فلنحاول أن
نفهم سوية ماهية كلمة الله:
فإن فهمتها
حقًا، بالفكر وبالقلب،
ستشعر بضرورة
الإصغاء
للكلمات التي
يخاطبك بها الله نفسه،
مانحًا إياك
النور لكي
تتعرف على نفسك بالحق،
والحكمة لكي
تميز علامات حضوره،
والقوة لكي
تتمكن بدورك من أن تخبر عنه بكلمات محبة،
فلتكن هذه
الكلمات صوت صلاتك،
اعتراف إيمانك
المتواضع،
نشيداً ضمن
نشيد الكنيسة بأسرها،
هذه الكنيسة
التي تولد من الكلمة،
ومن الكلمة
تتلقى الدعوة لتكون شاهدة لها
إلى أقاصي
الأرض
* * *
1. ما
الدافع لكتابة رسالة عن كلمة الله؟
لقد قررت أن
أكتب إليك رسالة عن كلمة الله، لأني مقتنع بأنه، في مجتمعنا، يجري شيء شبيه بما
تتحدث عنه نبوءة عاموس: " ها إِنَّها سَتَأتي أَيَّامٌ يَقولُ السَّيِّدُ الرَّبّ
أُرسِلُ فيها الجوعَ على الأَرْض لا الجوعَ إِلى الخُبزِ ولا العَطَشَ إِلى الماء
بل إِلى استِماعِ كَلِمَةِ الرَّبّ" (8، 11).
أكتشف هذا
الجوع من خلال الحاجة إلى الحب المتجذرة في كل منّا، نحن رجال ونساء عصر "ما بعد
الحداثة"، المسجونون أكثر فأكثر في وَحْشتنا.
وحده الحب
اللامتناهي يستطيع أن يشفي غليل الانتظار المشتعل في قلبنا: وحده الله الذي هو
المحبة يمكنه أن يقول لنا أننا لسنا وحدنا في هذا العالم، وأن مسكننا هو المدينة
السماوية، حيث لن يكون هناك ألم ولا موت. "من تلك المدينة – يقول القديس أغسطينس –
أرسل إلينا أبونا رسائل، أعطانا الأسفار المقدسة، لكي يشعل فينا شوق العودة إلى
بيتنا" (شرح المزامير 64، 2- 3).
فإن أدركت أن
الكتاب المقدس هو "رسالة الله" هذه، وأنها تتوجه إلى قلبك بالذات، ستقترب منها
برهبة وشوق يقرأ بهما متيّم كلمات الحبيبة. لذا فإن الله، الذي هو أب وأم بالمحبة،
ستكلم معك بالذات، والإصغاء الأمين والذكي، المتواضع والمصلي لما يقوله لك سيشبع
تدريجيًا حاجتك إلى النور، وعطشك إلى الحب.
فأن تتعلم كيف
تصغي للصوت الذي يخاطبك عبر الكتاب المقدس، يعني أن تتعلم أن تحب: كلمة الله هي
البشرى السارة ضد الوحشة! لذا فإن الاصغاء للكتاب المقدس هو إصغاء محرِّر وخلاصي.
2. الله يتكلم!
وحده الله كان
بإمكانه أن يكسر صمت السماوات وأن يدوّي في صمت القلب: وحده الله كان قادرًا – كما
ليس باستطاعة أحد غيره – أن يقول لنا كلمات حب. هذا جل ما جرى في الوحي الإلهي،
أولاً عبر الشعب المختار، إسرائيل، ومن ثمّ في يسوع المسيح، الكلمة الأزلية
المتجسد.
الله يتكلم:
عبر أحداث وكلمات مترابطة صميميًا، ويهب نفسه للبشر. إن النصوص التي تشكل الكتاب
المقدس هي أسفار وضعت بوحي من الروح القدس، وهي حلول كلمة الله في كلمات البشر.
كلمة الله هي الله نفسه في رمز كلمته! فهذه الكلمة تشارك في جبروت الله: "لأنَّه
كما يَنزِلُ المَطَرُ والثَّلجُ مِنَ السَّماء ولا يَرجِعُ إِلى هُناك دونَ أَن
يُروِيَ الأَرض ويَجعَلَها تُنتِجُ وتُنبِت لِتُؤتِيَ الزَّارعَ زَرعاً والآكِلَ
طَعاماً .فكذلك تَكونُ كَلِمَتي الَّتي تَخرُجُ مِن فمي: لا تَرجِعُ إِلَيَّ فارِغة
بل تُتِمُّ ما شِئتُ وتَنجَحُ فيما أَرسَلْتُها لَه" (أش 55، 10- 11).
إن العبارة
العبرية "دبر"، والتي نترجمها عادة كـ "كلمة"، تعني بالوقت عينه كلمة وعمل: وهكذا
فالوصايا العشر يقال عنها بالعبرية "الكلمات العشر" بمعنى أنها تعبّر بالوقت عينه
عن مستلزمات محبة الله، وعن العون الذي يمنحه الله لكي نتمكن من التجاوب مع حبه.
فالرب يقول ما يفعل ويفعل ما يقول. في العهد القديم يعلن لأبناء إسرائيل عن مجيء
المسيح الذي سيقيم عهدًا جديدًا؛ وفي الكلمة المتجسد يحقق وعوده متخطيًا كل
التوقعات. فالعهد الأول والعهد الجديد يخبراننا عن تاريخ حبه لنا، من خلال مسيرة
يهيئ الله فيها شعبه على تقبل عطية العهد النهائي: فالعهد القديم يستنير في الجديد،
والجديد يتم التحضير له في القديم!
كيف تستطيع
شجرة الاكتمال الاستغناء عن الجذور التي تأتي منها؟ "إِذا كانَ الأَصْلُ
مُقَدَّساً، فالفُروعُ مُقدَّسةٌ أَيضاً... فاذكُرْ أنَّكَ لا تَحمِلُ الأَصْل، بلِ
الأَصْلُ يَحمِلُكَ" (روم 11، 16. 18). لذا، يا تلاميذ المسيح، فلنحبّ الكتاب
المقدس الذي أحبه هو أيضًا! |