إن أشدّ ما حاربه المسيح هو الرياء المبني على المُظاهرة في الدين وحُب التباهي
بالتقوى والاهتمام بالبر الذاتي. وقد وصلت ذروة دعوته المرائين بالتخلي عن نفاقهم
حدّ رشقهم بالويلات إن لم يتوبوا ويصلحوا حياتهم التي بات واقعها يشبه القبور
المبيضة من الخارج بينما في الداخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة. وقد يُصاب الإنسان
أحيانا بالرياء دون أن يدرك تفكيره ذلك، ويصبح هذا الرياء جزء من واقعه وحياته
اليومية ليصعب لاحقا التخلص منه أو قد يتطلب الكثير من التضحيات التي لا يستطيع
بذلها أو تقديمها. ولتسليط الضوء على الرياء تعالوا معنا لنكتشف سوية بعض النقاط
الأساسية عن الرياء وكيفية الاستدلال عليه والتخلص منه.
ما هو الرياء؟
الرياء هو إظهار صورة واقع خلاف الحقيقة، أو إخفاء حقيقة الدوافع، كالتظاهر بمختلف
الصفات والامتيازات بينما يفتقد المرء لها. وقد يكون للرياء دافع وضرورة كمحاباة
الإنسان والمجاملة، أو قد يكون مرض يصيبه كالشعور بالنقص والضعف وذلك بفعل إبليس
والتجارب التي يشنها على كيانه. ويُعرّف البعض الرياء بأنه فن من فنون التمثيل،
فيتشبه المرائي بالممثل المسرحي الذي يظهر على خشبة المسرح مُتقنا لشخصية ما تكون
تمامًا بعيدة عن واقعه، فيظهر في دور غني بينما هو مُفلس، والممثل الموهوب هو الذي
يلبس الشخصية تمامًا ويحاكيها ويجعل المشاهدين والجمهور يؤمنون بشخصيته تلك.
أما الرياء في الأمور الدينية والحياة الروحية فله واقعه المرير والتأثير السلبي
على مجتمعنا الشرقي الذي يتميز بالمجاهرة ببعض القيم والاخلاقيات التي لا تجد لها
تطبيقا عمليًا في الحياة، أو على الأقل الفهم والنظرة السليمة لجوهرها، وبذلك لا
يجد أو يحصل المرء على الأمر المبتغى من تلك المبادئ. لنأخذ الصلاة مثلا، فأساسها
ليس قائمًا على طولها أو أصالتها أو عراقتها أو الخ... بل إلى سموها ووصولها إلى
الهدف المنشود منها وهو الارتباط باللـه والاتصال به "فادخل الى
مخدعك واغلق بابك وصل الى ابيك" (متى 6: 6). إن من يحاول إظهار ورعه وتقواه
أمام الآخرين محاولا الحصول على الاهتمام أو الوقار، حتى وإن كان بتصرفه هذا يغرس
الرهبة والمخافة في قلوب الآخرين ودعوتهم إلى الإيمان، إلا إنه لا ينال رضى اللـه
فقلبه يكون مشغولا بآلية الظهور والاهتمام الكثير بالمظهر الخارجي للـه "هذا الشعب
يكرمني بشفتيه واما قلبه فمبتعد عني بعيدا" (مر7: 6)، وكيفية نوال استحسان واحترام
وتمجيد الناس "هكذا انتم ايضا من خارج تظهرون للناس ابرارا ولكنكم من داخل مشحونون
رياء واثما" (متى 23: 28)، وهكذا قد يكون استوفى أجره وخسر مجازاة الآب في الخفاء
والتي سيعلنها لاحقا علانية.
الإدعاء بغير ما نحن هو ما وجده يسوع في المجتمع الذي عاش بينه، فرأى عبادة
الفريسين للـه التي لم تنبع من حبهم له، بل لأن ذلك كان مريحًا لهم، فكان يجعلهم
يبدون متدينين مما يرفع من مكانتهم في المجتمع. ولم يزل واقع حياتنا يشمل تلك
العبادة، فنحفظ بعض الممارسات الدينية بينما نسمح لقلوبنا أن تظل بعيدة عن اللـه،
فالعبادة ليست إجراءً شكليًا وإنما ذكرًا حقيقيًا "المحبة فلتكن بلا
رياء" (رو12: 9)
وقد يظن البعض بأن صفة الرياء في بعض السلوكيات ليست سلبية كما نصورها، فهي ليست
كتلك أن تكون سارقا أو قاتلا، لكن الحقيقة هي أن من اكتشف صفة الرياء في تصرفاته
ولم يعترف بها أو يتعهد بعلاجها وتركها وعوضًا عنها ممارسة فضيلة الوضوح والمصداقية
في كل شيء، هو كالمريض الذي لا يعترف بأبسط أعراض المرض والذي يقوده في النهاية إلى
الموت. فالوقاية أو المعالجة المبكرة لرذيلة الرياء هي خير وسيلة لإستئصالها من
حياتنا وإلى الأبد.
كيفية الاستدلال عليه
لقد ذكرنا بأننا أحيانا نسلك حسب الرياء دون أن نشعر بذلك ونسير بتلك الخطى دون أن
نميز سلوكنا المرائي وافتقادنا إلى المصداقية والصراحة في كل ما يبدر منا. حتى
إيماننا وعبادتنا قد تحيط بها أحيانا هالة الرياء دون أن نلاحظ ذلك أو نميزه، وقد
يسبقنا إبليس في توضيحها كنقطة إيجابية في سبيل دعوة الآخرين إلى المسيح والانقياد
خلف سلوكنا بأن نصبح نور العالم ويجب على سراجنا أن لا يوضع تحت المكيال بل على
المنارة ليضيء للجميع، لكن لندرك حقيقة أساسية في دعوة المسيح تلاميذه بأنهم
سيكونوا نورًا للعالم، هذا لم يعني بأن يهتم المؤمن بنوره الشخصي بل أن يكون مرآة
حقيقية لنور المسيح لتعكس حياته حياة المسيح الطاهرة، وأن يكون النور الذي في داخله
حقيقيًا وباقيًا وأن تكون حياته شفافة نقية ليستطيع ذلك النور النفاذ من خلالها، لا
أن يعتمه بالفواصل والحواجز السميكة بكل ما هو مزيف ورديء.
إن من هو حكيم يفهم قصد اللـه ويعرفه في حياته وفي كل سلوكه، وبالتالي يحتقر ويكره
كل ما لا يوازي ذلك القصد ويحاول التخلص منه بشتى الوسائل والسُبل. وحقيقة هامة على
كل من خطط بأن يتبع المسيح في حياته أن يعلمها ويتذكرها دائمًا، هي أن طرق الرب
مستقيمة، ومن لا يسلك بتلك الاستقامة فإنه حالا سيعثر فيها. وقد يجهل المؤمن ريائه
ويصبح نصيبه مع المرائين بممارسة بعض العادات والتقاليد تماشيًا مع المجتمع وأعرافه
القائمة فلا يعود إلى نفسه ويفتش عن الأمانة والطاعة للـه في كل ما يقوم به.
التخلص من الرياء
قد يكون للتخلص من الرياء الثمن الباهض، فهذا قد لا يستقطب أحيانا إعجاب البشر
واستحسانهم، أو علينا التخلي أو التخلص من بعض التقاليد والممارسات التي نشئنا
وتربينا معها واحسسنا بالدفء والسلام من خلالها، فنحس بالقلق وعدم الطمأنينة، بل
وكأننا نكفر بتركها. فأن يترك الإنسان الصلاة في رأيي أفضل من يشعر بسلام مزيف
أحيانا لاستغراقه في الصلاة لساعات ليخدع نفسه وكأنه قدم خدمة جليلة للـه سينال
عنها مكافأة عظيمة. وكذلك الصوم، فهو أمر نبيل وصعب بأن نبقى بدون طعام ليتيح هذا
لنا وقتا للصلاة، ويعلمنا ضبط النفس، ويذكرنا أننا نستطيع العيش بكميات أقل،
ويساعدنا لأن نقدر عطايا اللـه، لكن عندما يكون الصوم لأجل الثناء من الناس والرغبة
في كسب مديحهم وتمجيدهم عندها تكون ممارسته بلا منفعة بل ويل عظيم لرياء التضحية
التي فيه لأنه لا يتم في هدوء وإخلاص "ومتى
صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين" (متى 6: 16). فلا نترك داخلنا مملوءًا اختطافا
ودعارة ونهتم بتنقية خارجنا فقط لنظهر كما ينتظر حولنا من البشر أن نظهر. وقد يختمر
الرياء في عجينة الإنسان كلها ليشمل كل جوانب الحياة، فلا يقتصر على الصلاة والصوم
والصدقة إنما يمتد ليشمل ممارسات الحياة برُمتها.
وقد يضطر الإنسان أحيانا إلى استخدام التوبيخ والكلام القاسي في مقاومة الرياء في
تصرف بعض الأناس، فلا يكفي الكلام المُعسل والمجاملة في إقناع المرائي بموقفه
الخاطئ. فعندما نشعر بأن أحدًا ما يتصرف حسب الرياء، وندرك بأن ذلك يدمره، علينا
مواجهته جهارًا وفورًا مُظهرين ذلك بمحبة صادقة، حتى إن أحزنه هذا أو أغضبه لفترة،
بشرط أن نكون قد أخرجنا الخشبة من أعيننا لنستطيع أن نبصر القذى في أعين الآخر، فلا
نتجاهل عاداتنا وأنماط سلوكنا الرديئة والتي تضايقنا في الآخرين لنؤتي نحن بمثلها.
ويتناول الإنجيل الرياء وجوانبه العرضية الخطيرة والهدامة في حياة المسيحي بالتفصيل،
ولقد كانت لحياة الرسول بطرس اختبار عظيم في هذا الشأن، فقد كان يأكل مع الأمم
ويختلط بهم، ولكن لمّا جاء قوم من عند يعقوب ولاموه بدأ بتأخير وفرز نفسه خائفا من
الذين هم من الختان لئلا ينعتوه بالأممية (غلا 2: 11-12). فما كان للرسول بولس إلا
أن انتهره ليوقف مساره الخاطئ هذا، ولم يهتم بمن يكون شخص بطرس، فشهرة الإنسان
ومكانته لا يمكن أن يبرر عمله الدنيء. لقد اعطى الرسول بولس النموذج الحيّ لثبات
القوة التي يهبها المسيح لتوقف من يتخذ منحًا ومسارًا يبتعد عن جادة الصواب.
لنطرح عنا الرياء وما يتبعه من شرور وخداع، ولنعد كأطفال حديثي الولادة نشتهي لبن
كلمة اللـه العديم الغش كي ننموا به. فإن كنا قد ذقنا أن الرب صالح فعلينا أن نجتهد
في النمو في خلع الرياء وتركه، وفي الامتلاء بكلمة اللـه التي تشبع القلوب. |