لم
تعد تجذبني، صورتك تشهوت أمامي، بهاءك تحول إلى غمرة ظلام فبدأت أتحسس نتوءآت طبعك
فشعرت بها وكأنها مخالب حادة لا تضفي أي إحساس بالطمأنينة. تحيرت فيك، بل بدأت
تخيفني، لأنك تسكن داخلي، فأنا خيمة لك، وأخيرًا أدركني الفزع فبدأت أهرب منك.
لقد
تعلمت أن أبصرك من بعيد لئلا تقذفني بما يكمن في داخلك، وكم سُررت بإنفصالي عنك،
فحينها تعلمت كيف أنظرك، وقتها أدركت مدى إنحطاطي معك. إنك كالمهرج في سيرك تحاول
أن تُظهر للآخرين مدى سعادتك لتسعدهم معك، لكنك في الحقيقة لست سوى إنسان بائس
يائس... تستحق الشفقة والرحمة. متى تبدلت صفاتك وعنك ارتحلت صورتك، صورة الخالق
التي نفخها في نسمتك، فعوضًا عن أن تكون متسلط على ما حولك، أصبح كل شيء يتسلطك.
أعلم إنك طُردت، ولم تعد حينها تستحق أن تكون في محيط حضور الكرامة... لكنك اكتسبت
صفة ميزتك عن باقي الخلائق لتكون ذلك الإنسان العارف للخير والشر، لكن ربما لم
تتمرن كفاية لتصير حواسك مميزة بين الخير والشر. ففتحت أبوابك على مصرعيها ليندفع
إلى الداخل كل ما ضغط على رغبتك، فحل المستعمر على أرضك وأصبحت أسيرًا في بلدك. إنك
تتفانى لتخدم عدوك، عالمًا إنه عدوك، فهل لك تفسير لذلك. وما كان لعدوك إلا ليستغل
ضُعفك فيتطفل لاحقا على حياتك ويحيا على مذخراتك، كالجرثومة القادرة على العيش في
أية بيئة أو أرض مناسبة. وكلما طال الزمن كلما صعب عليك طردها.
عليك أن تدرس عدوك مليًا لتعلم أفكاره، وتخطط بإصرار ليكون مملكة منقسمة على ذاتها،
ليخرج ويمضي إلى قطيعه، فما مصير ذاك القطيع إلا الإنجراف إلى البحر والموت في
المياه. إعلم إن ما وصلت إليه كان بسبب جسدك الذي يشتهي ضد روحك لتفعل لاحقا ما لا
تريد. لذا اختر روحك قائدًا في هذه الحرب، فهي تستطيع أن تصلح ما فسد في كيانك.
سورك المتين أصبح هشاً وواطئاً، فما صعب البتة لعدوك أن يسحقه ويقفز من فوقه. وفي
هشاشتك لا تلم قط إي إنسان من حولك ولا أي ظرف في حياتك، فالفخار لا يصبح تحفة إن
لم يمر في اتون نار ليتماسك وييبس طينه ويشكل تلك الآنية الخزفية الجميلة التي
تزينك.
تعبت من الركض وراءك، فأنت تلاحق كل ما تتشبث به نفسك، فأضحيت قردًا في وسط لعبة
ومن حولك تتقاذف كرات الملذات ورغبتك هي الإمساك بجميعها. وأخيرًا تعبت وسقطت على
ركبتك وبدأت قسوة الحياة تلهث أنفاسك وتشنق نبضاتك ويصبح السواد لون حياتك. كرامة
لم يعد لك، وإلى الحضيض توضعت... فما كان لك إلا أن تستسلم وتصير ضرير العنفوان
والتراكم، تلمس الحياة من خلال عصا أعمى تزيف حقيقة مشهد الحياة.
الألم تخافه، وإن حل عليك ضيفاً تلتهم سريعًا حبوب التخدير لتخفف حدته، حتى إنك
أصبحت مدمناً على تلك الحبوب، وقبل أن تحين ساعة وحدتك تحضّر مائدة سعادتك لتنسى
واقعك المرير وشقاؤك العظيم. تلتجأ إلى كل مرعى تبصر أبوابه مفتوحة حتى وإن كان مع
الخنازير سريرك.
مريض أنت، لكنك لا تعلم، وقد تكون تعلم بذلك، لكن ما الجدوى إن علمت فأنت تأبى أن
تُشفى، فقط لأنك لا تطيق وخزة مشرط الطبيب الذي سيجتث الورم من جسدك ويبيد السقم من
أحشاءك. حتى إنك لم تزره يومًا في عيادته، ليعاينك ويشخّص حالتك، فليس عنده حالة
مستعصية، فكل شيء عنده مستطاع وسهل العلاج. هل تدري أن هذا الطبيب دفع الكثيرين
الغالي والنفيس ليشتروا كشفيته لعلمهم بمدى مهارته، فمن زاره وكان راغبًا بالشفاء
لم يتركه حتى ناله،
إني أعرف إمرأة زحفت حتى عيادته لتلمس فقط هدب ثوبه.
إسمح لطبيب روحك أن يضمد جراحك، إعطه الفرصة ليزرع ثمارًا تليق بكرامتك، إمنحه
ليقلع منك أعمال الجسد الظاهرة فيك، فهو يستطيع أن يقلع زوان القتل ليزرع محله حنطة
المحبة، وزوان الدعارة ليزرع حنطة التعفف، وزوان الخصام والعداوة ليزرع حنطة اللطف
والسلام، وزوان الحسد والسخط ليزرع حنطة الصلاح وطول الآناة. ليعود ملمسك ناعمًا
لكل من يريد التقرب إليك، ليزهي نورك من جديد فيكون سراجًا لمن حولك. ولا تتوانى
أبدًا بتمزيق أوراق ماضيك العتيق، فهو لن يصلح مطلقا أن يجانسك ويكون رفيقك، فأنت
جديد في كل شيء، رقعة جديدة في ثوب حياة جديدة، إناء كرامة مملوء قداسة وكل مجد
ووقار.
عندها فقط أستطيع أن أعود إليك وتطمئن نفسي لك...
وتغفو عيني وأنا نائم في سفينتك...
ولا
يوقضني مجددًا خوفًا من هيجان بحرك وإضطراب أمواجك.
|