1) أية كلمة
أو أي فكر يكفي عظمة هذه المواضيع المعروضة علينا. أو أي لسان يكفي ليعلم هذه
الأسرار. يصعب على لساننا أن يعرض بدقة ما يتعلق حتى بالطبائع المصنوعة، لأن خالقها
أتقنها بحكمة عظيمة. وبالأحرى ما يتجاوز طبعنا، وهذا ما نريد أن نتكلم عنه، كيف لا
يتجاوز كل فكر بشري؟ فهو بالظرورة يتجاوز كلماتنا وقد شهد الطوباوي بولس على هذا
فقال: "لا العين رأت، ولا الأذن سمعت، ولا خطر على قلب إنسان ما هيأه اللـه للذين
يحبونه" (1 كور 2: 9).
تعليم الأسرار
2) أما عظتنا
فترغب أن تتكلم عن هذه المذهلات. ونحن مدعوون للتمتع بهذه الأسرار، لأن وقت العيد
كبير، عيد الفصح المقدس، يتطلب منا هذا التعليم. فلو أراد اللـه أن نكون جاهلين
لهذه الخيور السماوية، فمن الواضح أننا لا نقدر أن نتكلم عنها. فكيف نقدر أن نتكلم
عن أشياء مجهولة؟ ولكن حين أراد اللـه منذ الزمن الأول "وقبل تكوين العالم" (يو 17:
24) أن يبين لنا بتدبير ربنا يسوع المسيح الحكمة الخفية فيه، كشف لنا عظمة هذه
الخيرات وأسرارها الخفية وعرّفها للناس بواسطة الروح القدس. ولكن اللـه، كما قال،
كشف لنا بروحه (1 كور 2: 10)، ويبين لنا الأسرار المجيدة واللامدركة التي تمت بقوة
الروح القدس. وبهذه الأسرار نقدر نحن أن نرتفع بواسطة الإيمان إلى الخيرات الآتية.
ولهذا نوينا بثقة وبحسب نعمة اللـه الموهوبة لنا، أن نتكلم عن هذه الأسرار
اللامدركة والتي هي أسمى منا بكثير. فزمن العيد يفرض علينا أن نحدث الذين يرغبون،
عن هذه الأسرار الرهيبة.
نشيد جديد لحياة جديدة
3) ولقد جاء
الوقت الآن لأقول: "سبحوا الرب تسبحة جديدة، لأنه صنع العجائب" (مز 98: 1). هذه
الأشياء الجديدة تفرض تسبحة جديدة، لأن العهد الجديد سيكون موضوع عظتنا. هذا العهد
الذي قطعه الرب مع الجنس البشري بتدبير ربنا يسوع المسيح، الذي أبطل كل الأشياء
القديمة، ودلنا على أشياء جديدة مكانها. قال بولس: " كل ما هو في المسيح هو خليقة
جديدة، مضى القديم وتجدد كل شيء" (2 كور 5: 17). زال الموت والفساد، وانتهت الشهوات
والتبدّل. لقد ظهرت حياة الخليقة الجديدة التي نرجو كلنا أن نصل إليها بالقيامة من
بين الأموات. فاللـه يصنع منا بالقيامة من بين الأموات جددًا بدل القدماء، لا
فاسدين ولا مائتين بدل المائتين والفاسدين. هذا هو العهد الجديد الذي أعطانا إياه
والذي يليق بالذين تجددوا. ومن أجل هذا العهد، نقتبل معرفة هذه الأسرار "بعد أن
خلعنا الإنسان العتيق ولبسنا الجديد الذي يتجدد على شبه خالقه. حيث لا يهودي ولا
أرامي، لا عبد ولا حرّ، بل هو المسيح في كل شيء وفي كل إنسان" (كو 3: 9-11). وهذا
يتحقق بالضبط في العالم الآتي حين نصير لا مائتين ولا فاسدين، فنتطلع إلى المسيح
وحده. سنشاركه في ملكوته بعد أن ينزع منا كل تمييز بين يهودي وأرامي، بين عبد وحرّ،
وبعد أن تبطل كليًا كل حياة تكون على شكل هذا العالم. أي اختلاف بين اليهودي
والآرامي، بين العبد والحر، عند أناس سيكون لهم طبيعة لا مائتة ولا فاسدة على مثال
صورة المسيح بحسب ما قال الطوباوي بولس (رج روم 8: 29، 1كور 15: 49، 2 كور 3: 18).
4) ولكن وجب
علينا أن يكون لنا إيمان ثابت بهذه الخيرات الآتية لئلا نشك فيها بسبب عظمتها،
ولأننا نراها جدّ غريبة على طبعنا وسامية. فهذه الأسرار الرهيبة تحققت من أجلنا لكي
نقترب بها من الرجاء الآتي كما في الرموز والصور، فيكون لنا إيمان لا تردد فيه في
هذه الخيرات الآتية، ونداوم في سلوك يوافق العالم الجديد. وهكذا نرتب حياتنا في هذا
العالم حسب ما قيل: "خدمتنا نحن هي في السماء" (فل 3: 20). "ومسكننا هو عمل اللـه،
ولنا بيت في السماء لم تصنعه أيدي البشر" (2كور 5: 1).
حياة من أجل الملكوت
إذا سُجلنا
منذ الآن، بواسطة هذه الأسرار اللامدركة، لهذا التمجيد الرهيب في العالم الآتي. حتى
ولو كنا بعد على الأرض، فنحن مرتبطون قدر المستطاع بأخلاق سماوية: نحتقر ما يُرى،
ونرغب في ما سيأتي. إذا، فالذين سيتقربون من هذه الأسرار الرهيبة، قد دعتهم الآن
نعمة اللـه. فيقتربون من خيرات صغيرة وبسيطة، بل يتحولون كليًا إلى أشخاص آخرين،
ويقتنون أنواعًا كبيرة من الفضائل بعطية نعمة اللـه التي سينالونها. سيصيرون لا
مائتين بعد أن كانوا مائتين، ولا فاسدين بعد أن كانوا فاسدين، ولا متألمين بعد أن
كانوا متألمين، ولا متبدلين بعد أن كانوا متبدلين، وأحرارًا بعد أن كانوا عبيدًا،
وأصدقاء بعد أن كانوا أعداء. كانوا غرباء، فصاروا أبناء، ولم يعودوا حصة آدم، بل
حصة المسيح. ولن يُسمّوا بعد آدم رأسهم، بل المسيح الذي جددهم. لن يفلحوا أرضًا
تنبت شوكاً وقطربًا (تك 3: 18)، بل يسكنون السماء التي هي بعيدة وغريبة عن كل حزن
وبكاء. ولن يسود الموت عليهم، بل يملكون الحياة الجديدة. لا يكونون من بعد عبيدًا
للخطيئة، بل يخدمون البرّ. لن يكونوا في خدمة الشيطان، بل يظلون دومًا مع المسيح. |