إن ما نزرعه إياه نحصد، فكم مرة يندم الإنسان عن كلام بدر منه دون أن يقصده، أو قد
تسرّع بقوله. لكن سلوك الإنسان وكلماته تكشف داخله، وكلماتنا تعبر عمّا في قلوبنا
من الغضب أو الفرح.
الكلام ليس تعبيرًا عن أفكار، أو عن مشيئة إنسان وحسب، بل هو الواقع الذي يدل عليه.
هو أكثر من صوت متذبب يخرج من حناجرنا. هو شيء لا منظور ولكنه حقيقة، هو ذو طول
موجي يتلاشى مع الزمن والمسافة لكنه كالروح يخرج من الفم. الكلام يرتبط إرتباطاً
وثيقاً بما يلج في قلوبنا، فهو يُظهر في الخارج ما كان أصلا في الداخل، وحين يلفظ
الإنسان بالكلام يبقى ناشطاً وفاعلا حتى وإن تلاشى صوته. له فاعليته السحرية،
وسلطته تفصل بين الحياة والموت، وبه نال الإنسان سلطته بتسمية الخلائق الباقية.
إن كلماتنا تُظهر حقيقتنا، فكلمات الشفاه هي فضلة القلب "الانسان الصالح من كنز
قلبه الصالح يخرج الصلاح. والانسان الشرير من كنز قلبه الشرير يخرج الشر. فانه من
فضلة القلب يتكلم فمه"
(لوقا6: 45). ولكن أي امرء يأتي بكلمات صالحة فقط؟ لا أحد! لأنه ليس من يعمل
صلاحاً. ومن قلوبنا تخرج أفكار شريرة، كالزنى والدعارة والقتل والكذب والسرقة
والاستكبار والبغضة والانتقام. وهذه الأفكار تشكّل كلماتنا، التي هي ترجمان
لفسادنا. فالمسيح كشف حالنا بقوله: يا أولاد الأفاعي، كيف تقدرون التكلُّم
بالصالحات وأنتم أشرار في نواياكم؟ فكل من لم يولد من روح اللـه، يؤثر فيه إبليس
ليكون من أتباعه، فيمتلئ شراً وحقداً، ولا يصدر منه أي كلام صالح أو أي عمل مبني
على الحق.
إن ما نقوله يؤثر في الناس، على الأرجح، أكثر من أي فعل آخر نقوم به. لذا يصنف
الكلام إلى أربعة نماذج حسب منظور الكتاب المقدس، ولابد لحقيقة كلامنا أن تنتمي
لأحد منها:
1. الكلام المنضبط: أصحاب هذا النموذج من الكلام يفكرون قبل الكلام، ويعرفون متى
يكون الصمت أفضل، ويقدمون نصيحة حكيمة "لا يستهن أحد بحداثتك بل كن قدوة للمؤمنين
في الكلام في التصرف في المحبة في الروح في الإيمان في الطهارة." (1تيمو 14: 12) و
"كثرة الكلام لا تخلو من معصية.اما الضابط شفتيه فعاقل" (أمثال
10: 19). إن كل كلمة من كلماتنا يجب أن تكون نافعة للآخرين،
فالمسيحي يتميز بكلماته التي تساعد الآخرين، ووسط هذا الجيل المعوج والملتوي، يشاء
اللـه أن يجعل أولاده وكلاءه في المجتمع، فتكون حياتهم وفقاً لدعوته الإلهية
وكلماتهم تتمم مشيئته. الكلام المنضبط هو ما يحصر أفكارنا بالطرق التي تتيح لنا أن
نقتاد بالنعمة إلى الأعمال الصالحة وإلى بنيان الإنسان، الكلام الذي هو لمدح ومجد
اسم اللـه في حياتنا "لا تخرج كلمة ردية من افواهكم بل كل ما كان صالحا للبنيان حسب
الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين" (أفسس
4: 29).
2. الكلام الحريص: أصحاب هذا النموذج من الكلام يتكلمون بالصدق، ويحاول التشجيع.
ويقدم الرسول بولس في رسالته إلى أهل أفسس ضرورة قول الصدق في كلامنا "لذلك اطرحوا
عنكم الكذب وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه.لاننا بعضنا اعضاء البعض"
(أفسس 4: 25)، فكلنا أعضاء في نفس الجسد. ونحن إنما نحيا في سلامة لأن حواسنا
وأعصابنا ترسل رسائل صادقة إلى مخنا. وفي الواقع إنه لو تعودت حواسنا وأعصابنا على
أن ترسل رسائل كاذبة إلى مخنا، لأنتهت الحياة سريعًا. إننا جميعًا نرتبط معًا في
جسد واحد، فلا يمكن لهذا الجسد أن يقوم بعمله إلا عندما نقول الصدق. وكل خداع يعوق
عمل جسد المسيح "اما العاملون بالصدق
فرضاه" (أمثال 12: 22).
3. الكلام البذيء: أصحاب هذا النموذج من الكلام يتكلمون بالسفاهة والباطل والقباحة
والنميمة. لقد أصبح الكلام واللسان سلاح مميز في يد الشرير، فهو يستخدمه ليكون
الأداة التي تجدف على اسم اللـه بالكلام السفيه الذي يخرج من الأفواه، وأصبح عالمنا
تملؤه النميمة والافتراء، فكم من سمعة تهدر بينما الناس يحتسون أكواب الشاي كل يوم.
وكم يجدر بالمرء أن يغلق الباب في وجه كل من يحملون القصص والروايات من مكان إلى
مكان.
لقد أكد الرسول بولس على نقاوة ما نتفوه به "ولا القباحة ولا كلام السفاهة والهزل
التي لا تليق بل بالأحرى الشكر" (أفسس5: 4). فنتجنب الحديث عن حماقة ما أو مزاح
سخيف، لأنه إن تحدث المرء عن شيء، وأن يمزح بشأنه ويجعله موضوع مناقشاته، فإن يدخله
بذلك إلى دائرة عقله، ويجعله وشيك الحدوث في حياته العملية. إن هنالك بعض الأشياء
التي يقود مجرد الحديث عنها أو المزاح بشأنها إلى المخاطر. ولذلك فيجب أن تختفي هذه
تمامًا من الحياة المسيحية.
4. الكلام غير المبالي: أصحاب هذا النموذج من الكلام يملؤهم الكذب واللعنات
والكلمات سريعة الانفعال مما قد يؤدي الضغينة والخصام. إن العالم مليء بالكذب وذلك
ليس بسبب الكذب المتعمد بمقدار ما هو بسبب اهمال الحقّ. إننا يجب أن نعوّد أنفسنا
على أن نعتزم، وأن نحاول أن نقول الصدق. إنه من السهل أن نضيف بعض الرتوش لأحدى
القصص، ومن السهل أن نختلق قصة عندما نقدم اعتذارنا عن عدم قيامنا بأمر من الأمور،
أو عمل شيء من الأشياء. وإنه لمن المؤكد أن العالم مليء بالكثير من الباطل غير
المتعمد، وإن الحق يتطلب مجهودًا خاصًا يبذله الفرد. إلا أن هنالك بالاضافة إلى كذب
الكلام، كذب الصمت، وقد يكون هذا أكثر انتشارًا. فقد يصمت إنسان في احدى المناقشات
بينما كان يجب عليه أن يتكلم، وبصمته يوافق على تصرف يعلم هو أنه خطأ. وقد يمتنع
إنسان عن التحذير والتوبيخ بينما يعلم جيدًا أنه كان يجب عليه أن يحذر ويوبخ. وقد
يصبح الحقّ جامدًا بسبب صمت إنسان، بمقدار ما يمكن لإنسان أن يحرق الحق بكلامه.
كذلك على المرء أن يتجنب الاشتباك بالكلام مما يقود إلى خصومات لا معنى لها
"والمباحثات الغبية والسخيفة اجتنبها عالما انها تولد خصومات. وعبد الرب لا يجب ان
يخاصم" (2تيمو2: 23، 24). إن لمثل هذه المهاترات السبب الرئيسي للنكبات التي أحاقت
بحياتنا. فمصيبة العصر الحاضر أن معظم المناقشات تافهة لدرجة أننا نادرًا ما نتناول
الأمور الهامة في الحياة والعقيدة والإيمان.
والسؤال المهم هو: ما الذي ينبغي أن يميز أحاديثنا مع الناس؟
على المؤمن الذي سلم حياته للمسيح أن لا يبتعد كلامه عن محور كلمة اللـه. أو كما
قال الرسول بطرس "إن كان يتكلم أحد فكأقوال اللـه" (2بطرس 4: 11)، حتى يكون الجواب
مقادًا بروح اللـه القدوس، فيعطي نعمة للسامعين. وأن يكون المسيحي لبقاً ولطيفاً في
كلامه، ليرضي السامعين ويجذبهم إلى الحق فيظهر فيه روح المسيح الذي يبني المؤمنين
ويؤصلهم في المحبة.
إن كبرياء الانسان أرادت أن تبني مدينة من دون اللـه فكانت النتيجة بلبلة الألسن
(تك11: 1-10). ولكن في حدث العنصرة (أع 2 :1-13)، تجاوزت البشرية انقسام الكلام،
انقسم الروح بشكل ألسنة من نار على الرسل، بحيث وصل الانجيل إلى جميع الالسن لدى كل
الشعوب. وهكذا يتصالح البشر بكلام الروح الواحد، هذا الروح الذي هو محبّة.
ما أخطر إن يعتز الإنسان بتعرفه عن المسيح خلال القراءة وحدها أو خلال المعجزات
الملموسة دون أن تتجدد طبيعته ليصير أيقونة له. فمن هو في المسيح، أي المؤمن
الحقيقي، يتمتع بسكنى المسيح في قلبه بالإيمان وبالتجديد المستمر خلال عمل روحه
القدوس، فيمارس بنوته للَّه جاحدًا بنوته القديمة التي لإبليس وأعماله الشريرة. في
المسيح ننال قلبًا جديدًا وفكرًا جديدًا وسلوكًا جديدًا وحياة جديدة وكلام جديد،
كما نعيش في خليقة جديدة، في السماويات. "اذا ان كان احد في المسيح فهو
خليقة جديدة. الاشياء العتيقة قد مضت. هوذا الكل قد صار جديدا" (2كور5: 17). |