أحياناً...
يؤخذ الفكر بعيداً كما ولو إلى السماء، وتسقط الدموع مثل ينابيع مياه بشكل تلقائي
وتنقع الوجه كله. يكون ذلك الشخص كل هذا الوقت هادئ وساكن ومتشبع برؤية مملوءة
بالعجب. في أغلب الأحيان لن يسمح له حتى بالصلاة: هذه هي في الحقيقة حالة توقف،
أعلى من الصلاة، وذلك عندما يبقى الإنسان بشكل مستمر في الدهش والتعجب من عمل الله
في الخليقة – مثل الناس الذين يجنّون بالخمر، لأن هذا هو الخمر الذي يفرح قلب
الإنسان (مز 104: 15)... مبارك هو الشخص الذي دخل من هذا الباب في خبرته الروحية،
إذ أن كل قوة الحبر والرسائل والعبارات ضعيفة جداً للتعبير عن بهجة هذا السر.
إن محبة الله لا يمكن أن تثار في شخص ما
كنتيجة لمجرد معرفته بالكتاب المقدس، ولا يمكن لأي إنسان أن يحب الله بإجبار
نفسه... لأنه إلى أن يتلقى الشخص روح الإعلان، وتتحد نفسه – بكل دوافعها – مع تلك
الحكمة التي من فوق، ويدرك في شخصه الخاص خواص الله السامية، ليس من إمكانه أن
يقترب من هذا المذاق المجيد الذي للحب. إن الشخص الذي لم يشرب الخمر بالفعل لن يسكر
نتيجة لمجرد للإستماع لحديث عن الخمر، كذلك الشخص الذي لم يُحسَّب مستحقاً لمعرفة
الأمور الإلهية العالية لا يستطيع أن يسكر بمحبة الله.
بنشوة ممدوحة، يحلق القلب نحو الله ويصرخ
قائلاً: “عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجيء وأتراءى قُدَّام الله” (مز
42). إنه فقط ذلك الإنسان الذي يشرب بعمق من هذا الخمر، ثم بعد ذلك يحرم منها، يعرف
مقدار البؤس الناتج عن تخلية النعمة، وما قد أُخِذَ منه بسبب تهاونه.
من خلال مثل هذه اليقظة المقدسة والغيورة،
يبدأ الإنسان بالتحرك نحو المحبة الإلهية، وحالاً يسكر بها كما بالخمر، أطرافه تصير
هزيلة، وعقله يثبت في دهش مرهوب، وقلبه يتبع الله كأسير. يصير – كما قلت – كإنسان
سكران بالخمر.
كالشخص الذي يشرب الخمر ويسكر في يوم حداد، وينسى كل
آلامه الحزينة، هكذا الشخص الذي يسكر بمحبة الله وهو في هذا العالم – الذي هو بيت
البكاء – فينسى كل أحزانه وضيقاته، ويصير غير مبال بكل الأهواء الشريرة من خلال
سكره.
الإتضاع والأعمال الموجهة بشكل صحيح يجعلان الشخص
إلهاً على الأرض. الإيمان والرحمة يدفعانه بسرعة في الطريق نحو النقاوة الصافية.
حالة الإتقاد والحماس وحالة إنسحاق القلب لا يمكن أن يسكنا في نفس واحدة بشكل
متزامن – كما أن السكارى لا يمكن أن يتحكموا في تفكيرهم – إذ أنه عندما تعطى النفس
هذه الحرارة، يؤخذ منها إنسحاق الحزن. إن الخمر أعطي للفرح، والحرارة الروحية أعطيت
لإبتهاج الروح. إن الخمر يُدفئ الجسم، أما كلمة الله فتدفئ الفهم. أولئك الذين
يلتهبون بالحرارة الروحية، يفتنون بتأملات الرجاء، ويُخطف عقلهم إلى الدهر الآتي.
وكما يتصور السكارى بالخمر هلوسة متنوعة، كذلك السكارى الحارين بالرجاء لا يكونوا
واعين لا بالضيقات ولا بأي شيء دنيوي.
المحبة متقدة بالطبيعة، وعندما يهبط الحب بشكل لا حد
له على إنسان، يطرح نفسه في نشوة عامرة. لذلك قلب الإنسان الذي شعر بهذا الحب لا
يستطيع إحتوائه أو تحمله. هذا هو الهوى الروحي الذي سكر به كل من الرسل والشهداء.
بهذا الحب، طاف الرسل العالم كله، في كد وتعب وإحتمال للأهانة، والشهداء بالرغم من
تقطيع أعضائهم، وبالرغم من أنهم سفكوا دمائهم مثل الماء، وعانوا من عذابات مروعة،
إلا أنهم لم يكونوا جبناء بل تحملوا بشجاعة، وظن العالم أنهم جهلاء إلا أنهم كانوا
حكماء حقاً (1 كو 3). وآخرون تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض (عب 11)،
ووسط الفوضى كانوا منظمون بشكل جيد جداً... ليت الرب يمنحنا نحن أيضاً أن نحقق مثل
هذا الجنون!
ذاك الذي بلغ إلى محبة الله، لا يرغب بعد في البقاء
في هذه الحياة، لأن المحبة تطرح الخوف إلى خارج (1 يو 4). يا أحبائي، لقد صرت
غبياً، ولا أستطيع حراسة السر في صمت، صرت غبياً (2 كو: 12) من أجل منفعة أخوتي. إذ
أن المحبة الحقيقية غير قادرة على البقاء في أي سر من دون أحبائها. كثيراً وأنا
أكتب هذه الأمور، تخونني أصابعي في تسجيل كل شيء على الورق، غير قادرة على تحمل
الحلاوة التي إنحدرت في قلبي وأسكتت حواسي. إن الفرح الذي في الله هو أقوى من هذه
الحياة الحاضرة. إن الحب أحلى من الحياة، والفهم الذي بحسب الله الذي يتولَّد منه
الحب، هو أحلى من العسل الموجود في قرص العسل.
عندما نجد
الحب، نتناول الخبز السماوي، ونتقوى بدون جهد أو عناء. الخبز السماوي هو المسيح،
الذي نزل من السماء وأعطى الحياة للعالم (يو 50:6). هذا هو غذاء الملائكة. الشخص
الذي يجد الحب يأكل ويشرب المسيح كل يوم وكل ساعة، ومن ثم يصير خالداً. فهو يقول:
“من يأكل هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد (يو 6). مبارك ذلك الذي يأكل خبز الحياة أي
يسوع! ذاك الذي يأكل الحب يأكل المسيح، الإله على الكل… الحب هو الملكوت الذي بشأنه
وعد الرب تلاميذه – بشكل باطني – أن يأكلوه في ملكوته. الحب كافي لتغذية الإنسان
بدلاً من الطعام والشراب. هذا هو الخمر الذي يفرح قلب الإنسان (مز 104). مبارك ذلك
الذي يتناول من هذا الخمر! الأشخاص الفاجرين شربوا من هذا الخمر وصاروا عفيفين،
الخطاة شربوا منه ونسوا طرق الزلل والتعثر، السكارى شربوا من هذا الخمر وصاروا
صوّامين، الأغنياء شربوا منه وطلبوا الفقر، الفقراء شربوا منه وأغتنوا بالرجاء،
المرضى شربوا منه وصاروا أقوياء، الجهال أخذوا منه وصاروا حكماء. |