لاحظ
دارسو الكتاب المقدس أن أسلوبه يتميز بكثرة استعمال صيغة الفعل، وخصوصاً عند الكلام
عن الله، فهو يزيد كثيراً عن عدد المرات التي تظهر فيها الصفة، واستنتجوا من ذلك
أنّ الكتاب يتكلم عن الله وهو يعمل، في نشاطه وعمله. ولاحظوا أيضاً أنّ أهم الأفعال
التي تجيء فيه هي تلك الأفعال المتعلقة بالخلق والفداء. إذن فموضوع الكتاب المقدس
هو الله نفسه، ولكن، لا ليذكر صفاته الأزلية أو أسماءه الحسنى، بل ليعمل إما خالقاً
أوفادياً.
وييفتتح الوحي المقدس بالقول "في البدء خلق الله السموات والأرض" (تكوين 1:1).
ولايخفى على الذهن هنا أنّ الكلمة الهامة التي تتعلق بالإله القدوس هنا هي الفعل
"خلق" أي أنّ أول إعلان يأتي في الكتاب المقدس هو "الله الخالق...الله في عمل".
وعندما دخل الرب في عهد مقدس مع شعب اسرائيل أعطاهم
الوصايا والحدود التي يجب أن يحفظوها ويتمموها. بدأ كلامه معهم "أنا
الرب
إلهك الذي اخرجك من أرض مصر... لايكن لك ألهة أخرى أمامي ..." (خروج2:20) بهذا يعني
أنّ أساس العلاقة التي أقامها الله مع هذا الشعب والكيفية التي أظهر ذاته لهم بها
لم تكن أوصافاً مجيدة أو "أسماء حسنى"، ولكنها كانت إعلاناً للتوحيد، عملاً فدائياً
عظيماً رأى فيه هذا الشعب خلقاً جديداً له.
وكذلك
المدخل الأساسي للعهد الجديد، يكمن حقيقة في يوحنا 1 :14: "الكلمة صار جسداً وحلّ
بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً". والفعل "صار" هنا
يدل على حدث أو عمل قام به الكلمة أي الابن الأزلي، لكي يصبح جسداً أي بشرأً مثلنا.
ويختم
العهد الجديد والكتاب المقدس كله، كما يؤمن به المسيحيون، بالقول المقدس: "إني آت
على عجل". آمين... تعال أيها الرب يسوع (رؤيا 20:22). والفعل أو العمل هنا هو
المعّبر الحقيقي للعلاقة بين الرب وعروسه في العهد الجديد أي الكنيسة.
هذه أمثلة
خاصة قليلة تبيّن تلك الحقيقة الأساسية في الكتاب المقدس. وعلى أساس هذه الحقيقة،
ينتج أمران في غاية الأهمية:
الأمر
الأول هو أنّ الله في الكتاب المقدس، يعلن نفسه في أعمال عظيمة يقوم بها. وواسطة
الإعلان ليست كلمات يقولها أو معرفة نظرية يوصلها إلى الإنسان، ولكنها عمل وكيفية
عيش أحداث يقوم بها. وهنا يجب أن نفرق بين هذا العمل أو الأعمال التي يعلن الله
نفسه فيها، وبين تلك الأعمال الأخرى التي عادة ما نسميها أعمال العناية الإلهية
التي تظهر في سيطرته على العالم والخلائق وتسييره الأمور بكل حكمة وسلطان، وبين هذه
الأعمال الخاصة التي تقصدها هنا على أنها واسطة الإعلان. فالواضح أنّ الكتاب عندما
يتكلم عن هذه الأعمال الإعلانية، فإنه يقصد أعمالاً بالذات، يسميها الأعمال
العظيمة: نستطيع أن نذكر منها دعوة إبراهيم ودخوله في عهد معه، وإخراجه بني إسرائيل
من أرض مصر وإرجاعه المسبيين من أرض السبي ،ثم تجسد المسيح ومجيئه إلى الأرض وحلول
الروح القدس... ويمكن أن نضع صفة عامة تجمع هذه الأعمال العظيمة وتميّزها: هي التي
يذكرها الرب مراراً في مواجهته مع بني إسرائيل أو الكنيسة كعلامة على العلاقة
الخاصة التي بينه وبين كل منهما.
فلطالما ذكر العهد الذي بينه وبين إبراهيم والآباء،
ولطالما ذكرهم بالعمل العظيم في إخراجهم من أرض مصر، ولطالما ذكر الرسل وخاصةً بولس
"اله ربنا يسوع المسيح" بمعنى الذي أعلن نفسه في المسيح، إذ كان فيه مصالحاً العالم
لنفسه (2كورنثس).
هذه هي الطريقة الإلهية لإعلان نفسه للناس كما يقول الكتاب المقدس.
لكن هناك
أمراً آخر يتعلق بالأول وهو أنه لا يمكن الفصل بحسب الكتاب المقدس بين عمل الله
وكلمته، وليس أدّل على ذلك من افتتاحية سفر التكوين عند خلق العالم "وقال الله
ليكن نور فكان نور" (تكوين3:1 و6 و9 و11 و14 ...الخ) وهذا ما يقوله السيد نفسه في
اشعيا النبي "...هكذا تكون كلمتي التي تخرج من فمي لا ترجع إليّ فارغة بل تعمل ما
شئت وتنجح فيما أرسلتها له" (اشعيا 55: 11، راجع مزمور 107 :20، 168 :11...الخ)
وهذا ما
يظهر أيضاً في حياة يسوع الأرضية إذ يقول عنه الذين شاهدوه وسمعوه" ما هذا.. وما هو
هذا التعليم الجديد؟ لأنه بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه" (مرقس27:1)، وهو
ما لمسه قائد المئة الوثني وآمن به (لوقا7:7 -8) وخادم الملك إذ آمن بكلمة يسوع
(يوحنا 50:4).
هذه الكلمة الإلهية هي نفسها قوة وعمل وهبها الله
للأنبياء في العهد القديم وللرسل في العهد الجديد. فيقول الرب لإرميا "...
ها قد جعلت كلامي في فمك. أنظر قد وكلّنك اليوم على الشعوب وعلى الممالك تقلع وتهدم
وتهلك وتنقض وتبني وتغرس" (إرميا 9:1 -10). وفي العهد الجديد، أعطيت كلمة الإنجيل
الذي هو "قوة الله للخلاص لكل من يؤمن لليهودي أولاً ثم لليوناني، لأنّ فيه معلن بر
الله من إيمان لإيمان، كما هو مكتوب".
أما البار فبالإيمان يخلص (رومية16:1 -17، راجع 1
كورنثس4:2
-25، رومية8:10-17).
إذن فكلمة الله القوية، لأنها عمل الله التي بها أسس العالمين، هي نفسها كلمته
القوية في الإنجيل التي خلق بها الخليقة الجديدة. "شاء فولدنا بكلمة الحق"
(يعقوب81:1 مع عبرانيين 3:1).هذه الكلمة ظهرت في اسمى مجدها في شخص ربنا يسوع
المسيح: "في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله وكان الكلمة الله. كل شيء به
كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان، فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس. أما كل
الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه الذين ولدوا
ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله. والكلمة صار جسداً وحلّ
بيننا، ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً "لأنّ
الناموس
أعطيّ بموسى أما النعمة والحق فبيسوع المسيح صارا. الله لم يره أحد قط. الابن
الوحيد الذي هو في حضن الأب هو خبرّ" (يوحنا 1:1-18). |