد تسبب لنا الألم، ولكنها يمكن أن تساعدنا
على أن نتعلم وننمو ونحسن الاختيار والقرار في المستقبل. فمواجهة نتائج قراراتنا
وتحملها هي من أفضل السبل لنكون أكثر خبرة وحكمة وتحملا للمسئولية.
ولم يتخذ بيلاطس قرارًا في الحكم على الرب يسوع، ولكنه قرر أن يترك الجموع يصلبونه.
ومع أنه غسل يديه، إلا أن هذا لم يمحُ ذنبه ولم يعفه عن تحمله مسئولية قراره، وغسل
يدينا من موقف عسير لا يمحو ذنبنا، ولكنه يمنحنا فقط إحساسًا كاذبًا بالسلام. علينا
أن لا نبرر أنفسنا، بل أن نتحمل مسئوليات القرارات التي نتخذها.
كما علينا أن نفكر مليًا ومسبقا بأن القرار السليم قد يكون له نتائج غير سارة،
كالرفض الاجتماعي لنا، أو فقد الوظيفة أو الاستهزاء العلني. لذا علينا أن نفكر في
بيلاطس ونقرر أن نناصر الحق مهما كان ضغط الغير علينا أو تكلفة ذلك، لا أن نتخذ
الطريق السهل للخلاص من المشكلة، "فمن يعرف أن يعمل الصواب، ولا يعمله، فإن ذلك
يُحسب له خطيئة" (يع4: 17).
كان أمام إبراهيم أن يتخذ قرارًا، أن يختار بين أن يرتحل هو وعائلته وممتلكاته إلى
جهة مجهولة، أو أن يبقى حيث كان (تك 12)، كان عليه أن يختار بين الأمان الذي كان
يعيشه، وبين الارتحال المجهول تحت ارشاد اللـه. وكل ما كان يستند إليه في قراره،
إنما هو وعد اللـه له أن يرشده ويباركه. ولم يكن متوقعًا من إبراهيم أن يقدّر ما
سيأتي به المستقبل بناء على قراره أن يرحل أو أن يمكث حيث كان. ولكن طاعته قد تركت
آثارها على تاريخ البشرية. فقراره أن يتبع اللـه، قد دفع وطور الأمة التي سيستخدمها
اللـه لتكون شعبه، عندما يأتي بنفسه إلى الأرض. فعندما أتى الرب يسوع المسيح إلى
الأرض، تحقق وعد اللـه، فتبارك كل العالم من خلال إبراهيم.
نتائج وعواقب
نعلم جميعًا أن مع أي صُنع قرار، نصنع عواقبه أيضًا. فما نعمله يمكن أن يحرك سلسلة
من الأحداث، قد تظل تعمل حتى بعد أن نزول نحن. ومما يدعو للأسف، أننا عندما نتخذ
قرارًا، لا يفكر معظمنا إلا في العواقب المباشرة، وهي كثيرًا ما تكون مضللة لأنها
قصيرة الأمد، فلا ندرك التأثير البعيد المدى لعواقب قراراتنا، ولكن مجرد التفكير
بتلك الحقيقة، أن قراراتنا ستكون لها نتائج بعيدة المدى، يجعلنا نفكر بعناية وأن
نلتمس إرشاد اللـه عندما نختار ونتصرف هكذا.
وصنع القرار يظهر شخصية الفرد وأخلاقياته وبالتالي عواقب قراراته، فلوط في طبيعة
اختياره أخذ أفضل قسم من الأرض، رغم أن ذلك كان معناه أن يعيش بالقرب من سدوم
المدينة المشهورة بشرّها. كان جشعًا للأفضل، دون أن يفكر في احتياجات عمه أبرام في
أبسط قواعد العدل والانصاف (تك13: 10-13). وحياتنا سلسلة من القرارات والاختيارات،
ويمكننا أن نختار بقراراتنا الأفضل دون اعتبار لاحتياجات الآخرين ومشاعرهم، وهذا
النوع من الاختيار يؤدي إلى مشاكل كما أثبتت حياة لوط. وعندما لا نقرر حسب فكر
اللـه، فكل ما يتبقى لنا هو الاختيار في الاتجاه الخاطئ. وفي خضم حياتنا الروحية قد
نختار ونقرر الالتصاق باللـه أو السير في طريقنا، ولكل من هذين القرارين عواقب تنتج
عن اختيارنا.
وقد لا يتصرف معظم الناس بمقتضى الفطرة السليمة، فتزخر حياتنا بقرارات لا بد أن
نندم عليها ندمًا مرًا، وهذا ما نتأمله في حياة عيسو، فقد كان من الصعب عليه التأمل
في العواقب. كان يتجاوب مع احتياج اللحظة، دون ان يدرك ما يضحي به لسد حاجته
الوقتية. إن قراره بمبادلة حق البكورية بطبق من العدس الساخن، لأكبر دليل على هذا
الضعف. ويجد البعض أحياناً أنفسهم على استعداد لأن يساوموا على أي شيء للحصول على
ما يرغبون به، وقد يدخلوا عائلاتهم، استقامتهم، أجسادهم وأنفسهم في هذه المساومات
ليشعروا في النهاية بأن جوانب هامة من حياتهم قد ضاعت بينما كانوا يجرون وراء
رغباتهم الملحة.
لقد أصبح شمشون المقاتل الجبّار، أسيرًا، فبدلا من أن يقتله الفلسطينيون، فضّلوا
إذلاله، فقلعوا عينيه وجعلوه يطحن الحبوب (قضاة 16: 18-22)، وأصبح لدى شمشون متسع
من الوقت ليفكر ما إذا كانت مفاتن دليلة تستحق أن يقضي بقية حياته ذليلا. ومع أن
اللـه لم يترك شمشون تمامًا إلا أنه سمح لشمشون ان يكوّن له قراره، وجاءت عواقب هذا
القرار أمرًا طبيعيًا.
المقارنة بين السلبيات والإيجابيات في احتمالية عواقب كل قرار أمر في غاية الأهمية.
فقد نسيء الاختيار والقرار أحياناً لأننا نجعل قيم الآخرين وأفعالهم تـُملي علينا
المواقف والسلوك، ولأننا نريد أن نكون مثل الآخرين. لكن علينا الحذر من ان تجرنا
قيم أصدقائنا أو "أبطالنا" بعيدًا عمّا يقوله اللـه إنه الصواب.
بنود ومبادئ اتخاذ القرارات
لاتخاذ قرار سليم هناك العديد من المبادئ والأساسيات تتركز عليها إمكانية إصدار
القرارات الحكيمة والصائبة. منها أن نجمع الحقائق قبل إصدار القرار، وأن نكون
منفتحين على أفكار جديدة، وأخيرًا ان نتأكد من إننا نستمع إلى كل جوانب القضية قبل
الحكم في الأمر، كل هذه خطوات سليمة في اتخاذنا لقراراتنا، لا أن نصبح كالشخص الذي
يقول: "لقد قررت فلا تزعجني بالحقائق".
ومن أهم بنود اتخاذ القرارات الهامة في حياتنا هي اتحادنا بالمسيح، فنحيا كما
يريدنا هو أن نحيا. ولعل ما يساعدنا على اتخاذ القرارات الصائبة أن نسأل أنفسنا: "ماذا
كان يسوع سيفعل؟، وماذا يريدني أن أفعل؟"
كي نصدر قرارات صائبة، تلزمنا حقائق. فقد امتحن جدعون اللـه، وطلب منه تشجيعًا أكبر،
ولم يكن اسلوبه مثاليًا تمامًا (قضاة 6: 36-40) وبعد أن طلب معجزة وتحققت له ظل لا
يؤمن، مترددًا وأجّل طاعته لأنه كان يريد برهاناً آخر. وكان طلب علامات إضافية،
دليلا على عدم الإيمان. وكثيرًا ما يجعلنا الخوف ننتظر تأكيدًا أكثر، بينما كان يجب
علينا أن نصنع قرارنا، فالعلامات المنظورة غير ضرورية إذا كانت لمجرد تأكيد ما نعلم
فعلا أنه حق.
لقد رأى جدعون معجزة الجزة المبتلة وطلب معجزة أخرى. ووضع الجزات أسلوب ضعيف لإصدار
القرارات، والذين يفعلون ذلك، يضعون حدودًا للـه، فهم يسألونه أن يستجيب
لانتظاراتهم. ونتائج مثل هذه التجارب غير حاسمة عادة، وهكذا لا يمكن أن تجعلنا أشد
يقيناً في قراراتنا. فلا نجعل "جزة" بديلا عن حكمة اللـه التي تواتينا من دراسة
الكتاب المقدس والصلاة.
بعض القرارات تحتاج إلى فحص دقيق إلى الاحتمالات الأخرى. لقد وضع داود يوآب وبثشبع
في موقف محرج (2صموئيل 11)، حيث كانت بثشبع تعرف أنه من الخطأ ارتكاب الزنى، ولكن
كان رفضها الخضوع لرغبة الملك قد يعني العقاب أو الموت. كما أن يوآب لم يعرف لماذا
يجب أن يموت أوريا، ولكن كان من الواضح أن الملك يريد قتله. ونواجه نحن أيضًا مواقف
يكون أمامنا خياران كلاهما يبدوان خاطئين. وعندما يحدث ذلك، يجب علينا ألا نغض
البصر عمّا يريده اللـه. وقد يكون الحل هو البحث عن خيارات أخرى، وبذلك قد نجد
خيارًا يُكرم اللـه.
كثيرًا ما يبين لنا اللـه أن هناك بدائل متاحة أكثر مما نفتكر، فهو يرشدنا ويعيننا
على اتخاذ القرار الأفضل. لقد ظن يوسف أن أمامه اختيارين فقط: إما أن يطلق مريم في
هدوء أو يسلمها للرجم (متى 1: 19). إلا أن اللـه كان لديه بديل ثالث: هو أن يتزوجها
ونظرًا للظروف المحيطة، فلم يخطر هذا على بال يوسف. لذا عندما يكون لقراراتنا أثر
على حياة الآخرين، فعلينا دائمًا أن نلتمس حكمة اللـه.
عند القرارات الصعبة
كثيرًا ما يكون علينا أن نختار اختيارات صعبة في مجال الحياة حيث يكون من الصعب
تمييز التصرف السليم. ويمكننا أن نساعد أنفسنا في اتخاذ مثل هذه القرارات بتحديد
دوافعنا أولا، ثم نسأل: "هل يُسر اللـه بالأسباب الحقيقية لفعل هذا؟" فاللـه لا
يُسر عندما نعمل اعمالا صالحة لنحصل على شيء من وراء ذلك، والأساليب التي نستخدمها
لتحقيق أهدافنا لها نفس أهمية بلوغ هذه الأهداف.
كما أن عدم الصبر يؤثر على قراراتنا، فعندما يواجهنا قرار صعب، علينا التأكد ألا
يدفعنا عدم الصبر إلى عمل ما لا يتفق مع كلمة اللـه. وعندما نعرف ما يريده اللـه،
لا نتصرف ضد ذلك، بغض النظر عن الظروف، فكثيرًا ما يستخدم اللـه التأخير ليمتحن
طاعتنا وصبرنا، وإن أصعب الأوقات للاتكال على اللـه هي عندما نشعر أن مواردنا آخذة
في النضوب.
قد يستلزم عزمنا على اتباع المسيح بعض الاختبارات الصعبة أو المؤلمة. فحالما دعا
الرب يسوع متى ليكون واحدًا من تلاميذه، قام في الحال وتبعه مضحيًا بوظيفته المجزية.
وعندما يدعونا اللـه أن نتبعه أو أن نطيعه، علينا أن نضحي بكل شيء كما فعل متى وأن
نعزم على ترك ما يمكن أن يعوقنا على اتباعه. وكي نعرف كيف نتصرف وكيف نقرر مصيرنا
علينا أن نقيّم كل ما يحدث من وجهة نظر الأبدية. فعندما لا يعرف الناس المسيح فإن
قراراتهم تتم كما لو أن هذه الحياة هي كل ما لديهم. ولكن هذه الحياة ، في الحقيقة،
ليست سوى مقدمة للأبدية.
وهناك قرارات تملي علينا أن نحصل على بعض الدعم لنيل التأييد بالاجماع عليها.
فعندما نكون في موقع المسئولية، نكون معرضين لإصدار قرارات من جانب واحد، فارضين
آرائنا الذاتية، ولكن القادة الناجحين يصغون باهتمام لآراء الآخرين، ويشجعونهم على
المشاركة في إصدار القرارات.
والصلاة تساعد كثيرًا في اتخاذ القرارات الصعبة، لقد صام نحميا وصلى أيامًا عديدة (نحميا
1)، معبرًا عن حزنه على خطية بني إسرائيل، ورغبته في أن تعود أورشليم للحياة بعبادة
اللـه الحقيقي الوحيد. وترينا صلاة نحميا عناصر الصلاة الفعالة، فالصلاة التي من
القلب، مثل صلاة نحميا، يمكنها أن تساعد على توضيح أي مشاكل نواجهها، وقدرة اللـه
العظيمة على مساعدتنا، والعمل الذي يجب علينا القيام به. وفي نهاية صلاته عرف نحميا
ما يجب عليه عمله. فعندما نكون رجال صلاة، يمكننا اتخاذ القرارات الصعبة عن بصيرة
صحيحة، ويتبع ذلك القيام بالعمل المناسب. ومهما واجهتنا مهام صعبة أو قرار هام حاسم،
أو مشكلة محيرة لتكن أول خطوة نتخذها أن نصلي طالبين قوة الروح القدس وإرشاده لنا.
لا نندفع في العمل متأملين أن يتم حسبما شئنا. لقد سجل كاتبو الأناجيل أن يسوع، قبل
أن يقدم على أي قرار مهم في حياته، كان يختلي بنفسه بعض الوقت ليصلي، حتى لمّا
اختار تلاميذه الاثني عشر. علينا أن نستوثق دائمًا من أن كل القرارات الهامة في
حياتنا مبنية على الصلاة والتأمل العميق.
التدافع المستمر لأمواج البحر يعطينا الإدراك الفوري لمدى اضطرابها تحت تأثير قوى
الريح والمد والجزر. والشك كذلك يترك الإنسان قلقاً مضطربًا مثل الأمواج الهادرة
تتقاذفها الرياح يميناً ويسارًا. فإن أردنا أن نوقف ذلك في حياتنا فما علينا سوى أن
نؤمن بأن اللـه يعرف ما هو الأفضل لنا، وأن نطلب الحكمة منه، واثقين أنه سيهبها لنا.
حينئذ تصبح قراراتنا صائبة وأكيدة. |