قبل نحو
أربعين سنة، أطلق كاتب أسود من أفريقيا الجنوبية، يدعى بيتر أبراهامس، صرخة وصلت
إلينا، حين عنون مؤلفه:
لست رجلا حرًا.
وقبل نحو ثلاثين سنة، نال مارتن لوثر كنغ
جائزة نوبل للسلام، قبل أن يموت بعد ذلك بأربع سنوات تحت ضربات الذين لم يستطيعوا
أن يقتلوا حلمه.
بما أن أفريقيا الجنوبية، بفضل الأوضاع
الاقتصادية والثقافية الجديدة، ولكن بفضل شجاعة المسؤولين السياسية بوجه خاص، وضعت
حدًا للتمييز العنصري، أصبح جائزًا أن يحلم الإنسان أيضًا بكنيسة يسوع المسيح للقرن
الآتي.
حلمت بكنيسة تحدثنا عن
الله،
كما لم يعلمه أحد قطّ منذ أيام يسوع. تكلمنا عن حضور الغائب، من دون خلطه بأي وثن:
عن إله يقتضي الاحترام المطلق، لأنه يحترم خليقته احترامًا مطلقا، حتى في الشر. عن
إله خالق، لا ينافس رجل العلم، عن إله لا يُستغنى عنه ولا يُعرف، ينبوع تصوف جديد
تتعطش إليه البشرية أكثر مما تظن. عن إله مجاني، حتى إنه يجتذب ويطهر اللاأدريين
والمتدينين، والعلماء والوضعاء، وسريعي التصديق والعقلانيين. وبكلمة واحدة، عن إله
يسوع المسيح لعالم مسيحي جديد.
حلمت بكنيسة تحدثنا عن
الإنسان،
كما يعلمنا يسوع المسيح وحده حتى اليوم، بما أنه يعرف ما في باطن الإنسان. بكنيسة
تحدثنا عن الإنسان بكل ما يتطلبه من استقلال وكرامة وحرية وازهار، وتُقدم له في
يسوع كل الرحمة التي يمكن تصورها – على الأرض كما في السماء – لئلا يُفقد الأمل
بالبشرية، حتى في أعمق يأسها.
حلمت
بكنيسة مصالحة،
أو، بالأحرى، موضوعة في مجمع جديد، في نسمة العنصرة ومبادرة يوحنا الثالث والعشرين.
بكنيسة تكون الاعتراف المتبادل، اعتراف جميع الذين يريدون أن يكونوا أهلا لنعمة حمل
اسم "المسيحي". أفلا يجب أن يكون هناك إيمان واحد ومعمودية واحدة يُنجحان أخيرًا
جميع الجهود المسكونية؟
فإن مثل هذه الكنيسة المصالحة تتعلم هكذا أن
تقول للأديان غير المسيحية ما تؤمن به بكل صدق، ولكنها تعرف أن ترحب بما في تلك
الأديان من سر الخلاص، بفضل الروح القدس.
حلمت بكنيسة مزينة بألوان مختلفة، نتيجة
الشركة بين الكنائس،
في تنوع لغاتها وعاداتها وثقافاتها.
حلمت بأن الروح القدس هو ضامن وحدتها، بفضل
مراعاة الاحتياطيات، وبفضل ممارسات أقل تسلطا وتوحيدًا، وبفضل العدول عن السلطات
المركزية غير الإنجيلية، وبفضل أسقف لرومة لا يكون رئيس دولة عالمية عليا، بل خادم
الشركة بين الكنائس. وبذلك لن يكون مستقبل الكنائس تحت سيطرة الغرب.
حلمت
بكنيسة الأخوة،
كنيسة أخوية بحرارة العلاقات الإنسانية، وبوفاق الرموز المتبادلة العميق، وبالروابط
المتينة التي توحد بين أولاد أب واحد.
كنيسة أخوية تعدل عن بنيتها الملكية المحتجبة
في جهازها التراتبي، من دون تقليد نماذج الديمقراطيات، سواء أكانت برلمانية أم لا،
بل كنيسة تكون شعب إخوة بفضل الكلمة المسموعة والخبز المتقاسم، كنيسة يُستقبل فيها
المسؤولون دائمًا كإخوة.
كنيسة أخوية لا يمكنها أن تبقي على التفرقة
بين الرجال والنساء، في كل ما يختص بتنظيم خدماتها الزمنية والروحية، بما فيها
الخدمات الروحية التي تقول بأنها لا تُمس لأنها من مصدر رسولي.
وكيف يمكن أن يدعو المسيحيون إلى السلام، ما
دامت أخوتهم غير واضحة تمامًا؟
حلمت – بكلمة واحدة –
بكنيسة الإنجيل،
بكنيسة مبسطة، بكنيسة تكون قادرة على إظهار الإنجيل وكأنه نور الشعلة عبر زجاج
المصباح.
لا تطمح تلك الكنيسة إلى حل مشاكل العالم،
لكنها تنفذ إلى باطنها بتواضع، عالمة بأنه تجهل هي أيضًا الحلول وواثقة بالبشرية،
حتى لإيجاد تنظيمات حكيمة أمام المآسي الرهيبة أو التساؤلات التي تواجهها في كل
قرن. إن كنيسة سفر الرؤيا لا تحب النظر الكوارثية إلى الأمور، بل تفرح بالرب الآتي.
قيل: "بشّر يسوع الملكوت، فجاءت الكنيسة".
أفلم يكن من الواجب أن تكون هنالك كنيسة وقرون طويلة لكي يرغب العالم في الملكوت
الموعود به ويستقبله؟
ما زلت أحلم دائمًا بتلك الكنيسة التي تستطيع
حتى اليوم، في قعر سفينة العواصف وفي وسط الأمواج المتدفقة، أن تهتف بكل إيمانها
صلاتها الدائمة: "ليأت ملكوتك، يا أبانا".
|