توحي هذه الفقرة بوجود اعتقاد يهودي معين، وهو اعتقاد سائد حتى أننا ننادي به
أحياناً. أن يعقوب هنا يوبخ الشخص الذي يلقي اللوم على اللـه عندما يجرب. فقد كانت
الحرب التي تستمر داخل كل إنسان، كثيرًا ما تشغل بال الفكر اليهودي. وقد شغلت فكر
بولس أيضًا حين قال: "فاني أسر بناموس اللـه بحسب الإنسان الباطن. ولكني أرى
ناموسًا آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني ويسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في
أعضائي" (رومية 7: 22 و 23).
فكل إنسان اذن يحمل نفسًا تدور فيها غمار حرب أهلية، تشد الإنسان في اتجاهين
متضادين. وقد حاول اليهود تفسير التجربة، فتوصلوا إلى التعليم الذي ينادي بأنه توجد
داخل كل إنسان رغبتان أو طبيعتان.
فهناك ما أسموه باسم Yester Hatob أي الرغبة الصالحة، وهناك Yester Hara أي الرغبة
الشريرة.
ولكن هذا لا يحل المشكلة، بل يشرحها فقط. لأن ذلك لا يبين من أين جاءت الرغبة
الشريرة. ولذا فقد حاول الفكر اليهودي أن يعرف من أين جاءت الرغبة الشريرة هذه.
لقد أظهر كاتب "حكمة يشوع" مقدار الدمار الذي تحدثه تلك الرغبة الشريرة حين قال:
"يا أيتها المجاسرة الخبيثة من أين خلقت لتغطي اليابسة بالمكر؟" (حكمة يشوع 37: 3)
وهو يعتقد أن النزعة الشريرة قد أتت من الشيطان، وأن الإنسان يحارب ضدها بإرادته:
"اللـه منذ البدء صنع إنسانا ) وتركه بيد من حاول أن يجعله فريسة) ولكنه تركه أيضًا
بيد مشورته. ان أردت أن تحفظ الوصايا فاحفظ مرضاة الأمانة" (حكمة يشوع 15: 14-15)
فبناء على ذلك، يكون الشيطان هو الذي زرع النزعة الشريرة في الإنسان، وأن الإنسان
يستطيع أن يتغلب عليها بإرادته. ان بعض الكتاب اليهود يرجعون تلك الرغبة الشريرة
إلى زمن جنة عدن. ففي إحدى كتب (الأبوكريفا) وهو كتاب "حياة آدم وحواء" نجد القصة
كاملة. تقول القصة أن الشيطان قد اتخذ صورة ملاك، وتكلم في الحية واضعًا في حواء
الرغبة للأكل من الفاكهة المحرمة، وجعلها تقسم أن تعطيها لآدم كذلك. وقالت حواء:
"وعندما جعلني أقسم بذلك، تركني وصعد إلى شجرة، ولكنه وضع في الفاكهة التي أعطاها
لي سم الشر أو شهوته، لأن الشهوة هي بداية الطريق إلى الخطية. ثم نزل من على الشجرة
إلى الأرض، فأخذت الفاكهة منه وأكلتها". نرى من ذلك أن الشيطان نفسه هو الذي نجح في
أن يزرع الميل الشرير في الإنسان، وذلك الميل هو شهوة الجسد. وتنتهي القصة بأن مصدر
الخطية، يرجع في الواقع، إلى تلك الشهوة التي دسها الشيطان في الفاكهة التي أكلتها
حواء.
وفي كتاب (أخنوخ) نجد نظريتين: النظرية الأولى تنسب الخطية إلى الملائكة الذين
سقطوا (اصحاح 85)، والنظرية الثانية تعتبر مسئولية وجود الخطية والنزعة الشريرة على
الإنسان نفسه "إن الخطية لم ترسل إلى الأرض، ولكن الإنسان نفسه هو الذي أوجدها (98:
4) ولكن هاتين النظريتين لا تحلان المشكلة، بل أنهما يزيدانها تعقيدًا. فمن أين
جاءت النزعة الشريرة في النهاية؟
قد يكون الشيطان هو الذي وضع تلك النزعة في الإنسان، وقد يكون الملائكة الساقطون هم
الذين وضعوها، وقد يكون الإنسان هو الذي أوجدها ولكن من أين جاءت في النهاية؟،
وللإجابة على هذا السؤال انزلق معلمو اليهود إلى منزلق خطر. فقالوا: حيث أن اللـه
خلق كل شيء، فلابد أنه خلق النزعة الشريرة أيضًا. قال معلمو اليهود: أن اللـه قد
أحزنه أنه خلق الميل الشرير في الإنسان، لأنه لو لم يعمل ذلك لما عصى الإنسان
خالقه، ولكن اللـه يقول: "كما خلقت الميل الشرير، أوجدت كذلك الناموس لشفاء
الإنسان. فلو اتبع الإنسان الناموس، لما سقط في الشر" "ان اللـه قد خلق الميل
للصلاح عن يمين الإنسان، والميل للشر عن يساره".
ويبدو خطر هذا الرأي في أنه يعني أن الإنسان يمكنه أن يلوم اللـه، كلما وقع (أي
الإنسان) في الخطية، أو قد يقول كما قال بولس: "لست أفعل ذلك أنا بل الخطية الساكنة
في" (رومية 7: 15-24) فمن أغرب التعاليم أن يقال أن اللـه هو المسئول الأول عن وجود
الخطية.
التهرب من المسئولية
أنه لشيء غريزي في الإنسان منذ البدء، أن يلقي باللوم على الآخرين عندما يخطئ. ان
الكاتب الذي سجل قصة أول خطية ارتكبت في العالم قديمًا في جنة عدن، كان ملمًا
بخبايا النفس البشرية المامًا تامًا إذ سجل أنه عندما واجه اللـه آدم بخطيته، كان
جوابه: "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت" وعندما خاطب اللـه حواء
بخصوص خطيتها قالت: "الحية غرتني فأكلت". (تكوين 3: 12 و 13) فآدم يقول للـه: "لا
تلمني، لم حواء وحواء تقول: لا تلمني. لم الحية. فالإنسان كان منذ البدء خبيرًا في
فن التهرب من المسئولية".
ويقول روبرت برنز في هذا الصدد:
أنت تعرف أنك جبلتني... جاعلا فيّ دوافع قوية جامحة. وعندما استمع لصوتها المغري...
كم أضل الطريق بعيدًا.
فكأن الشاعر يقول أن سلوكه المعوج، يعزى لأن اللـه خلقه هكذا، أي أنه يلقي اللوم
على اللـه. ونجد بعض الناس يلومون زملاءهم، ويلومون ظروفهم، ويلقوم اللوم أيضًا على
ما فيهم من غرائز وميول.
ان يعقوب يهاجم ذلك الرأي بشدة، فهو يعتبر الإنسان مسئولا عن رغباته الشريرة.
فالخطية تقف عاجزة إذا لم تجد في الإنسان ميلا لارتكابها. فلو أن التجربة لم تجد من
يلق إليها بالا، ما عادت تجربة ولفقدت قوتها. فالرغبة إذن تحتاج لمن يغذيها ويلهبها،
والإنسان يستطيع أن يكبح جماح ذاته، ويقمع نفسه، وبقوة اللـه يمكنه أيضًا أن يستأصل
شأفة الرغبة الشريرة. ولكنه يستطيع أيضًا أن يحلق بأفكاره بعيدًا في أجواء الخطية،
ويسمح لنفسه بالذهاب إلى أماكن معينةن ويسير في صحبة رفقاء سوء، ويجول ببصره هنا
وهناك في النظر إلى أشياء محرمة، ويستطيع أن يقضي حياته خادمًا لرغباته الشريرة،
فيجعل فكره وقلبه وعينيه ورجليه وشفتيه طوع أمر تلك الرغبة العارمة. ويمكنه من
الناحية الأخرى أن يسلم ذاته للمسيح، وبروح المسيح يصير مطهرًا من كل رغبة خبيثة،
فيقطع جل وقته في عمل أشياء نافعة، فلا يتبقى وقت يقضيه في الاصغاء لصوت الرغبات
الشريرة. فالأيدي العاطلة هي التي يستخدمها الشيطان والعقل الغير مدرب هو الذي
يتسلى بأوهام الميول، والقلب الغير مكرس للـه هو الذي ينخدع وينجذب وراء الشهوة.
وإذا ما استسلم الإنسان لرغباته، فالنتيجة التي لا مفر منها، أن تتحول الرغبة فتضحى
عملا. فإذا فكر الإنسان طويلا في شيء ما، ورغب في الحصول عليه، ففي أغلب الأحيان
نجد أنه ينزع للحصول على ذلك الشيء. فالرغبة في القلب هي أم كل خطية. ثم أن
التعليم اليهودي ينادي بأن الخطية تلد الموت وفي قصة آدم وحواء التي ذكرناها من قبل،
يذكر أنه في اللحظة التي أكلت فيها حواء الفاكهة، رأت الموت. والكلمة التي يستعملها
يعقوب في (عدد 15) والمترجمة (تنتج موتا) لا تستعمل إلا عن توالد الحيوانات، ولا
تستعمل للتعبير عن نسل الإنسان، وهذا يعني أن الخطية تفقس موتا. فالخطية إذ تتملك
على الإنسان حواسه، تصيره أدنى من البشر، وتهبط به إلى مستوى الحيوانات الدنيا.
ان أهمية هذه الفقرة ترجع إلى أنه تذكر الإنسان بالمسئولية الملقاة على عاتقه تجاه
الخطية. إن كل إنسان يولد وبه ميول خاطئة، ولا نقصد بذلك الرغبة الجنسية فحسب،
فالإنسان توجد به كثير من الرغبات والميول الخاطئة. وأن الأشياء المحرمة تخلب لب
الإنسان، فإذا ألهب الإنسان تلك الرغبات التي تجعل الإنسان يسعى للحصول على أشياء
محرمة، فإن ذلك يؤدي إلى أن تنمو الرغبة الشريرة، وتكبر حتى تضحى عملا، أي خطية،
وهذا هو الطريق المؤدي للموت.
أن تلك الفكرة التي تدعمها كل الخبرات البشرية، يجب أن تقودنا إلى نعمة اللـه
القادرة وحدها على أن تحفظنا أنقياء من غير دنس، وهي تستطيع أن تغير حياة الكثيرين. |