لا يتفق عالمان اليوم على تعريف موحد للفراغ، لكن التعريف الذي وجدته أقرب إلى فكري
بأنه كل ما هو ليس موجود أو كل ما وهم وغير حقيقي. وما يثير الدهشة اليوم هو أننا
نعيش حالة فراغ خطيرة لم يسبق لها نظير، ونختبر حالة انعدام ونستمتع بالاوجودية.
وهذا في كل أصعدة الحياة ومجالاتها، فنحاول أن نوهم أنفسنا بالمعنى من وراء كل عمل
قمنا به، وكأننا نعلم إلى ما يقودنا الفعل قبل وقوعه، وما النتيجة إلا أن تهبّ
رياحنا ونظن أننا نعلم من أين جاءت وإلى اين تذهب.
إننا نمارس أفعالنا في مساحة كبيرة من الفراغ، وكل ما يُعمل في الفراغ إما أن يكون
لحظي أو لا نهائي، فعودنا أنفسنا على العيش في أرض خربة خالية، والظلمة على وجه
غمرها. فلا ننقين إلى حقيقة أن ما لا يرف روح اللـه على وجهه، هو ليس بموجود، وكل
ما لا يسكنه اللـه الكلمة ولم ينفخ به ليس نفسًا حية.
إننا نطبق النقيض في كل مقصد من الوجود، فتناقض صورتنا صورة اللـه حال نعيش الضعف
في إرادتنا والحكمة الهزيلة في قراراتنا. لنا السلطان على كل أرضنا، لكننا نفضل أن
نتسلط على المساحة الخاوية في داخلنا. حتى الأثير الذي يطير في حواسنا نفرغه فلا
تنتقل أي موجة كهرومغناطيسية شعورية لتنبها وتوقظنا حال ابتعادنا عن ذواتنا. لم يبق
فينا إلا الباطل وبالباطل نحيا كل أيامنا. وقد يصفني البعض بالتشائم وقد أكون كذلك،
لكن هكذا هي حال من يعيش العجز في من حوله، وخيبة الظن في محيطه، والعزلة في نفسه.
لم يبقى شيء يلمسنا، فمعظم ما نراه زائف وليس سوى فقاعة صابون متطايرة في الهواء
تنتظر لحظة فرقعتها، ويالسعادتنا كلما ظلت متطايرة لوقت أطول لنشعر بالإنجاز الفائق
القدرة في حياتنا.
إداركنا للألم وضيع، وما أن يدرك حياتنا حتى نبرح ننقض عليه بالسعادة المفرطة،
فنستخدم كل ما أوتينا به من قدرة لنتغلب على لحظة الضعف التي توجعنا لئلا نصحو من
غفوة الفراغ، عوضًا عن أن نجعله وسيلة لنكيف به أنفسنا لتنتقل وتكتشف المساحة
الثابتة والحقيقية في ذواتنا. إننا نستثمر طاقة الملء لنعوض شساعة الفراغ بفراغ
أوسع كالمال، والنجاح والممتلكات والوظيفة. نرقص في الحزن والألم، ونبكي في الفرح.
نكتئب عندما نحيا، ونسعد عندما نموت. ننام عندما يحين وقت الصحو، ونستيقظ عندما
يحين وقت النوم والراحة. نتكلم لمّا علينا أن نصغي، ونسكت بل نخرس لمّا علينا أن
نصرخ. نصلب جسدنا في الأحد ونظن أننا سنقوم في جمعتنا. نشمئز من الإنسان الجديد
بيسوع المسيح، ونشتاق إلى الإنسان العتيق بآدم. فإلى متى نستعبد الفراغ، ونقتل
الحياة في مصيرنا؟ إلى متى نسلم ذواتنا إلى الشهوة الخاوية ونستبدل الاستخدام
السليم لأجسادنا بكل ما هو شاذ وحقير. إلى متى نشتهي أن نملئ بطوننا بالخرنوب الذي
تأكله الخنازير، بينما بيت أبينا مليء بالخبز الشهي للأكل. ألم يحن الوقت لنعود إلى
أنفسنا ونقر بفقرنا وبؤس حالنا ونرجع إلى أبينا الحنون الذي وحده يستطيع أن يكسي
فراغنا بالحلة الأولى التي كانت لنا. فهو الخزاف الوحيد الذي له السلطان على طيننا
ليصنع منا إناء للكرامة والغنى والحياة.
لكن رُبّ قائل: متى داهمنا الفراغ؟ ولِمَ نستمتع به؟
هنا أضم صوتي مع كاتب الأمثال: "الحُسن غش والجمال
باطل" (أمثال 31: 30)، لمّا يكون الغش في أعيننا الحُسن، والباطل جمال عندها فقط
يكون الفراغ يملئ وجودنا، ونتنفس صعداء كرامته في شعورنا وسلوكنا. لقد حلّ علينا
الفراغ ضيفا كريمًا عندما التفتنا إلى كل أعمالنا وتعب أيدينا وكأننا بها بنينا برج
بابل وبه نتسلق إلى سماء فخرنا. ولقد داهمنا الفراغ عندما انتزعت العيون من رؤوسنا،
وبقيا نسير بلا هدى. ونستمتع بالفراغ لأننا وبكل بساطة وضعنا رجاءنا في الخيرات
الكثيرة الموضوعة لسنين كثيرة والتي تقتحم بفراغها حتى حفنة التربة التي صلحت يومًا
ما لتـُزرع فيها حبة الخردل، لذا اضحينا نستمتع بالفراغ ونستريح ونأكل ونشرب ونفرح
به.
لقد انصهر الحق والفضيلة وعمّ الفراغ والرذيلة لأننا نسعى وراء أفكارنا وكل واحد
يعمل حسب عناد قلبه الرديء. لقد نسينا صورتنا، نبخر للفراغ ونسجد لسبله في حياتنا،
نسلك في طريق ونتجاهل كل ما ينذرنا بأن نهايتها مغلقة. نبحر في سفينة مصيرها الغرق
ونثق ببوصلة عاطلة، ولا نصغي إلى صوت الرب وطوق النجاة الذي يقذفه. لم يعد الفراغ
يعمّنا، بل أصبح الحلم الذي نتمنى أن نلقاه في منامنا، ونصحو لنفرح به إذ هو حقيقة.
إننا نجلس عند مدخل هيكل الحياة لنسأل صدقة، ونسأل اللـه صدقة لمّا هو مزمع أن يدخل
إلى حياتنا، ونرفض عطية الخلاص باسم ابنه يسوع لنطلب عوضًا عن ذلك فضة وذهب، فراغ
وبطل. لقد انتزع الفراغ الفرح والبهجة الدائمة، الصادقة، من بستان حياتنا،
واستبدلها بمتعة الاثم وحلاوة الخطية. لقد جعل أرضنا خربة مقفرة مليئة بأشواك
البرية.
لقد وصلت عدوى الفراغ إلى كل مرافئ الحياة، فكنائسنا يملئها قادة الفراغ والباعة
المتجولين، وأحزابنا القومية شعارات فراغ ووصول إلى مراتب وانتهازية، حتى الصداقة
لم تسلم من العدوى فاصبحت أواصرها ما هي إلا فجوات فراغ الأنانية والمكسب الشخصي،
والأمثلة لا حصر لها. لكن هناك طبيب لديه العلاج الفعّال لنتخلص وإلى الأبد من
العدوى، بل ليُكسب نفوسنا مناعة وقدرة دفاعية كفوءة ضد الفراغ، إنه الطبيب الاخصائي
يسوع المسيح، فقد اكتشف وحضّر لنا ذلك المضاد الحيوي وسلمه لنا وهو على خشبة الصليب،
كلمة الرجاء والمحبة والإيمان، لكننا نمانع بأخذ ذاك المضاد متذرعين بالألم الذي قد
يصاحب وخزة أبرته، فما بالنا نبكي من ويل سحقة وضربة الفراغ، ومن جراحاته العديمة
الشفاء ما دمنا نأبى الشفاء. |