"ولما وُلِدَ يسوع في بيت لحم اليهودية في أيام هيرودس الملك إذا مجوس من المشرق قد
جاءوا إلى أورشليم. قائلين أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق و
أتينا لنسجد له" (مت 1: 1 و2)
١. ما أحوجنا إلي الكثير من الانتباه والصلاة، حتى َنصِل إلي تفسير هذا الَنص الذي
بين أيدينا، فلكي نفهم مَنْ هم المجوس؟ ومَنْ كانوا؟ ومن أين جاءوا، وكيف أتوا؟
ومَنْ الذي أقنعهم بالمجيء؟ وما هو ذلك النجم الذي ظهر لهم؟ دعنا نبدأ إذن بما
يتردد على ألسنة أعداء الحق، الذين ضربهم الشيطان حتى أنَّهم يتسلَّحون ضد كلمة
الله الصادقة.
فما الذي يدَّعيه هؤلاء المعاندون؟ إنَّهم يقولون: "هوذا قد ظهر نجم في السماء عند
ميلاد المسيح نفسه، وهذا دليل على أنَّه باستطاعتنا الاعتماد على التنجيم." ونحن
نرد عليهم بقولنا: "إذا كان السيد المسيح قد سمح لميلاده بالحدوث طبًقا لناموس
الفلك والنجوم، فلماذا إذن قد حقَّر من شأن التنجيم ونفى مسألة القدر أو الحظ؟
ولماذا إذن قد سَدَّ أفواه الشياطين وطرح الشر إلي أسفل ورفض ممارسة السحر؟" ولكن،
ما الذي َتعلَّمه المجوس من النجم في حد ذاته؟ هل عرفوا من خلاله أنَّ المولود هو
ملك اليهود؟ بالطبع لم يعرفوا من النجم أنَّ المولود هو ملك اليهود، وإنْ كان الرب
يسوع لم يكن مجرد ملكاً لليهود، بل كما قال لبيلاطس: "مملكتي ليست من هذا العالم"
(يو ١٨: ٣٦ ). فهو على أيَّة حال لم يقم بأيَّة استعراضات من هذا النوع، فلم يكن له
حراس مُدجَّجين بالحراب والدروع، ولم يركب الخيل، ولا العجلات التي تجرها البغال،
ولم يُحط نفسه بأي شيء آخر من هذا القبيل. بل عاش حياته بما فيها من فقر وإتضاع،
وكان يرافقه أينما ذهب اثنا عشر رجل من طبقة اجتماعية متواضعة.
وحتى لو عرف المجوس أنَّه ملك، فماذا كان الغرض من قدومهم؟ فمن المُؤكَّد أنَّ عمل
المُنجِّمين ليس أن يعرفوا المواليد من َتتبُّع نجومهم، بل أنْ يتنَّبأوا عما سيحدث
لهم وذلك بمعرفة الساعة التي تَتِمُّ فيها الولادة، وهذا هو ما نعرفه عن
المُنجِّمين والفلك. إلا أنَّ هؤلاء الرجال لم يكونوا حاضرين مع أُم الصبي في آلام
المخاض، ولم يعرفوا الوقت الذي وُلِد فيه الصبي. كما أنَّهم لم يَحسِبوا، اعتمادًا
على حركة النجوم وعلى توقيت ميلاد الصبي، ما الذي يتوقَّعون حدوثه في حياته. بل على
العكس من ذلك تمامًا، فقد رأى هؤلاء الرجال قد رأوا نجمًا يظهر في بلادهم البعيدة
قبل ذلك بزمنٍ، والآن إذا بهم يأتون لرؤية المولود. إنَِّ هذا الموقف يثير في حد
ذاته مشكلة أكبر من المشكلة الأولى. ُترى ما السبب الذي دفعهم للسجود لذلك المولود
الذي كان ملكاً على بلاد بعيدة كل البُعد عن وطنهم، وما المكاسب التي كانوا
يتوقَّعون الحصول عليها من هذا السجود؟ لو كان هذا الملك سوف يحكم بلادهم، لأمكننا
بكل تأكيد الوصول إلى تفسير مُقنِع لهذه الحالة. ومما لا شك فيه أنه لو كان قد
وُلِد في قصور ملكية، ولو كان أبوه نفسه ملكاً وحاضرًا إلي جانبه، لأمكننا القول
أنهم سجدوا للطفل المولود أملا منهم في كسب ود والده العظيم، ومن َثمَّ يدَّخِرون
لأنفسهم مُبرِّرًا قويًا لحصولهم علي الرعاية والاهتمام في المستقبل. أمَّا وأنَّهم
لم يكونوا يتوقَّعون مطلًقا أن يكون هذا الطفل ملكاً عليهم، بل ملكاً على أمَّة
غريبة بعيدة كل البُعد عن بلادهم. وبما أنَّهم لم يروه وقد كبر وأصبح رجل يُعتَّد
به، فلماذا إذن تراهم قد أقدموا على مثل هذه الرحلة الطويلة، مُقدِّمين هدايا للصبي
مع علمهم بأنهم حتمًا كانوا سيواجهون أخطارًا ُتهدِّد قصدهم؟ فهيرودس، من ناحية،
كان في أشد حالاته اضطرابًا عند سماعه لتلك الأخبار، كما كان الشعب كله أيضًا في
حالة من الارتباك عندما وصلت إلى مسامعهم هذه الأخبار.
فهل هؤلاء الرجال لم يتوقَّعوا ما حدث؟! بلى، فإنَّ ذلك ليس أمرًا معقولاً، لأنَّه
مهما كانت حماقتهم، فإنهم بالطبع يعرفون أنَّه عند مجيئهم إلى مدينة تحت حُكم ملك
قوي، وعند مناداتهم بوجود ملك آخر، فلا شك أنَّهم يجلبون الموت على أنفسهم ألف مرة
ومرة.
٢. ثم لماذا يسجدون في الأصل لمولودٍ في أقمطة؟ لأنَّه لو كان رجلا مُكتمِل السن،
لأمكننا القول أنَّهم كانوا يتطلَّعون إلى المعونة التي يحصلون عليها منه، الأمر
الذي جعلهم يَزُجُّون بأنفسهم في أخطار كانوا يعرفونها مُسبًَّقا. إلا أنَّ هذا
التفسير أبعد ما يكون عن المعقول، حيث أنَّه من غير المُتوقَّع أنْ يَقبَل الفرس أو
غيرهم من الأمم الذين لا يشتركون مع اليهود في أي شيء على الإطلاق بمغادرة ديارهم،
والتخلِّي عن بلادهم وذويِّهم وأصدقائهم، ويذهبون للخضوع لمملكة أخرى.
إذا اعتبرنا هذا السلوك ضربًا من ضروب الحماقة، فإنَّ ما يترتَّب عليه هو أكثر
حماقة. فما معنى أنهم بعد إقدامهم على مثل هذه الرحلة الطويلة، وسجودهم للمولود،
وتسبُّبهم في حيرة المواطنين، تراهم يرحلون عائدين إلى بلادهم بمثل هذه السرعة؟ وما
هي علامة المُْلك التي رأوها عندما أوصلتهم أرجلهم إلى حظيرة، ومذود، وطفل في
أقمطة، وأُمٍ فقيرة؟ .. ولمَنْ قدَّموا هداياهم؟ وماذا كان غرضهم؟ هل كان أمرًا
شائعًا ومُعتادًا أنْ يُقدَّم كل هذا التقدير للملوك المولودين في أي مكان؟ وهل كان
هؤلاء الرجال يواظبون على السفر في جميع أنحاء العالم، مُقدِّمين السجود للأطفال
الذين يعلمون بأنَّهم سوف يَصيرون ملوكاً ويعتلون عروشهم على الرغم من ولادتهم في
طبقات اجتماعية متواضعة؟ مرة ثانية نقول كلا، وما من أحد يمكن أن يوافق على هذا
الرأي.
ثم لأي غرض تراهم سجدوا له من الأساس؟ إن كان لأمور حاضرة، فما هو هذا الشيء الذي
كانوا ينتظرون الحصول عليه من طفل رضيع وأُم فقيرة؟ وإنْ كان لأشياءٍ آتية، فمَنْ
ذا الذي أعلمهم أن الطفل الذي كانوا قد سجدوا له وهو في الأقمطة سوف يتذكَّر صنيعهم
في مُستقبَل الأيام؟ هل كانت أمه ستذكره؟ إنَّها لو فعلت ذلك، لما أصبح هؤلاء
الرجال أهلاً للإكرام، بل بالحري للعقاب؛ لكونهم عَرَّضوا المولود لخطر لابد
وأنَّهم قد توقَّعوه. ففي تلك الآونة كان هيرودس مضطربًا، فبحث بالتدقيق، وتجسَّس،
واعتزم أن يقتل الصبي. وبالطبع فإنَّ كل مَنْ يُخبِر بالمَلِك الآتي، مُعَتبِرًا
إياه ذو شأن عظيم وهو لا يزال طفلا، إنما يكشف عن الصبي مُقدِّمًا إياه للَذبْح،
ومُشعلا ضده حربًا لا تنطفئ.
لعلَّك الآن تدرك هذه الخرافات الكثيرة، والتي سرعان ما تتضح لنا إذا ما سلَّطنا
الضوء على هذه الأحداث من وجهة النظر البشرية والتقاليد المُتعارَف عليها.
فباستطاعتنا الحديث عن أمور أخرى كثيرة تحتوي على مضمون يُثير تساؤلات أكثر مما
ذكرنا حتى الآن. ولكن لئلا نُحيِّرك بما ننسجه من تساؤلات متواصلة، دعنا نبادر الآن
بالحديث عن تفسير تلك الأمور التي تساءلنا عنها، على أن نبدأ حديثنا عن التفسير
بالنجم نفسه.
٣. فإن كان باستطاعتك أن تعرف ما هو النجم وما هو نوعه، وما إذا كان أحد النجوم
العادية، أم نجمًا جديدًا ومُختلًفا عن باقي النجوم، وما إذا كان نجمًا بالطبيعة
أَم أنَّه كان نجمًا بالظاهر فقط. فإذا تسنَّى لك معرفة ذلك، فسوف يَسهُل عليك
معرفة باقي الأمور أيضًا. ولكن كيف تتضح لنا كل هذه الأشياء؟ يُمكننا أنْ نجد
الإجابة على ذلك بإمعان النظر فيما هو مكتوب (الآيات الواردة في بداية الَنص).
أولاً: لم يكن النجم أحد النجوم العادية المعروفة، أو أنَّه لم يكن نجمًا على
الإطلاق– كما يبدو الأمر لي على الأقل– إنما كان عبارة عن قوة خفية أخذت مظهر
النجوم، وهو ما يبدو جليا من مسار هذا النجم. فالواقع يُخبرنا بأنَّه لا يُوجَد أي
نجم يتحرَّك على هذا النحو. ولكنك إذا كنت تتحدث عن الشمس أو القمر أو باقي النجوم
الأخرى، فإننا نراهم يتحركون من الشرق إلى الغرب. أمَّا هذا النجم الفريد فقد كان
مُنطلًِقا من الشمال إلى الجنوب، تمشِّيًا مع موقع فلسطين بالنسبة لبلاد الفرس.
ثانيًا: يمكننا التوصل إلي حقيقة أنَّ هذا النجم لم يكن نجمًا عاديًا من خلال زمان
ظهوره. فإنَّ هذا النجم لم يظهر في الليل، بل في منتصف النهار والشمس ساطعة. وهو
أمر ليس في مقدرة النجوم أو القمر، حيث أن القمر الذي يفوق الجميع لا يكاد يلمح
أشعة الشمس إلا ويختبئ مُسرِعًا، مُخَتفِيًا عن الأعيُن. أما هذا النجم فقد فاق
بهائه كل شيء حتى أشعة الشمس نفسها، وظهر لامعًا برَّاًقا أكثر منها، وساطعًا بضياء
أكثر عظمة وتفوًُّقا.
ثالًثا: لابد لنا من تأمُّل أمر ظهور النجم واختفائه من تلقاء نفسه مرة ثانية.
فالنجم يظهر لهؤلاء الرجال على امتداد طريقهم وحتى وصولهم إلى فلسطين وكأنه يقودهم،
أمَّا بعد دخولهم أورشليم فيُخفي نفسه. ثم بعد أنْ يتركوا هيرودس وقد أخبروه عن سبب
قدومهم، وبعد أنْ كانوا على وشك الرحيل، إذا بالنجم يعاود ظهوره. كل هذا يختلف
تمامًا عن حركات النجوم، بل قد تمَّ بقوة حباها الله بكثير من العقل والمنطق. فإنَّ
هذا النجم لم يكن له مسار خاص على الإطلاق، بل كان يتحَّرك عندما يتحَّركون، ويقف
عندما يقفون، وفق ما اقتضت الحاجة، كما كان عمود السحاب يقود اليهود بالتوقف تارة،
وباليقظة والاستعداد تارة أخرى، حسب ما كانت الضرورة تدعو.
رابعًا: أيضًا يمكننا التأكُّد بمنتهى الوضوح من حقيقة أنَّ هذا النجم لم يكن نجمًا
عاديًا من طريقة الإعلان عن مكان الصبي. فنجمنا هذا لم يفصح للمجوس عن مكان المولود
وهو باقٍ بعيدًا في العلاء، لأنَّه في تلك الحالة يكون من المحال بالنسبة لهم
التأكد من المكان المشار إليه. ولكن النجم نزل إليهم مُؤدِّيًا هذه المهمة وهو على
مقربة منهم. ولعلَّنا نعرف جيدًا أنَّه من المحال أنْ ُتستخدَم النجوم للإشارة إلى
موقع أو مكان نقطة صغيرة الأبعاد على هذا النحو، لا تزيد عن مساحة حظيرة، أو بالحري
عن الحيز الذي يشغله جسد طفل رضيع، فإنَّ الارتفاع الشاهق للنجم يجعل من المُتعذِّر
عليه تمييز نقطة صغيرة ومحصورة بالدقة المطلوبة، ويجعل من الصعب جدًا إيضاح هذه
النقطة لمَنْ يرغبون في رؤيتها. أمَّا القمر فالجميع يستطيعون الاهتداء بضوئه لرؤية
الأشياء. حيث يظهر نوره فائًقا على ضوء النجوم، ويبدو لجميع الساكنين في العالم
والمنتشرين علي نطاق واسع علي ظهر الأرض وكأنه قريب من كل واحد منهم. أخبرني إذن
كيف أشار النجم إلى تلك النقطة المحصورة، التي لا تزيد عن مساحة المذود والحظيرة،
إلا إذا كان النجم قد نزل عن ارتفاعه الشاهق، ووقف عند رأس الصبي؟ ولعل ذلك هو ما
كان البشير يشير إليه بقوله:
"وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدَّمهم حتى جاء ووقف فوق، حيث كان الصبي." (مت
2: 9).
٤. هل تأكدت الآن من كل هذه الدلائل والإثباتات كيف أنَّ هذا النجم لم يكن يظهر
كأحد النجوم، وأنَّه لم يَسِر َتبِعًا لنظام الخليقة المنظورة؟ وهل عرفت السبب
الكامن وراء ظهوره؟ لقد ظهر لتوبيخ اليهود، وحرمانهم من أيَّة فرصة لتبرير جهلهم
العنيد. فبما أنَّ الآتي كان سيضع نهاية للنظام القديم، داعيًا العالم كله إلى
عبادته والسجود له في كل مكان، بحرًا كان أم برًا. ها هوذا منذ البداية يفتح الباب
أمام الأمم بنفسه، واعظاً خاصته في الوقت نفسه من خلال الغرباء. ولمَّا كان أنبياء
العهد القديم قد تحدَّثوا عن مجيئه بلا انقطاع، ومع ذلك لم يعبأ بهم شعبه، لذا فلقد
سمح لأُناس أمميين بالقدوم من بلاد بعيدة بحًثا عن الملك الذي كان في وسط شعبه ولم
يشعروا به.
فالآن أصبح على اليهود أنْ يسمعوا من لسان فارسي ما لم يخضعوا لسماعه بفم الأنبياء.
فمن ناحية نقول أنَّه لو كان لديهم أدنى استعداد للأمانة، لكان لهم الدافع الأقوى
للطاعة. ومن الناحية الأخرى ُنؤكِّد أنَّهم إذا كانوا من أهل التحزُّب والعناد،
فليس لهم أي عذر. فما الذي يمكنهم قوله وقد رفضوا السيد المسيح بعد كل ما جاءهم من
أنبياء، ورؤيتهم للمجوس الذين لمَّا نظروا نجمًا واحدًا، َقبِلوا المولود وجاءوا
ساجدين له. فإنَّ هذا هو أقرب ما يكون إلى ما فعله الله مع أهل نينوى عندما أرسل
إليهم يونان النبي. وهو أمر قريب الشبه أيضًا بالمرأتين السامرية والكنعانية. ولهذا
السبب أيضًا نسمعه يقول "رجال نينوى سيقومون في الدين مع هذا الجيل ويدينونه" (مت
12: 41) و"ملكه التيمن ستقوم في الدين مع هذا الجيل وتدينه" (مت 12: 42). فإنَّ
جميع أولئك آمنوا بما هو أقل، بينما لم يؤمن اليهود بمَنْ هو أعظم.
وقد يتساءل أحد قائلاً: "ولكن لماذا جذب الله المجوس بمثل هذه الرؤيا؟" وَنرُد نحن
بقولنا: وماذا كان عليه أن يفعل؟ أيُرسِل لهم الأنبياء؟ حسًنا، ولكن المجوس ما
كانوا ليخضعون لهم. أيُرسِل لهم صوًتا من السماء؟ كلا، فما كانوا لينصتون. أيُرسِل
لهم ملاكاً؟ ولكنهم ما كانوا ليعبأوا بالملائكة. وهكذا لم يلجأ الله إلى أيٍّ من
هذه الوسائل، بل هوذا يدعوهم، بتواضع شديد، من خلال الأشياء المألوفة لديهم. ولذا
فهو يُشرِق عليهم ههنا بنجمٍ كبير وغير عادي، لعلَّهم يلتفتون بسبب دهشتهم من ضخامة
حجمه وجمال منظره وطريقة تحرُّكه.
وقياسًا على ذلك، فعندما تحدَّث بولس الرسول مع قومٍ من اليونانيين غير المؤمنين
الذين يتعبَّدون على مذبح وثني، استشهَد بنصوص من شعرائهم. وعندما تحدَّث مع اليهود
أثار موضوع الختان، وجعل من موضوع الذبائح مُقدِّمة لتعليمه الذي يُوجِّهه إلى مَنْ
يعيشون تحت الناموس. فبما أنَّ كُلاً منَّا يعتز بما أَلِفه واعتاد عليه، فإنَّ
الله نفسه والأنبياء الذين أرسلهم يعتمدون على هذا المبدأ أثناء عملهم لخلاص
العالم. ولذلك فلا يجب عليك الاعتقاد بأنَّه لم يكن من اللائق أنْ يستخدم الله
نجمًا، حيث أنَّك إنْ اعتقدت بذلك، فسوف تجد جميع طقوس اليهودية أمور غير لائقة
أيضًا سواء الذبائح، أو التطهيرات، أو رؤوس الشهور، أو تابوت العهد، أو حتى الهيكل
نفسه. حيث أنَّ هذه الأشياء نفسها قد اشُتقَّت من أصول أممية. ومع ذلك كله، ومن أجل
خلاص جميع الذين كانوا يعيشون في الضلال، احتمل الله وَقبِل أنْ ُتقدَّم له الخدمة
من خلال تلك الأشياء، مع أنَّ الذين هم من خارج كانوا يستخدمونها في تقديم الخدمة
للشياطين. إلا أنَّ الله غيَّرها قليلاً حتى يجتذب الأمم شيئًا فشيئًا بعيدًا عن
عاداتهم، لكي يقودهم نحو الحكمة العليا. إنَّ هذا هو ما فعله الله في حالة المجوس،
غير مزدرٍ أنْ يدعوهم برؤية نجم، لكي يرفعهم أكثر فأكثر فيما بعد. من هنا، فبعد أنْ
اقتادهم الله وأمسك بأيديهم ووضعهم عند المذود، ليس بنجمٍ بعد يتكلَّم الله معهم
الآن بل بواسطة ملاك. من هنا يُمكِن القول أنَّ هؤلاء الرجال قد ارتقوا إلى الأفضل.
وهذا هو ما حدث أيضًا في أشقلون وغزة إذ كانتا من المدن الخمس التي ضُرِبت بوباء
فتَّاك عند مجيء تابوت الرب، ولم تجد لها خلاصًا من الشرور التي كانت َتئنُّ تحت
نيرها، عندئذ نادى أهل تلك المدن على أنبيائهم، واجتمعوا معهم في محاولة لاكتشاف
المَخرَج والمفر من هذا التأديب الإلهي. عندئذٍ أَمَرَهم أنبياؤهم أنْ يربطوا
بالتابوت بقرتين مرضعتين ولم يَعُلهما نير (أي غير مُروَّضتين)، ويطلقوهما في
طريقهما وبدون قيادة من أي إنسان حتى يكون ذلك دليلاً على ما إذا كان الوباء من عند
الرب أم مجرد حادث عارِض، ذاك الذي ابتلاهم بهذا المرض العضال. وقال الأنبياء: "إذا
مزَّقت البقرتان النير لقلة خبرتهما أو مالتا في الاتجاه الذي يأتي منه صوت ثغاء
عجولهما الصغار، فمعنى ذلك أنَّ الوباء كان بمحض الصدفة. إما إذا اتجهتا في طريقهما
مباشرة ولم تخطئا الطريق، ولم تتأثرا بثغاء الصغار أو بجهلهما بالطريق، يكون من
الواضح أن يد الله هي التي ضربت تلك المدن". وأنا أقول لكم أنَّ أهل هذه المدن
سمعوا كلام أنبيائهم وأطاعوه ونفَّذوه، بل أنَّ الله نفسه عمل َتبِعًا لمشورة أولئك
الأنبياء، مُبديًا تواضعًا عظيمًا في هذه الحالة أيضًا، ولم يحسب تنفيذه لتوقُّعات
أولئك الأنبياء بمثابة إقلال من شأنه، بل جعلهم يظهرون أهلاً للثقة فيما تكلَّموا
به. ولَِما لا، طالما أنَّ الخير الذي تحقَّق كان أعظم بكثير، وهو أنَّ أعداء الله
أنفسهم شهدوا بقوته. نعم فلقد خرجت أقوال معلميهم مُصدِّقة ومُؤيِّدة لقوة الله.
وما أكثر الأمور التي يتمجَّد فيها الله على هذا النحو...
ولنعاود الحديث الآن عن النجم. لقد ذكرنا أمور كثيرة، ويمكنكم أنتم أن تذكروا ما هو
أكثر؛ إنَّه مكتوب: "أعطِ حكيمًا فيكون أوَفر حكمة" (أم ٩: ٩). وإنَّه يتحتَّم
علينا الآن الرجوع إلى ما بدأنا بالحديث عنه.
٥. وما هي البداية؟ "ولمَّا وُلِدَ يسوع في بيت لحم اليهودية، في أيام هيرودس
الملك، إذا مجوس من المشرق قد جاءوا إلى أورشليم". في الوقت الذي َقبِل فيه المجوس
بالسير وراء نجم، لم يؤمن اليهود بالأنبياء الذين كادوا يصرخون في آذانهم. ولكن
لماذا يُخبِرنا الله بزمان ومكان مجيئه قائلاً: "في بيت لحم"، و"في أيام هيرودس
الملك"؟ ثم لماذا يُضيف منصب هيرودس؟ السبب هو أنَّه كان يُوجَد هيرودس آخر في ذلك
الزمان، وهو هيرودس الذي قطع رأس يوحنا المعمدان، ولكن قاتِل يوحنا كان مجرد رئيس
رُبع، أمَّا هيرودس هذا فكان ملكاً على اليهودية كما أنَّه يُحدِّد المكان والزمان
ليُذكِّرنا بنبوات قديمة جاءت إحداها على فم ميخا النبي عندما قال: "وأنتِ يا بيت
لحم أرض يهوذا لستِ الصغرى بين رؤساء يهوذا" (مي ٥: ٢)، والنبوة الثانية من أب
الأسباط يعقوب، الذي حدد لنا الزمان بكل وضوح وذكر لنا علامة مجيء الرب، وذلك عندما
قال يعقوب: "لا يزول قضيب من يهوذا ومُشَترِع من بين رجليه حتى يأتي شيلون وله يكون
خضوع شعوب". (تك ٤٩: ١٠).
ويَجُرنا هذا إلى التساؤل من جديد: متى بدأ المجوس يفكِّرون في أمر المولود، ومَنْ
الذي حرَّك قلوبهم؟ فالأمر لا يبدو لي على أنَّه عمل النجم وحده، بل عمل الله
أيضًا، الذي ، حرَّك نفوسهم، وهو نفس ما فعله في حالة الملك كورش عندما جعله يُطلِق
سراح اليهود. ومع ذلك فإنَّ الله لم يفعل هذا الأمر لحرمانهم من إرادتهم الحرة.
والدليل على ذلك أنَّه عندما نادى الله بولس بصوت من السماء، فقد جعل ذلك فرصة
لإظهار نعمته من ناحية وطاعة بولس وخضوعه من الناحية الأخرى.
وقد يتساءل المرء: ولكن لماذا لم يُظهِر الله هذا الأمر لجميع المجوس الذين في
الشرق؟ والإجابة هي أنَّ الجميع ما كانوا ليؤمنوا، بل كان هؤلاء الرجال أكثر
استعدادًا من الباقين. قِسْ على ذلك أنَّ الله أرسل نبيًا إلى أهل نينوى وحدهم،
بينما هلكت أمم أخرى كثيرة لا حصر لها. ومع أنَّه كان هناك لصَّان مصلوبان مع السيد
المسيح، إلا أنَّ واحدًا منهما فقط هو الذي َ خُلص دون الآخر. وأخيرًا يمكنك أنْ
ُتدرِك َقدْر هؤلاء الرجال، ليس فقط بسبب قدومهم، بل لشجاعتهم في الكلام. فحتى لا
يكونوا كاذبين أو تحت ُ شبهة الكذب، تراهم يُفصِحون عن طول رحلتهم وعمَنْ هداهم في
الطريق. وإذ هم قد جاءوا بالفعل، تراهم يُبدون شجاعة في الحديث ويُصرِّحون عن سبب
مجيئهم قائلين: "لأننا أتينا لنسجد له." وهم لم يخافوا من غضب الشعب، ولا من طغيان
الملك. ومن َثمَّ فإنني على قناعة بأن هؤلاء الرجال كانوا مُعلِّمين في بلادهم؛ لأن
الذين لم يخافوا من التكلُّم في بلاد غريبة، لابد وأنهم أكثر جرأة على التحدُّث في
بلادهم، لا سيِّما وقد حصلوا على إرشاد الملاك وشهادة النبي. |