2- فالذي نحبه أكثر من أي إنسان نرتاح أن
نلتقيه في كل وقت، أن نعيش معه ونكلمه. أما الذين لا نرضى عنهم فلا نجتهد أبدًا أن
نلتقيهم، أن نتكلم معهم. تلك هي حالة الذين جعلوا الله في ضميرهم (قلبهم) واهتموا
اهتمامًا كبيرًا بأن يعملوا ما يرضي الله. فهم يستعملون عادة صلوات ملحة ويعتبرون
أنهم يكلمونه ويعيشون معه في وقت الصلاة. أما الذي يحتقر الأمور الإلهية ويهتم
بأمور أخرى، فهو لا يجتهد أيضًا في الصلاة. أجل هذا، يأمرنا الطوباوي بولس بأن نصلي
بلا انقطاع ليتثبت فينا بالمداومة على الصلاة حُب الله والغيرة على إرادته (رج 1 تس
5: 17).
ولهذا اهتم أيضًا بالصلاة اهتمامًا كبيرًا
ربنا الذي كان إنسان في ما يُرى منه وفي طبيعته، لكي يقدم بأفعاله نموذج الحياة
والسلوك هذا. فإذ كان يقضي النهار بعمل الخير كان يحتفظ بوقت الليل لعمل الصلاة.
ولهذا ذهب إلى البرية ليعلم الذي يصلي أن عليه أن يتخلص من كل شيء إذا أراد حقاً أن
يبقي نظر نفسه في الله فلا يشتته شيء آخر. لهذا اختار الأوقات والأمكنة لكي يعتزل
كل قلق مهما كان، فيخلصنا نحن أيضًا من ذلك الذي يثير نفسنا ويقلقها ويبعدها مرات
كثيرة بدون إرادتها عمّا وضعت أمامها من أهداف.
3- وإذا كان يسوع يصنع كذلك، كما قال
الطوباوي لوقا، دنا التلاميذ منه وسألوه: "كيف يجب أن نصلي؟ فيوحنا أيضًا علم
تلاميذه" (لو11: 1ي) وفي كلمات الصلاة الربية القليلة سلمهم تعليمًا كاملا فقال:
"أما أنتم فهكذا تصلون: أبانا الذي في السماء، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتصنع
إرادتك كما في السماء كذلك على الأرض. أعطنا اليوم الخبز الضروري لنا، واغفر لنا
ذنوبنا وخطايانا كما أننا نحن أيضًا غفرنا للمذنبين إلينا، ولا تدخلنا في تجربة
لكنا نجنا من الشرير، لأن لك القوة والمُلك والتسبيح الآن وكل أوان وإلى أبد
الآبدين، آمين" (متى 6: 9-13).
استعمل ربنا هذه الكلمات القليلة وكأنه يريد
أن يقول: لا تقوم الصلاة بكلمات بل بالخلق والمحبة والاجتهاد في الخير. فعلى الذي
يميل إلى الخير أن تكون حياته كلها في الصلاة وهذا يظهر في اختياره للخير. ويجب أن
تكون الصلاة موجهة إلى السلوك. فالذي لا يليق أن نعمله، لا يستحق أيضًا أن نطلبه
لأن ذلك سيكون موتا شرًا من موت الحجارة (الرجم) أن تطلب من الله عكس ما أمر به.
فالذي يقرب إلى الله مثل هذه المسألات يثير فيه الغضب لا الرضى والراحة. إذا،
الصلاة الحقيقية هي استقامة الحياة وحب لله واجتهاد في ما يرضيه. فالذي يهتم بهذا
ويتأمل قلبه فيه يصلي دون عائق ودومًا وفي كل وقت وكل مكان ودائمًا بحيث يصنع ما
يرضي الله. فمن كان هكذا يحتاج دومًا إلى أن يسأل في الصلاة: فالذي يهتم بالخير
يليق به أن يسأل عون الله، والله يعينه لقاء هذا الاهتمام الذي يبذله لكي تكون كل
حياته مطابقة لإرادة الله. ومن الأكيد أن مثل هذا الانسان ينال أيضًا ما يطلب، لأن
الذي يتفرغ للشرائع الإلهية ويتوجه بها ويتركها توجهه لا يحيد عنها. مثل هذا
الإنسان لا يمكنه أن يطلب مساعدة إلا وينال بشكل من الأشكال عون ذلك الذي يعمل
وصاياه. وكذلك نقول عن الذي يحيا حياة معارضة لهذه الوصايا. فمن الواضح أنه لن ينال
شيئًا في وقت الصلاة لأنه لا يرضي الله ويسأل ما فضل أن يصنعه هو كل حياته.
4- لذلك علمنا ربنا أيضًا أن لا نتهامل حين
نصلي، كما قال الطوباوي لوقا الذي سلم لنا في مثل تعليمًا عن هذا الموضوع قال: "كان
في مدينة قاض لا يخاف الله ولا يستحي من الناس. وإن إمرأة أرملة (لو18: 2) كانت
تلقى معاملة سيئة من رجل أقوى منها. فكانت تتقدم إلى القاضي وتطلب منه في كل وقت أن
يزيل الظلم الذي يصيبها. فجعلها تنتظر زمانًا طويلا. ولكن في النهاية غلبته لجاجة
المرأة فاهتم بقضيتها وخلصها من الظالم الذي كان يظلمها وهو الذي كان أقوى منها.
وزاد ربنا: "إسمعوا ما قال قاضي الظلم: بما أن هذه الأرملة تلج عليّ فسأحكم لها
بالعدل لئلا تأتي في كل وقت وتعذبني. والله، ألا ينتقم لمختاريه الذين يصرخون إليه
نهارًا وليلا ويطيل روحه عليهم" (لو18: 5-7).
فالذين يهتمون بالفضيلة يحصل لهم عناء بدون
حد يأتيهم من الشهوات الطبيعية ومن فخاخ الشياطين ومن الأحداث اليومية التي تشكك
الكثيرين مرات عديدة وتخرجهم من الخير. بسبب هذا حربهم دائمة في هذا العالم. ولكي
لا يتصوروا أن الله تخلى عنهم حقًا لأن ليس لهم أيضًا وقت قليل يتنفسون فيه في
جهادهم كل يوم، حُسن لربنا أن يعرض أمامنا قاضي الظلم هذا ليؤكد لنا بمثل أنه لا
يمكن لله أن يُهمل الذين اختاروا الخير. قال: هذا الرجل القاسي الذي لا يهتم
اهتمامًا لا بالعدالة، ولا بالخوف من الله، ولا بالحياء من البشر، غلبته لجاجة
امرأة متواصلة فاهتم بها كما يجب وحكم لها بالحق ضد ظالمها، على غير انتظار. فكيف
تفكرون بالله الحنون والرحوم الذي يعمل كل شيء لحياتنا وخلاصنا، بحيث إنه لا يتخلى
حتى عن الخطأة؟ هل تفكرون أنه يترك الذين يعتنون بالخير ويجتهدون في ما يرضيه؟ هو
لا يتخلى عمّن يسلمهم للضيقات والمحن اليومية التي يُجبرون على تحملها من دون رغبة
إما بتعذيب الشهوات الطبيعية وإما بالضعف الذي يرافقهم. من أجل هذا يُجتذبون إلى ما
لا يجب ودون أن يريدوه مرات عديدة. فعظيمة هي الحرب التي يتحملونها من الشيطان، هم
المجبرون دومًا أن يحاربوا الشهوات التي تنبع فيهم بمناسبة أحداث كثيرة، ولكن
الخيرات التي وُعدوا بها لقاء هذه الأتعاب ليست بسيطة. فالله يقبل إرادة هؤلاء
الناس ويمنحهم الخير باهتمامه العظيم بهم. فيسمح أن يتحملوا في هذا العالم الضيقات
والأتعاب، لينالوا بالمقابل خيرات أبدية لا تُدرك.
5- من أجل هذا إليك الكلمات التي سلمها هنا
أيضًا إلى تلاميذه الذين سألوه أن يعلمهم صلاة. قال: إذا اجتهدتم في الصلاة فاعلموا
أنها لا تكون بالكلام بل باختيار حياة فاضلة وبالمحبة لله والغيرة على الخير. فإذا
اجتهدتم في هذه الأشياء تكونون مصلين طوال حياتكم. ولأنكم أردتموها واخترتموها تكون
لكم رغبة كبيرة في الصلاة. ولا شك أنكم تعرفون أيضًا ما تطلبون. فإن فضلتم الخير،
لا تقنعوا أن تسألوا شيئًا آخر خارجًا عن ذلك لأنكم لا تقبلون أن تسألوا ما لا
تهتمون به. أنتم الذين ترغبون في الفضائل التي تقدمونها لله. فإن كانت هذه حياتكم
وإن سألتم الرب، مجتهدين، هذه المسألات، فاعلموا أنكم ستحصلون عليها أيضًا.
6- واسمعوا إذن كلمات قليلة تدلكم عمّا يجب
عليكم أن تجتهدوا فيه، وأي نوع من مسلك وحياة يُطلب منكم، وفي أي شيء يجب عليكم أن
تداوموا، ولأي شيء يجب أن تقدموا الطلبات لكي تحصلوا بلا شك على ما تطلبون. إذًا،
قال الإنجيلي: "وكان يسوع يصلي في مكان. وحين توقف سأله أحد تلاميذه: يا ربنا،
علمنا أن نصلي كما علم يوحنا أيضًا تلاميذه" (لو11: 1). وزاد: "فقال لهم: حين
تُصلون قولوا هكذا: أبانا الذي في السماء ليتقدس اسمك" (لو 11: 2). هذه العبارة
"كان يصلي في مكان" تُشبه ما يقوله الإنجيلي في موضع آخر: "وفي تلك الأيام صعد يسوع
إلى الجبل ليصلي، وقضى ليلته في الصلاة لله" (لو6: 12). هذه العبارة "في مكان" تعني
شيئًا مثل هذا: في مكان منعزل ومصان من ضجيج البشر، كان يقدم صلاة لله. فحين رآه
التلاميذ يصلي بمثل هذا الاجتهاد، فهموا أن الصلاة ليست شيئًا ممكناً وحسب، بل
ضرورية أكثر من أي شيء آخر. وسألوه أن يعلمهم أن يصلوا، كما علّم أيضًا يوحنا
تلاميذه فقال لهم كلمات الصلاة. إذا حين تجتهدون في الصلاة، إعرفوا ما يجب أن
تسألوا الله. من الواضح أن عليكم أن تهتموا بالمسألة التي أنتم مزمعون أن تقربوها
إلى الله. ماذا يجب عليكم إذا ان تقولوا حين تصلون، وبأي شيء يجب عليكم أن تهتموا.
7- "أبانا الذي في السماء". قال: قبل كل شيء،
يجب أن تعرفوا ما كنتم وما صرتم إليه، وما هي الموهبة التي نلتموها من الله، وما
أعظمها. فقد صنع أمورًا عديدة من أجلكم أكثر مما صنع للبشر قبلكم. فما أعمله أنا
للذين يؤمنون ويختارون أن يصيروا تلاميذي هو عظيم، بحيث أرفعهم أكثر من الذين
يعيشون في شريعة موسى. "فإن كان العهد الأول الذي أعطي من على جبل سيناء وَلَد
للعبودية فقد صارت عبدة هي وأولادها" (غل4: 4-25). لأن كل الذين خضعوا "لشريعة
الوصايا" (أف2: 15) كانوا عبيدًا: إنهم قبلوا قاعدة سلوك وأحكام موت لا يُفلت منها
أحد، فدُفعوا إلى تجاوز الوصية. أما أنتم فقد نلتم بواسطتي نعمة الروح القدس التي
أهلتكم لسر التبني فصار لكم دالة أن تدعوا الله أبًا. "لأنكم لم تنالوا الروح
لتكونوا من جديد في العبودية والخوف، بل نلتم روح التبني الذي به تدعون، بدالة،
الله أبًا" (روم8: 15). فمنذ الآن لكم خدمة في أورشليم العليا وستنالون حالة الحرية
هذه التي تخص الذين جعلتهم القيامة لا مائتين ولا متبدلين وعائشين في السماء في هذه
الطبيعة.
8- إذا بما أنه يوجد هذا الفرق بينكم وبين
الخاضعين للشريعة، هذا إن كان "الخوف" الذي هو الشريعة "يقتل" ويحكم على المتجاوزين
لها بموت لا خلاص منه، بينما "الروح يحيي" (رج يو 6: 63) وهو الذي يجعلنا في النعمة
لا مائتين ولا متغيرين بالقيامة، بما أنه يوجد هذا الفرق، يحسن بكم قبل كل شيء أن
تعرفوا هذا: يجب أن تكون لكم أخلاق لائقة بهذه الكرامة، لأن الذين يقودهم روح الله
هم أبناء الله، أما الذين يخضعون للشريعة فلم يقبلوا إلا اسم أبناء. قال: "أنا قلت:
أنتم آلهة، وأنتم كلكم أبناء العليّ ولكنكم كالبشر تموتون" (مز 82: 6-7). أما الذين
نالوا الروح القدس وينتظرون الخلود فيليق بهم أن يعيشوا بالروح، أن يتوافقوا مع
الروح، وأن يكون فيهم ضمير يتجاوب وهذه الكرامة بأن يكونوا هؤلاء الذين يقودهم
الروح، وأن يمتنعوا عن كل فعل خطيئة وأن تكونوا لهم أخلاق لائقة بالحياة في المقرّ
السماوي. ولهذا لا أوافقكم حين تدعون "ربنا وإلهنا". لا شك أنه يجب أن تعرفوا أن
الله هو الرب الذي صنع كل شيء وأنتم أيضًا، وأنه ينقلكم إلى التمتع بهذه الخيرات.
ولكني آمركم أن تدعوه "أبا". فبعد أن فهمتم نبلكم والكرامة التي فيها تشاركون
والعظمة التي ينقلكم إليها بأن تكونوا أبناء رب الكون وربكم، تتصرفون على هذا الشكل
إلى النهاية.
9- ولهذا لا
أريد أيضًا أن تقولوا "أبي" بل "أبانا". فالآب واحد لنا كلنا، لأن النعمة التي نلنا
بها سر التبني هي واحدة أيضًا. وهكذا لن تقربوا ما يليق فقط للآب، بل يكون لكم
بعضكم لبعض هذا الوئام الذي يجب أن تحفظوه بعضكم لبعض أنتم الذين صرتم أخوة بقيادة
أب واحد. وزدتُ "الذي في السماء" لكي تتصوروا أمام عيونكم الحياة الأخرى حيث أعطي
لكم أن تنتقلوا. فحين نلتم سرّ التبني صرتم مواطني السماء. هذا هو المسكن الذي يليق
بأبناء الله. |