نخصصّ في كثير من الاحيان وقت ومراسيم الصلاة من أجل الموتى ولذكر الموتى والموت...
ولكن ما هو الموت؟ ولماذا وجد؟... وما هو الموت في المفهوم المسيحيّ تحديداً؟
الموت هو ظاهرة طبيعية. فكما أن في الطبيعة توجد الحياة، كذلك يوجد فيها الموت.
الموت والحياة عنصران من سرّ الطبيعة التي أبدعها اللـه.
لقد استيقظ الإنسان بدهشة عميقة أمام هذا السرّ منذ مغامراته الأولى في التفكير،
وبدا له بعض جوانبها مزعجاً، فطرح تساؤلات قلقة: لماذا الموت؟... هل أنتهي عنده؟...
هل هناك حياة أخرى بعده؟...
لم يقبل الإنسان، منذ مغامرته الأولى في البحث عن سرّ وجوده وغايته، أنه ينتهي
بموته، فأخذ ينشد الخلود. كم هي كثيرة وعميقة الأساطير القديمة التي تتحدّث عن رغبة
الإنسان في الخلود!.. وكم هي متنوّعة وغنيّة طقوس الاحتفال بالموت وبالموتى!.. إن
قلق الموت والتفكير فيه، كما تقول الفلسفة الوجوديّة، أقسى من الموت نفسه، ولا
يُخرِج من هذا المأزق، لا العقل وحده ولا المنطق، هناك حاجة أخرى للتأقلم مع هذه
المسألة. فإن كان الفكر الإنساني يكشف عن رغبة الإنسان القلقة بعدم الانتهاء بعد
الموت، الكشف الإلهي يُعلن عن حياة جديدة بعد الرُقاد. المسيحي يؤمن أن السيد
المسيح أعطى مفهوماً جديداً عن الموت وعن الحياة بعده، فلم يبقَ الخلود رغبة
الإنسان وحسب، بل هو أساساً مشيئة اللـه أيضاً. اللـه لا يتسمّر عند الموت. لم
يكتفِ يسوع بأن أقام الموتى (ابنة يائيروس، وحيد أرملة نائين، ولعازر)، بل أراد
الحياة لكل من يؤمن به: "من آمن بي وإن مات سيحيا". لقد مات في زمانه الكثير من
البشر، لمَ لم يقمهم؟!.. المسألة ليست تحدٍّ لنظام الطبيعة لأن اللـه هو الذي أوجده
واللـه لا يتحدّى نفسه، بل هي إعلانٌ أن اللـه فوق هذا النظام لأنه هو من أوجده..
إن يسوع يقدّم علامات لحبّ اللـه الذي يتجاوز هذا النظام.
ومن ناحية أخرى، علينا أن ننظر بإيجابية إلى هذه الظاهرة الطبيعية، فلولا الموت
والحياة لما تجددت الطبيعة، ماذا لو لم يوجد موت، وبقي جميع البشر يتكاثرون ويبقون
في شيخوخة!؟..
علينا كمسيحيين وفي عمق واقعيتنا أن ننظرإلى الموت برجاء فهو ليس نهاية.
إن يسوع، وهو ابن اللـه، انتسب إلى إنسانيتنا فأخذ لحماً كلحمنا ودماً كدمنا، ومات
كموتنا، لا بل موته يفوق موتنا! وما قيامته سوى باكورة لقيامتنا وأنموذج لها، لأنّه
من غير المعقول أن يبقى يسوع رهينة الموت. قيامته هي كشف عن أبدية اللـه. اللـه
الأبدي لن يرتهن للموت، وإن ارتهن حبّاً بالبشر، فليس أكثر من ثلاثة أيام. إن اللـه
يحبّ الإنسان، ولأنه وحبّه أبديان، يحقق الأبدية لمن أحبّ. فإذا كنّا نحن البشر،
وبالرغم من حدودنا، يعيش أحباؤنا فينا بعد موتهم طويلاً، فكم بالأحرى اللـه، الأبدي
بجوهره، الحيّ دائماً ومصدر الحياة، يمنح أحباءه الحياة فيه بعد موتهم أبداً. هذا
هو معنى قيامة يسوع وهكذا تخص هذه القيامة "من آمن به".
هل الموت جاء كعقاب لآدم بسبب خطيئته؟
إن قصة آدم وحواء، يجب أن أوضح بدايةً، هي قصة لاهوتية، ليست من نوع الخبر
التاريخي. إنها، وإن لم تكن تاريخية في تسلسل ومجريات أحداثها، حقيقية وعميقة، في
معانيها، وفي الكشف عن مقصد اللـه للبشر في خلقه الكون وفي إبداعهم على صورته
ودعوتهم العيش بحسب مثاله. هذا الكشف لا يأتي إلا من خلال إنسانية البشر، وما تحمل
هذه البشرية من ثقافة وفنون يوم تمّ تدوينه بإلهام روح اللـه. هناك نوع أدبي
للتعبير، أسلوب فني، لا يستطيع فهمه من لم يتعرّف عليه ويدرسه. لذلك يجب وضع النص
الديني في إطاره الأدبي والتاريخي والثقافي، والإصغاء لما يهمس الروح القدس في آن..
الفصول الأولى من الكتاب المقدّس التي تروي قصة آدم وحواء، كذلك الكثير من نصوص
الكتاب المقدّس، تنتمي إلى أنواع أدبية معينة، لا نستطيع فهمها إلا بدارسة نوعها
الأدبي كما وجد في زمانه.
إن هذه القصة اللاهوتية تكشف أولاً أن اللـه هو مصدر الحياة ومصدر الموت والأبدية.
والإنسان، في رفضه مصدرية اللـه هذه، وهذا معنى الخطيئة الأولى، يحكم على نفسه بقلق
الموت، يتحوّل الموت عنده إلى كارثة. عندما نطفئ شمعة أمام مرآة، لا يصدر النور عن
المرآة. وبالمثل، عندما يرفض الإنسان ارتباطه باللـه الأبدي يُغلق بحدوده، فلا يعود
يثق بأبديّته، وبالتالي يصبح الموت عنده نهاية. المسيحية هي إعادة الارتباط باللـه
وبمصدريته. لا يُفهم ذلك، كما لا نستطيع فهم أي نص من الكتاب المقدّس، العهد القديم
خصوصاً؛ إلا على ضوء إيماننا بالسيد المسيح آدم الجديد بحسب تعبير بولس الرسول.
فالتجسّد، في المسيحيّة، لم يكن نزهة لله، ولقد أراده حتى وإن لم تكن خطيئة آدم،
كما يقول بعض آباء الكنيسة، إنه كشف عن أبدية اللـه في حبه، لتحقيق أبدية مماثلة
لمن أحب، أي الإنسان. فإن كان آدم القديم قد ضيّع انتماءه لله، ورفض مصدرية الخالق
في الحياة والخلود، فشعر بوطأة الموت؛ يسوع، وهو آدم الجديد، يحافظ بأمانة مطلقة
على هذا الانتماء، فيكشف بفرح أن مصدريّة اللـه هي "أبوّة"، دون أن يرفض ما كان
نتيجة الاختيار الآدمي الأول، ودون أن يرتهن له في آن: صُلب وقام. إن يسوع يصير
كآدم لكي يحقق لآدم ما أخفق الأخير في تحقيقه، يتجسّد لنتأله، يأخذ موتنا ليمنحنا
حياته. المسألة إذاً مسألة اختيار: إما التسمّر عند ترابية آدم القديم، وبالتالي
البقاء في كارثيّة الموت وكأنه نهاية؛ وإما العبور إلى بنوّة آدم الجديد لله،
وبالتالي الاستمرار في الوجود استمرار اللـه نفسه، فصبح الموت عبوراً واستمراراً في
أبديّة اللـه.
ما سرّ الحياة بعد الموت؟
كما أن الجذور الأصلية للحياة لا يمكن معرفة نشأتها تماماً، كذلك الحياة بعد الموت
لا يمكن القبض على معرفتها تماماً، لذلك عرّفت في المقدّمة إنه سرّ. الحياة
البيولوجية سرّ، والحياة الأبدية سرّ أيضاً!... والسرّ هو ما لا ننتهي من التعرّف
عليه، نستغرق فيه!.. إنه وإن كان يفوق العقل، فهو ليس ضدّه، كالمعرفة الحقيقية،
كالعلم الحقيقي، كالحبّ، كالإيمان، كالإبداع!... اللـه السرّ الذي لا يحدّ، نحتاج
إلى الأبدية أيضاً للتعرّف عليه.
يتكشّف هذا السرّ، كما مرّ معنا، في شخص السيد المسيح الذي يقول لله: "الحياة
الأبدية هي أن يعرفوك". والمعرفة هنا بحسب ثقافة ولغة الكتاب المقدس هي الدخول في
علاقة وجودية مع اللـه، علاقة انتماء، علاقة ارتباط، علاقة بنوّة. فكما أن المسيح
عاش حضور اللـه في حياته واستمرّ في أبديته بعد مماته، أي قام من بين الأموات، كذلك
من يؤمن به يختبر الآن هذا الحضور، ويبقى في كل آن، إلى دهرالداهرين. ليست حياة
"الآن" تدريباً على حياة "دهر الداهرين" وحسب، بل هي انطلاقة لها، انطلاقٌ في
الولادة الجديدة يوم المعمودية. المسيحي لا تبدأ أبديته يوم يموت، بل تنطلق منذ
معموديته، وتستمرّ طيلة حياته الملتزمة، متذوقاً عذوبتها من خلال علامات كثيرة،
كالإفخارستيا خصوصاً، وتستمرّ استمرار اللـه نفسه، ويصبح الموت بالتالي عبوراً نحو
نوعية جديدة من تحقيق الوجود، أي القيامة، يُعبّر عنها من خلال "جسد ممجّد" كما
يقول بولس الرسول. كيف؟!.. ما معنى هذا الوجود؟ ما هو "الجسد الممجّد"؟.. لا نستطيع
فهم ذلك بالفكر وحسب، هناك ضرورة لركبٍ تركع، وعيونٍ تخشع، وقلوبٍ تسمع!... "هذا هو
سرّ الإيمان"!.. |