في عام 362م
استولى شابور الثاني ملك فارس من بث زبدي منطقة بيت عرباي في المدن التي أحتلها من
الرومانين من نصيبين الى نهر دجلة. اقام عليها حاكمين من أقرابائه، وعهد الى كل
منهما بالحكم على قسم من المقاطعة. وقتل فيها كثيرين وسبى عدداً غفيراً من أهلها
الى منطقة الأهواز، حيث أخذ أحد الحاكمين وهو "زميسب" قوماً من هؤلاء المسبيين
المسيحين الذين يرفضون السجود للشمس والانضمام الى ديانة المجوس فدعا الحاكم
المسيحيين الساكنين وبلغهم أمر الملك، وناشدهم بالامثال له. ولكنهم رفضوا العرض
رفضاً باتاً وناقشوا الحاكم وابدوا تمسكهم الشديد بديانتهم واذا ذاك أمر بتعذيبهم.
غير أن المسيحيين كانوا صامدين ومواضبين على الصلاة وسط محنتهم القاسية. وكان
للحاكم ابن وحيد يدعى "بيركوشنفسف" قد تربى بصحبة صبي من المسيحيين المنفيين اسمه
انسطاس وارتبط معه بمودة عميقة وكان الفتى بيركوشنسف يتردد مع صديقه الى الكنيسة
ويتلقى تعليم المسيحيين ويرتل المزامير ويتلو الصلوات معهم، حتى استهواه الدين
المسيحي. وبينما كان ذات ليلة نائماً، ضهر له الشهيد مار قرياقوس ودعاه باسمه و قال
له: "يا أخي بيركوشنسف، اذهب الى الشهداء فأنهم ينتظرونك" وما أن نهض من نومه، حتى
توجه الى الشهداء والتمس منهم أن يقبلوه بين عداد من المؤمنين، وقص عليهم ما شاهده
وسمعه في الرؤيا. و في بادئ الأمر، رفض المسيحيون طلبه. ولكنهم نزلوا عند رغبته لما
رأوا فيه من صدق النية والعزيمة. فمنحوه سر العماد، وناولوه القربان المقدس ودعوا
اسمه "ساوا او سابا". وحينما بلغ الحاكم أمر تنصر ابنه، استحوذ عليه وعلى امرأته
حزن عميق وغضب كثيرًا على المسيحيين واتهمهم بأنهم سحروا ولده الوحيد، واستدعاهم
وانهال عليهم شتماً واهانة لكونهم تجرأوا وتلمذوا ابنه فأجابه المسيحيون وقالوا له:
انما ابنك هو الذي اضطرنا الى جعله مسيحياً، وان الامر كان من شأنه أن يوليك فرحاً
لأن ابنك تخلى عن عبادة المخلوقات وتمسك بعبادة الخالق. فثار ثأر الحاكم وأمر
بجلدهم حتى تناثرت لحمانهم على الارض. ثم أمر بهدم كنيستهم وبقتلهم جميعاً. وأعز
الى الأثيم "كوباي" الحاكم في تنفيذ هذا الأمر. فقتلهم جميعاً وألقى جثثهم أمام دار
احد المسيحيين اسمه "تاديق". و كان بين الشهداء شخص اسمه ايثالاها ما يزال في رمق
من الحياة فأخذه تاديق الى داره، وعالجه واهتم به. ثم أمر "زميسب" باحضار ابنه
بيركوشنف. وما أن دخل عليه حتى اخذ الحاكم يبكي وينوح ويناشد الفتى بالعدول عن رأيه
والعودة الى ديانة آبائه. إلا أن الفتى ظل صامداً في رأيه، وقال لأبيه أن يكف عن
البكاء والحزن اذ لا جدوى منهما، ولا سبيل الى العودة عن عبادة الإله الحق، واستخدم
الحاكم كل ما تيسر من الوسائل لإقناع إبنه، ولكن لم يجني من ذلك اي فائدة. اذ ظل
الفتى ثابتاً في ايمانه. وما أن بلغ الخبر شابور الملك، حتى كتب الى عظماء المقاطعة
وأعز احضار بيركوشنسف وفي بذل قصارى جهدهم في سبيل ارجاعه الى ديانة المجوس وتعذيبه
وقتله اذا ظل مصراً على رأيه. فاحضروا بيركوشنسف وأخذوا يناشدونه بأن يجحد الدين
المسيحي، امتثالاً لأمر الملك وصوناً لكرامة والده وعشيرته. فأجابهم "مار ساوا"
بشجاعة وقال "لو ادركتم ما في الدين المسيحي من حقيقة وقوة الإلهية لما ترددتم عن
احتمال كل المشقات في سبيله" فانتهروه قائلين: "أوتريد أن تحملنا نحن أيضاً على
اتباع هؤلاء السحرة؟ فالاولى بك ان تسمع الى نصيحتنا وتنقذ نفسك من الموت وتجنب
والدك الخزي والعار". فقال لهم القديس ساوا: "إن كلامي الأول والأخير هو اني مسيحي
ولن أرتد عن مذهبي القويم". فصاحوا به غضبين وهددوه وتلوا رسالة الملك على مسمعه
لكي يخيفوه بها. ولكنه شرع يضحك ويقول: "ان كان هذا الأمر ملككم، فلم تتأخرون عن
أنجازه؟" وعندئذ أمر اللئيم "كوباي" أمر بتعذيب "القديس ساوا" الى ان يذعن
لإرادتهم. ثم انصرفا الى منازلهم وهم في حيرة من أمرهم. فأمر كوباي في أن يجلد
القديس. فطرح على الأرض، وانهالوا عليه أربعين من الجلادين ومزقوا جسمه بسيور جديدة
حتى أغمي عليه. فحملوه ورموا به في السجن، وصدوا أبواب السجن، وختم بختم كوابي...
وفي الليل ترآى ملاك الرب ومار قرياقوس الشهيد فدنا الشهيد من القديس ساوا وامسكه
بيده اليمنى وأقامه، وضمد جراحه وأعطاه طعاماً، ثم شجعاه قائلين له: "لا تخف! فانك
ستنتصر قريباً على اعدائك. وقد أوشكت أن تبلغ ميناء الحياة والراحة، حيث تعطى
السعادة الابدية لجميع الذين يحتملون العذابات من اجل اسم ربهم القدوس" ثم انصرفا
وتركا القديس في غمرة فرح سماوي لا يوصف ولما سمع تاديق المؤمن بما أصاب القديس من
عذابات أخذ طعاماً وتوجه الى السجن بصحبة ايثالاها، والتمسا من السجّان. ولكنه
اعتذر قائلاً: "اني لا أتمكن لأن الأبواب مختومة. ولكني رأيت في منتصف الليل نوراً
ساطعاً أضاء الموضع الذي فيه، وسمعت اصوات أناس يكلمونه" ونلت أمه المسكينه السماح
باحضاره لديها، وشرعت تناشده بالعودة عن رأيه والانقياد لأوامر الملك، وهي تبكي
وتتوسل اليه بهذا الشأن. ولكن ساوا خاطبها بشجاعة وقال لها: "لا جدوى من بكائك، يا
اماه، فالاجدى لك أن تنبذي عبادة الأصنام وترجعي الى عبادة الله الحي وتحصلي على
السعادة المعدة لكل الذين يعبدنه ويحفضون وصاياه باخلاص". فصرخت الوالدة وقالت: "أو
تريد ان توقعني أنا أيضاً في مكائد أولئك السحرة الذين أغووك؟" فأجابها انسطاس خادم
القديس وصديقه: "لو اتبعت آراء ابنك لكنتي سعيدة. فكفى الان عن البكاء والنحيب ولا
تزيدي أشجاننا. "فثار ثأرها وانقضت على انسطاس وعضته واقتطعت من لحمه بأسنانها
وقالت له: "انما أنت أيها الشقي وأبوك الملعون قد جلبتم علينا هذه المصيبة الأليمة
"فقال لها ابنها: "لا تعاملي هذا الفتى بهذه المعاملة، فانما قال الحق الصواب."
أما هي فطردت انسطاس، وانهالت على ابنها تقبله وتبكي تتوسل اليه قائلة: "اشفق يا
ابني على شبابك وعلينا، اذ ليس لنا ابن آخر غيرك يكون سنداً لشيخوختنا." فطلب ساوا
ان تستدعي انسطاس لديها ليكون عزيزاً عليهما، فأرسلت واستدعت انسطاس وكوابي ثم أسرت
انسطاس وأمرت كوابي بالتنكيل وقتله، لكونه هو سبب المصيبة التي حلت بها. فأقتاد
كوابي انسطاس وساوا وأمر بتعذيب انسطاس، لعله بذالك يرد القديس ساوا عن رأيه وبعد
أن جلد أنسطاس جلداً قاسياً، أمر كوابي بقطع رأسه أمام أعين القديس ساوا حتى يخاف
والقى جثته في حفرة على مقربة من دار تاديق. اما ساوا فضل ثابتاً في عزمه وشجاعته
رغم ما تلقاه من ضربات وعذابات من كوابي الأثيم، ورغم ما بذلته أمه من الجهد
والدموع في سبيل ارجاعه من عزمه، وأستدعاه اباه ايضاً وعانقه وتقبيله والتمس منه
بدموع حارة أن يتخلى عن المسيحية. فقال: "كفاك من البكاء يا ابتاه، ولا حاجة الى
المزيد من الكلام فاني لن أتخلى عن يسوع المسيح". فاستحوذ الحزن واليأس على قلب
الوالد المسكين. وبعد ذلك ترك القديس ساوا واستدعى امين الملك "زامياسب" وأمر
باحضار القديس عندهم. وهو مقيد بالسلاسل. ولدى دخوله، سجد امام ابيه والحاضرين معه.
و اذ انهمرت الدموع من امين الملك "زامياسب" والحاضرين الى ما آلت اليه حاله من
الهزال من جراء التعذيبات التي تلقاها فنهض الامين من مكانه، وعانق القديس وقبله
واجلسه عن يمينه وأمر بفك قيوده، وبلغه سلام الملك شابور فسجد القديس لسلام الملك
شابور، ثم اخذ زامياسب يخاطبه قائلاً: "لقد وعد الملك ان يكرمك ويمن عليك بالعطايا
الجزيلة اذا سجدت للشمس والقمر والنار، يولي أباك اكراماً كبيراً." فأجبه القديس:
"ليحتفض الملك باكرامه وهداياه. أما انا فلست ابغي سوى كرامة الاله الحق، وله وحده
اسجد واياه اعبد." ولما سمع الامين توعد له بالعذاب والموت، الا ان القديس أجابه
بشجاعة: "وقال افعل ما شئت، فاني لن امثل أرادة ملكك الكافر قط، ولن اسجد للشمس بل
للاله الاحد الحق القادر أن يزيل نورها ومجدها". واذ استشاط الامين غيضاً وأمر
باحضار قضبان شائكه، وأمر الجلادين ليعذب بقساوة حتى تمزق جسمه وتناثر على الارض،
أما القديس فرفع عينيه الى السماء وقال: "أيها الرب يسوع المسيح، هلم الى معونتي في
ساعة الضيق هذه". وبعد الجلد الاليم، أمر الامين بالقهي في السجن، ومنع عن الطعام
ولا احد يدخل عليه. فطرح في السجن وهو يقاسي آلاماً مبرحة من جراء التعذيب ومن الحر
الشديد، اذ كانوا في شهر تموز. وفي الصباح اليوم التالي، ذهب الامين ليتحقق من أمر
القديس ليرى اذا ما يزال على قيد الحياة. فوجد القديس لا جرح فيه فقال له الأمين قل
لي يا فتى من الذي فتح باب السجن واتاك بالأطباء فأبرأك؟ "فأجابه القديس: "المسيح
الذي اؤمن به هو الذي أتاني وأبرأني، دحضاً لأكاذيب آلهتكم. واذ سمع الامين هذا حتى
أمر بربطه وجلده دون شفقة. واذ كان القديس يصلي ويطلب معونة الرب، قال له الأمين
متهكماً: "اين المسيح الذي تستنجد به؟ فليأتي الآن، وينقذك من يدي". فقال القديس:
"ان المسيح قد أعانني وهو لن يتخلى عني. وبعد ذلك أعاده الى السجن، وأوعز المجوس في
الدخول عليه لإقناعه بالعدول عن رأيه، وامهلهم عشرة ايام للقيام بهذه المهمة، الا
أن جهود المجوس باءت بالفشل، وظل الفتى ثابتاً في ايمانه، وفي اليوم الثامن، جاء
تاديق وايثالاها الى السجن وتمكن من اقناع الحرس ليسمحوا لهم بحمله الى منزل تاديق،
وهناك غسلا جروحه وضمداها، وتناول القربان القدس. وفي تلك اليلة التي قضاها في منزل
تاديق، ظهر له مار قرياقوس وقال له: "طب وتهلل يا اخي ساوا، لأنك جاهدت جهاداً
حسناً، وابتهج لأنك ستقتل يوم الجمعة نضير ربك فتنال اكليل الشهادة". فأستيقظ
القديس وقص الرؤيا على تاديق وايثالاها. ففرح الجميع وشكروا الله. وفي الصباح
الباكر، عانق القديس تاديق وايثالاها وأرجعاه الى السجن. وبعد انقضاء الأيام العشرة
المحددة. أمر الأمين باحضار القديس ساوا. وسأله الأمين هل كان ما يزال على رأيه.
ولما أجابه القديس: "انه ثابت في عزمه، وامر الأمين الجلادين بأن يأخذوه ويقتلوه.
ولما ورد الجلادين بأخذه، حدث اضطراب كبير بين سكان الدار والذين تشبشوا بالقديس
ولم يفسحوا للجلادين مجالاً لأخذه، وكانوا يصرخون ويقولون لهم: "اخرجونا نحن ايضاً
واقتلونا معه". واذ تقدم الأب مع جميع أهل داره وعانقوا القديس مار ساوا وقبلوه
باكين منتحبين، ثم سلموه الى الجلادين. واقتاد الجلادين القديس الى امام دار تاديق
لكي يقتلوه هناك. واذ ذلك استأذن القديس ساوا من الأمين بأن يسمح له بالصلأة. فصلى
قائلا: "أيها الرب القدير يا سامع صوت الخطاة التائبين، اتضرع اليك ان تقبل صلاة
عبدك الخاطىء الذي يصرخ اليك في اللحظة الأخيرة من حياته الأرضية. اقبل يا رب
تضرعات الذين يدعونك باسمي واحفضهم من جميع الشرور والأفات. وترحم علي أنا الذي
جحدت دين أباي، واعترف بي في السماء كما انا أعترفت بك في ألارض ، وأقبلني بين
أجواق الذي سفكوا دماءهم في سبيلك. كن يا رب حصناً منيعاً لجميع المؤمنين في هذا
البلد، الآن وكل أوان والى أبد ألدهور. أمين. "ولما أنهى صلاته، حاول احد الحراس ان
يقطع رأس القديس مار ساوا فلم يقدر من شدادة الخوف فتقدم كوابي وأخذ السيف وضرب
خمسة فلم يستطيع قطع رأس القديس، فقال له القديس مار ساوا: "لقد اصبحت جباناً أيها
الرجل؟ ولما ارتخت يداك؟ أمضي في أمرك. فانما الى الحياة ترسلني وليس الى الموت".
واذ قال ذلك طعنه في جنبه وقتله. وألقو جثته في الحفرة التي ألقي فيها الشهداء الذي
قتلهم اباه زميسب.
وهكذا استشهد القديس مار ساوا في السادس عشر
من شهر آب وله من العمر اثنتا عشر سنة وثمانية أشهر. وقد دامت مدة التعذيب 490
يوماً وفي تلك الليلة ذاتها، اخذ تاديق وايثالاها جثة القديس وضعاها في صندوق من
الذهب ودفنا ايضاً انسطاس رفيق القديس ساوا الشهيد. اما كوباي الأثيم فقد اصابه مرض
خبيث بعد جريمته بأيام قليلة، فانتفخت ذراعاه وجسمه كله، وأنتن جسده فمات أشنع
موت.
|