(1)
عندما طرح السؤال: لماذا بعضٌ من آبائنا يقول: إن الأنفس بعد انتقالها ترتفع إلى
السماء، ومنهم من يقول: تنتقل إلى الفردوس، وآخر يقول: تدفن مع أجسادها في القبر،
وآخر يقول على عتبة القبر تقوم وتترجى الابن مخلصها، أما أنفس الخطأة فمضطجعة في
الظلمة، وأنفس الصديقين في النور ساكنة وذلك قبل القيامة أيضًا.
(2)
كما شاءت نعمة ربنا وأعطتني بصلاتك، اسمع يا أخي أقول لك قولا موجزًا ويسير من
الكلام: حتى ولا كان هؤلاء يرون رؤية مختلفة، إلا أن السر الذي يتكلمون عليه هو
واحد، وهم جميعهم أوان مختارة عجيبة صنعها الروح القدس، وهم ناظرو الخفيات، لأن
الذين يقولون إن الأنفس تتعالى إلى السماء يعرفون أنها إلى بلد الروح تتعالى حيث
تطوف القوات غير المنظورة، إما مع العلويين وإما مع المجموعات التي دُفعت منها، إذ
إن كل واحدة تختلط برفاق عمله. والذي قالوا إنها إلى الفردوس تنتقل، إنما يقولون
الأمر نفسه، إذ إنها تطوف ببلد غزير بطوبى سر تجليات اللـه، وتضيء عليها من الجوهر
إشراقات لا توصف. وآباؤنا يسمّون بلد نور معرفة اللـه فردوسًا وكذلك السماء التي
فوق، إذ هي تتحرك دومًا بالتمجيد الجديد لسر التجديد. لكن لم يبلغ بعد الزمان الذي
تقبل كل واحدة منها ميراثها بالكامل من أي نوع كان.
(3)
وتلك التي قالوا عنها إنها تدفن في القبور مع أجسادها، فهذا حق أيضًا، إذ إنها
باللـه دُفنت. فموجب السر الذي دُفن الاثنان به في التعميد، هما في اللـه معمدان
حتى القيامة. وإن يُقل إنها على مدخل القبر، فهذا يعني أنها تقتني المعرفة، والرجاء
موجود فيها لقيامة أجسادها. وتلك التي قالوا إنها كما لو كانت نائمة، فمن أجل
الإشارة إلى سرعة الزمن عليها، لأن الطول الكثير في نظرنا، إنما هو محسوب عندها
كدقيقة من الزمن لسرعته. وكما أن الذي هو غارق في النوم قد انتقل من التقلب الذي ها
هنا، ولم يصل بعد إلى الموت الحقيقي، فإن النفس وصلت إلى المعرفة الوسطانية، وهي
أعلى من التي ها هنا، إلا أنها لم تصل بعد إلى المعرفة التي تعطاها بالتمام في
عالمها بعد القيامة.
(4)
وبتلك التي يقولون إنها مثل الطفل الذي لم يتقن بعد المعرفة، فهم يظهرون أنها،
بالنسبة إلى مقدار المعرفة التي يعطيها إياها خالقها من بعد القيامة، لم تقتن أي
معرفة على الإطلاق. إنهم أيضًا يسمون لا معرفة معرفة هذا العالم، ويقولون إن لا
وجود لهذا العالم، عندما يتكلمون على العالم العتيد.
(5)
طوبى لمن ثبت خطوات رشده في ممارسة المعرفة القدوسة! إذ أي أمور مجيدة ومتعالية
يكشفها له اللـه بالرؤية والسمع والمعرفة! لا يُعطى اللسان سبيلا للحديث عنها، أو
اليمين أن تصورها بالقلم أو المداد، بل إنها مصورة في القلب الطاهر ومطبوعة في
العقل النير لتنعمه، إذ إنه يتبحر بمختلف مراتب الحكم والعناية تبحرًا روحيًا ويصرح
مع الطوباوي بولس ويقول: "إن أحكامك لا تدرك"، وطرقك من يتبعها، سوى ذلك الذي تنيره
أنت، فيقتني العقل الحقيقي لمسيحك اللـه، الذي يعطي ذاته مع كل ما له موهبة لحبيبه.
فله المجد من كل العقول التي قدسها لمعرفته لأبد الآبدين. آمين. |