لسنا بطرح هكذا موضوع في صدد إباحة شُرب الخمر أو تحريمه، لأننا وببساطة لسنا
بالمسيحية في عهد الناموس، إنما في عهد النعمة. وكما أسلفنا مرارًا وتكرارًا بأن
المسيحية ليست قوانين تنص بما على المؤمن عمله او التمنّع عنه، إنما هي حياة برّ
يعيشها الإنسان وعلى وفاق تام مع اللـه، ومع نفسه، ومع رفقائه من الناس. هي حياة
يستطيع فيها الشخص أن يسمو إلى مستوى لحظات الحياة العظيمة مثلما يعيش الحياة
المعتادة اليومية... هي حياة يعيش فيها يسوع المسيح مرة أخرى.
ومتى ما أخذ الإنسان عهدًا أن يتبع المسيح، يجب أن يعرف جيدًا ما هو مقبل عليه، لكن
للأسف يتخبط المرء أحيانا فيما هو تراكمات الزمن والحياة العتيقة ومخلفاتها، فيجد
صعوبة في إدراك ما هو لائق بحياة المسيحي، وما يُعدّ خطيئة. كشُرب الخمر مثلا،
ليبدأ الاستفسار والتبيّن بالمقياس المسموح للشرب، وكأننا في المسيحية نمتلك تلك
القوانين التي لدى دائرة المرور التي تحدد نسبة الكحول في الدم، ومن تجاوز تلك
النسبة يُعتبر مخالفاً للقوانين وبذلك تُسحب رخصة القيادة ويُجازى بغرامة مالية
كبيرة. إننا بالمسيحية نفك قيود الناموس لنتحرر من حياة العبودية ونصير أحرارًا
ببنوتنا للـه، وهذا ما يُحتم العيش بمستوى يليق بقداسة اللـه، فيصحو المرء من
غيبوبة الخطيئة والنشوة التي تقتنى بفعلها، وتضمر نار محبة اللـه في داخله لتنقي
حياته وتخلصها من الشوائب التي علقت بها من أيام عبوديته للخطيئة.
يتناول الكتاب المقدس جوانب كثيرة عن الخمر حتى إن البعض يبدو مشوشًا بين منظار هذه
الزاوية وأخرى، وهذه الآية وتلك، والوقائع المختلفة التي يحتويها. لكن ما لا ريب
فيه، أن للخمر بعض العواقب الجليّة والمخاطر الصريحة التي بتناول الخمر تبدو وشيكة
الحدث، لكن المدهش بالأمر أن البعض يقتبسون من الكتاب المقدس (كما يتراءى ويخدم
سلكوهم اليومي) بعض المواقف والآيات التي قد تبيح لهم شرب الخمر، لذا نخص البعض
منها بالذكر والتي كثيرًا ما نسمع عنها تعقيبات واستفسارات من المؤمنين:
1. معجزة تحويل الخمر (يوحنا 2: 1-11):
يعلم الكثيرون بأن معجزة تحويل الماء إلى خمر هي المعجزة الأولى التي صنعها يسوع في
عرس قانا الجليل، وهنا يستغلها البعض زاعمين إباحية الخمر بإقدام المسيح على هذه
المعجزة وتشجيعه على السكر. لقد دُعي يسوع إلى العرس ليشارك أفراحنا وبمعجزة تحويل
الماء إلى الخمر إنما بعث بالفرح الروحي. الخمر الذي صنعه يسوع وسقوا به للمدعوين
وقدم إلى رئيس المتكأ لم يكن ليُثملهم بل ليُفيقهم وينبههم "كل انسان انما يضع
الخمر الجيدة اولا ومتى سكروا فحينئذ الدون اما انت فقد ابقيت الخمر الجيدة الى
الان" (يوحنا 2: 10). إن إعطاء الخمر إلى المدعوين ما هو إلا رمز إلى أعطاء المسيح
دمه المبذول عنا، فيهب الفرح السماوي في حياة مُختاريه. والشيء الوحيد الذي به سكر
المدعوون هو "جمال مجد المسيح" وهذا السكر حلال. اللـه لم يخلق النار ليشجع الناس
على الاحتراق بها، أو الأدوية ليُغري الناس بها على الانتحار، هكذا لم يخلق الكروم
ليشجع الناس على السكر. الاستخدام الباطل أو الغير معتدل للكثير من الأمور والأشياء
هو ما يجعل الإنسان ينحرف عن فِكر اللـه في جوهر خلقها.
إن الرب يُعطي معنى لكل عمل في حياتنا، في أحزاننا وفي مسراتنا، فيُجدد كل أفكارنا
كما يجدد روحنا. فخمره ليس خمرًا عاديًا، إنما خمرًا فائق الجودة، وهذا ما شهد عليه
رئيس المتكأ، ويشهد عليه كل من تناول دمه المبذول.
2. قول الرب "جاء ابن الانسان يأكل ويشرب. فيقولون هوذا انسان اكول وشريب خمر" (متى
11: 19):
لقد نقل الرب فكر العالم المترنح والغير ثابت في ما يطمح إليه وما هو في الحقيقة
لأجل خلاصه، فلمّا جاء يوحنا المعمدان يعيش في البرّية، زاهدًا في الطعام كثير
الصوم يرفض الاندماج في مجتمعات البشر، قالوا عنه "إنه مجنون"، لأنه يعزل نفسه عن
المسرات العادية للبشر بهذا الأسلوب. ثم جاء الرب يسوع يندمج ويختلط مع جميع أنواع
الناس، يشاركهم أحزانهم وأفراحهم، يرافقهم في أوقات السرور، فقالوا عنه إنه إنسان
محب للعشارين والخطاة، أكول، شريب خمر، يميل إلى الذهاب إلى كل الحفلات ويندمج مع
أنواع من الناس لا يرضى إنسان أن يرافقهم. كانوا يجدون بهذا مجالا للنقد وفرصة
ليدينوا يسوع، وهذا حقيقة ما نختبره حتى وقتنا عندما لا يرغب الناس أن يستمعوا إلى
الحقّ، فإنهم سيجدون حالا عذرًا لعدم سماعهم له. إنه من الأفضل محاولة الكفّ عن
انتقاد بعض المواقف في الإنجيل ودينونتها حسب الفكر الأرضي، وعوضًا عن ذلك نبدأ في
تغيير اتجاهنا نحو السماء لنعيش حسب صلاح اللـه وقداسته.
3. قول الرسول بولس إلى تيموثاوس "استعمل خمرا قليلا من اجل معدتك واسقامك الكثيرة"
(1تيمو 5: 23):
إن هذه الآية لا تعطينا رخصة للإغراق في الخمر حتى الإدمان، ولكنها ببساطة توافق
على استعمال الخمر طالما كانت هناك فائدة طبية للخمر، لكن ليس لدرجة فرض الآية
كواجب ديني.
من الواضح أن تيموثاوس كان يعاني من أمراض وأسقام عديدة في المعدة، وقد كان العلاج
بالخمر إحدى وسائل معالجة أسقام المعدة، بل لأسقام عديدة "فتقدم وضمد جراحاته وصب
عليها زيتا وخمرا" (لوقا 10: 34). ويظهر من التمعن في الآية كاملة "لا تكن في ما
بعد شَرَّاب ماء بل استعمل خمرًا قليلا من أجل معدتك وأسقامك الكثيرة" بأن بولس
يقدم نصيحة محبة إلى تيموثاوس عن صحته، فيبدو أن تيموثاوس قد أهمل صحته أو أنه تعهد
أو أخذ على نفسه عهد النذير بأن لا يلمس نتاج الكرمة "فعن الخمر والمسكر يفترز ولا
يشرب خل الخمر ولا خل المسكر ولا يشرب من نقيع العنب ولا ياكل عنبا رطبا ولا يابسا.
كل ايام نذره لا ياكل من كل ما يعمل من جفنة الخمر من العجم حتى القشر" (عدد6:
3-4). وهذه حقيقة عظيمة يتناساها كثيرًا المسيحي والعاملون مع المسيح فيتعرضون
للضرر، هذه الحقيقة هي ضرورة اهتمامنا بالجسد وعدم إهماله فلا يحق لأي إنسان أن
ينشغل لدرجة إهمال صحته.
الجزم في الأمور الجسدية ليست من الأمور الهينة الحكم، فتارة ينصح الرسول بولس بـ
"حسن أن لا تأكل لحمًا ولا تشرب خمرًا ولا شيئا يصطدم به أخوك أو يعثر أو يضعف"
(رو14: 21)، وتارة أخرى يسدي بنصيحته الطبيّة لتيموثاوس ليجاهد بفكره المتجدد
دائمًا استعباد الحرفية القاتلة للأمور، ببساطة يقول الرسول بولس إنه لا يوجد فضل
في الحرمان إذا كان الضرر الحادث نتيجة له اكثر من المنفعة.
4. ورود بعض الآيات التي تمنع السكر ولكن ليس شرب الخمر بحد ذاته:
على سبيل الذكر "ولا تسكروا بالخمر" (أفسس 5: 18)، "غير مولعين بالخمر" (1 تيمو 3:
8)، "غير مستعبدات للخمر الكثير" (تي 2: 3)، "وادمان الخمر والبطر" (1بطرس 4: 3)، "وخمر
تفرح قلب الانسان" (مز 104: 15).
المؤمن الذي قبل
المسيح في قلبه لا يحتاج إلى نشوة الخمر لتشعره بالفرح لان الله يملأ قلبه
بالفرح الحقيقي. وكم من أناس انحرفوا عن خط سيرهم فقط لأنهم تناولوا الخمر إلى حد
الثمل، ولربما قائل يقول، لكننا لا نثمل بالخمر أو لا نشرب لحد الثمل، ومن هو ذلك
الذي يستطيع وضع المقياس أو بمشيئته يستطيع السيطرة. لقد شرب نوح من الخمر فسكر
وتعرى داخل خبائه (تك 9: 21)، وبنات لوط سقوا أباهم خمرًا ليضطجعوا معه ليحيوا من
أبيهم نسلا (تك 19: 32)، وقد كان الملك مستعدًا ليعطي نصف المملكة لأستير عن شربه
الخمر (اس7: 2)، كما ينوه إشعيا عن الحياة التي ليست حسب مشيئة الرب "وصار العود
والرباب والدف والناي والخمر ولائمهم والى فعل الرب لا ينظرون وعمل يديه لا يرون" (اش
5: 12).
المسيحية لم توصي بعدم شرب الخمر كما أوصى يوناداب بن ركاب بني الركابيين بأن لا
يشربوا خمرًا (إر 35: 6)، لكنها توصي بهيكل أجسادنا الذي هو هبة وأمانة من عند
اللـه ونحن وكلاء عنه "ان كان احد يفسد هيكل الله فسيفسده الله لان هيكل الله مقدس
الذي انتم هو" (1 كور 3: 17)، فأجسادنا هياكل للروح القدس وليست لأنفسنا.
فلا تكن بين شريبي الخمر
بين المتلفين اجسادهم (أم 23: 20) |