إن أقدم ما وصلنا من الأدب الآرامي في المواضيع اللاهوتية كتابات أفراهاط الملقب
"بالحكيم الفارسي". فبين المخطوطات التي اهتم "كيورتون" بنقلها من دير القديسة مريم
بوادي النطرون في الصعيد المصري إلى خزانة المتحف البريطاني كانت المخطوطة القديمة
لكتابات أفراهاط. ونشر رايت – وهو صديق كيورتون – نصها الآرامي لأول مرة سنة 1869.
لقد وردت شهادات كثيرة عن أفراهاط أدلى بها الكتبة الآراميون، نذكر أهمها:
يصف لنا جرجس أسقف العرب طبع أفراهاط وغزارة علمه إذ يقول: "كان أفراهاط عنيف الطبع
وتظهر كتاباته مدى تضلعه من العلوم الكهنوتية".
ويستشهد إيليا النصيبيني بأفراهاط بخصوص فترات السنين بين مختلف الأجيال.
ويتكلم عنه ميخائيل السرياني الكبير في تاريخه الذي أنجزه سنة 1193.
ويقول ابن العبري: "وفي زمانه (أي في زمان فافا الجاثليق) اشتهر الحكيم الفارسي
الذي اسمه فرهاد، وله كتاب النصائح بالسريانية واثنتان وعشرون رسالة على الحروف
الأبجدية".
وفي مقدمة مخطوطة تتضمن البينة الأخيرة "العنيقيد" وترقى إلى سنة 1364 وفي محفوظة
في المتحف البريطاني تحت رقم 1017، ورد التعليق التالي بقلم كاتبها "بعون اللـه
نكتب بينة العنيقيد للحكيم أفراهاط وهو يعقوب مطران مار متى، لتكن صلاته معنا". غير
أن الالتباس هنا واضح بين يعقوب أفراهاط وسويريوس يعقوب الذي كان مطراناً على تكريت
والذي دفن في دير مار متى بجانب غريغوريوس ابن العبري. فنسبة يعقوب أفراهاط إلى
الدير مشكوك فيها بل غير ممكنة، ولا سيما أن هذا الدير لم يكن قد أنشئ في ذلك
الزمان.
إننا لا نعرف الشيء الكثير عن حياة أفراهاط وموضع إقامته وتاريخ موته. وقد تكون
الجملة التي وردت في كتابات جرجس أسقف العرب خير ما يمكننا أن نقوله عنه: "إنه لم
يعرفنا قط أين كان: في نصيبين، كما يُقال، أم في مكان آخر من تلك البلدان؟ وكل ما
يمكننا أن نستشفه من كتاباته هو أنه وُلد في مكان ما من بلاد الفرس وفي الديانة
المجوسية". أما القس يعقوب أوجين منا، في كتابه المروج النزهية فيقول: "إن أفراهاط
وُلد في منطقة نينوى". غير أن الرأي القائل بولادته في بلاد الفرس هو الأرجح. ثم
تنصر لاحتكاكه بالمسيحيين أو لمجيئه إلى ما بين النهرين. ويُقال إن ترهب وأصبح
مطراناً واتخذ لنفسه اسم يعقوب. بهذه الصفة يظهر لنا في رسالته الموجهة إلى أقليروس
ساليق وقطيسفون. ففي الفترة الخامسة والعشرين من هذه الرسالة، يتكلم أفراهاط عن وضع
الأيدي الذي ناله الكثيرون منه. إلا أن هذه البينة قد لا تكون لأفراهاط، كما سنبين
ذلك. ولا نعلم يقيناً سنة وفاته. ولا بد أن ذلك كان بعد سنة 345 حيث أنهى البينة
الأخيرة. ومن المحتمل أن يكون القديس أفرام الملفان قد أدرك أفراهاط وهو في الحياة،
حينما كان هذا شيخًا جليلا والقديس الملفان في عنفوان شبابه. وهذا افتراض جميل ورد
في كتابات جرجيس أسقف العرب. وهناك من يقول إنه مات شهيدًا.
كتاباته – يقول ابن العبري إن الحكيم الفارسي وضع كتبًا كثيرة في تعزيز مذهب
النصارى ونقض مذهب المجوس. ويقول عبد يشوع الصوباوي إن أفراهاط الحكيم الفارسي وضع
مجلدين مع مقالات منسقة على الحروف الأبجدية. وتؤلف كتابات أفراهاط مجموعة من 23
بينة أو إرشادًا أو رسالة أو مقالة، لأنها كتبت على نمط رسائل موجهة إلى شخص طلب
إليه في المقدمة أن يزوده ببعض إرشادات في الأمور الدينية. وتبدأ كل من هذه
المقالات بحرف من الحروف الأبجدية يعين محلها في المجموعة. أما المقالة الثالثة
والعشرون المسماة "بحبة العنب أو العنيقيد"، تلميحًا إلى ما ورد في سفر أشعيا
النبي، فهي البركة التي أعطيت للآباء من آدم إلى المسيح. وتقسم هذه المجموعة إلى
قسمين: يحتوي القسم الأول على عشر مقالات أو بينات كتبت في نحو سنة 337 (أي سنة 648
يونانية حسب ما جاء في الفقرة الخامسة من البينة الخامسة). ويحتوي القسم الثاني على
الاثنتي عشرة الأخرى التي كتبت بعد سنة 337. والظاهر أن أفراهاط وضع هذا الكتاب
ردًا على خطاب أرسله إليه شخص اسمه غريغور سأله فيه عن بعض المسائل الدينية. وفي
مستهل هذه البينات يورد أفراهاط سؤال مراسله. غير أن بداية هذه الرسالة قد امحت من
المخطوطات. أما ما وصلنا منها فهو ثلاث مخطوطات من القرن الخامس والسادس محفوظة في
المتحف البريطاني. وقد نشر يوحنا باريزو البينات الثلاث والعشرين في الباترولوجيا
السريانية ونشر القس يعقوب منا في المروج النزهية مقتطفات من البينة السادسة
والسابعة والرابعة عشرة.
أما المواضيع التي عالجها في هذه البينات فهي:
1- الإيمان 2 – المحبة والصدقة 3- الصوم 4- الصلاة 5- الحروب 6- الرهبان 7- التوبة
8- قيامة الموتى 9- التواضع 10- الرعاة 11- الختان 12- الفصح 13- السبت 14- تشجيع
(وهذه رسالة عامة إلى جماعة الأساقفة والكهنة والشمامسة في السيرة الفاضلة
والمسالمة، وفي أبلغ العظات وأطولها) 15- تمييز الأطعمة 16- دعوة الأمم الوثنية 17-
في كون المسيح ابن اللـه 18- البتولية 19- تشتيت اليهود 20- البر بالفقراء 21-
الاضطهاد 22- العواقب الأخيرة 23- حبة العنب أو العنيقيد الأخير الذي يبقى في
الكرم.
فنرى أن بعضًا من هذه المقالات موجه ضد اليهود، وفيها يظهر يعقوب كفاءته في العلوم
اليهودية وتفاسيرها، وهي تدل على معرفته الواسعة للكتب المقدسة، رغم ما يتعمده
أحياناً في كتاباته من الغموض والتعابير التي من شأنها أن تجنب المسيحيين البلايا،
لا سيما وأن أفراهاط كان يكتب إبان اضطهاد شابور الثاني الأربعيني (341-379) الذي
ذهب ضحيته مار شمعون برصباعي ومار ميلس وشاهدوست وغيرهم من أعلام المسيحية مع جموع
غفيرة من المؤمنين.
أما أسلوبه فهو نموذج الأدب السرياني الذي لم يتسرب فيه النفوذ الأغريقي بعد، ولو
أن هناك من يقول خلاف ذلك. فإنشاؤه صحيح الديباجة سهل الأسلوب غير متأنق وهو طويل
النفس إلى حد الاملال. وقد درس مواضيع مختلفة ودقيقة كالقضية الفصحية والاختلافات
في الكنيسة الشرقية والسيمونية في الاكليروس. أما تعليمه فهو قويم في خطوطه
الرئيسية، رغم ما يمتزج به من الأفكار السائدة في زمانه. فهو مثل أقرانه الشرقيين
يقبل المبدأ الأفلاطوني القائل إن الإنسان مركب من الجسد والنفس والروح. وكان يعتقد
أن مدة العالم تحدد بـ 6000 سنة، إشارة إلى أيام الخلقة الستة. وهذه الآراء قبلها
بعض الكتاب الذي لحقوه، ولكن غيرهم من المتأخرين – وخصوصًا جرجيس أسقف العرب –
ردّوا عليها بشدة واستنكروها.
وتطرق العلماء إلى بعض من بينات أفراهاط وتناولوا الموضوعات المطروحة فيها.
|