يضرنى الوجع أن أتكلم وعدم الاستحقاق ينهرنى كى أصمت والأوجاع تكلفنى أن أتكلم
وخطاياى تحضنى على السكوت.
فإذ
قد اكتنفت من الأمرين جميعاً فالأوفق لى أن أتكلم لكي ما أنال الراحة من أوجاع قلبى
لأن نفسى توجعنى وعيناى تشتهيان الدموع فمن يعطى لرأسى ماءً ولعينى عين دموع فأبكى
نَهاراً وليلاً على كلوم نفسى وعلى رخاوة الموعظة الصائرة فى أيامنا.
لأن
نفسى مملوءة جراحات ولا تعلم لأن تعظمها لا يسمح لها أن تتأمل كلومها لتشفى لأن ذلك
كان وحده عظة فى أيام آبائنا.
لأنَهم أشرقوا كالشمس وكالنجوم فى كافة الأرض سائرين بِها فى وسط القرطب والأشواك
أى بين الهراطقة والناس المنافقين مثل جواهر كريمة ولؤلؤ جزيل ثمنه.
الذين من أجل مسكهم الجزيل وسيرتِهم الصعبة صار الأعداء أنفسهم متشبهين بِهم، لأن
من كان يشاهد تواضع رأيهم ولا يتخشع، أو وداعتهم وصمتهم فلا يتحير.
أى
محب للمال كان يعاين عدمهم للقنية ولا يصير مبغضاً للعالم، أى متغطرس ومستكبر كان
يرى سيرتِهم الحسنة ولا ينتقل إلى التواضع.
وأى
خبيث ودنس كان يبصرهم فى الصلاة واقفين ولا يظهر فى الحين عفيفاً وطاهراً، وأى سخوط
أو غضوب إذا كان يخاطبهم فلا ينتقل إلى الوداعة.
ههنا جاهدوا وهناك ابتهجوا لأن اللـه يُمَجَد بِهم، والناس ابتنوا وانتفعوا، فأما
العظة التى لنا فقد جعلتنا نترك الطريق المستقيم ونعشق الهوى لأن ليس أحد يترك
الأموال من أجل اللـه، ولا أحد يزهد من أجل الحياة الأبدية، وليس أحداً وديعاً
ومتواضعاً، ولا ساكن الأخلاق ومبتعداً من السب أو صبوراً على القذف.
بل
الجماعة سخوطون ومجاوبون، والكل عاجزون وغضوبون، ومتزينون بالثياب، الكافة معجبون
وللشرف محبون، والجماعة محبون ذاتَهم.
لأن
الذى قد جاء ليُوعَظ فقبل أن يُعَظ يَعظ، أو قبل أن يُعَظ يُعَلِّم، وقبل أن
يَتَعَلَّم يشترع فرائض، وقبل أن يتهجى في الكتب يصنع كتباً، وقبل أن يُطِيع يُرام
أن يُطَاع، وقبل أن يُؤمَر يأمر، وقبل أن يُعاتَب يشترع العتاب.
إن
كان شيخاً يأمر بتأمر وتعظم، وإن كان شاباً يُجَاوِب، وإن كان موسِراً للخير يطلب
إكراماً، وإن كان مسكيناً يسأل عن الراحة، وإن كان صانعاً ينظف أصابعه ويصون
تنضيدها.
من
لا يبكى يا أحبائى على التعليم الذى لنا لأننا قد زهدنا فى العالم ونعقل المعقولات
الأرضية، الفلاحون قد زهدوا فى الأرض والمظنون أنَهم روحانيون قد ارتبطوا بِها، لا
نعرف يا إخوتى إلى أين قد دعينا، وإلى أى أمر جئنا.
دعينا إلى المسك والحمية ونشتهى الأطعمة الطيبة، وجئنا إلى العرى ونخاصم من أجل
ثياب ناعمة، دعينا إلى الطاعة والوداعة ونجاوب متنمرين، نقرأ ولا نعرف، ونسمع ولا
نعقل القول الذى فى ذاتنا.
إن
صادف إنسان فى الطريق بغتة قتيلاً تستحيل نضارة وجهه، ويجزع قلبه، ونحن نقرأ أخبار
الرسل المقتولين والأنبياء المرجومين ونظنها قيلت عبثاً.
ولم
أقول عن الأنبياء والرسل فقط بل نسمع عن الإله الكلمة نفسه عُلِقَ على خشبة من أجل
خطايانا وقُتِلَ ونحن نضحك ونتنزه، الشمس لم تحتمل شتيمة السيد فنقلت بَهاءها إلى
الظلمة، ونحن لا نشاء أن ننتقل من ظلمة رذيلتنا.
فلنطهر ذاتنا يا أحبائى ليسكن الإله فينا وننال مواعيده، ولا نشتم اسمه القدوس الذى
دعى علينا، ولا يجَدف من أجلنا على اسم إلهنا، فلنشفق على ذاتنا متفهمين أن اسمنا
قد أتفق مع اسم المسيح، لأنه هو المسيح ونحن ندعى مسيحيين.
الروح هو الإله ونحن صرنا روحانيين، لأنه حيث روح الرب فهناك الحرية، فلنحرص أن
ننال هذه الحرية، ولنخطر بذهننا لأية سيرة قد أُهلنا عالمين أنه إلى عرشه دعانا
فلنحب ذاتنا ولو مثل ما أحبنا هو، ولنشتاق إليه ليشرفنا.
اصغوا إلى ذاتكم لئلا نطالب بطائلة مضاعفة يوم الدينونة. قد انفصلنا من العالم
ونعقل معقولات العالم، استحقرنا الأموال ونَهتم من أجلها، هربنا من الأشياء البشرية
ونحن نطلبها، ونخشى من أن يدهمنا بغتة ذلك اليوم ونوجد عراه وأشقياء وغير مستعدين
فتندم أنفسنا.
لأن
هذا الأمر نفسه أصاب الذين كانوا على عهد نوح، وفى أيامه كانوا يأكلون ويشربون
ويتزوجون ويزوجون، يبيعون ويبتاعون إلى أن جاء الطوفان فأهلك الكل.
إن
الأمر يا إخوتى عجيبٌ جداً أنَهم كانوا يعاينون الحيوانات البرية ملتئمة كانت
تتقاطر جمعاً واحداً، الفيلة كانت تتقاطر من بلاد الهند وفارس، والأسد والنمور
تجتمع مع الغنم والمعزى ولا تآزى.
والدواب والطيور تتوافى من غير أحد يسيرها وتحل حول السفينة بحرص وهذه كانت فى أيام
طويلة ونوح نفسه كان يعمل السفينة بحرص، ويهتف إليهم توبوا فلم يرتدعوا.
وكانوا يشاهدون متعجبين من اجتماع البهائم والحيوانات البرية، فلم يتخشعوا ليخلصوا.
فلنرهبن يا أحبائى لئلا يصيبنا نظير هذه لأن المكتومات قد كملت والعلامات المقولة
لها انقضت، وما تبقى شيء آخر سوى أمور عدونا معاند المسيح لأنه كما في مملكة الروم
يجب أن تكمل الأشياء كلها.
فمن
يشاء أن يخلص فليحرص أن يريد أن يدخل إلى الملك، فلا يتوانى من يشاء أن ينجى من نار
جهنم فليجاهد فرط الجهاد، ومن يريد ألا يطرح فى الدود الذى لا يرقد فليتيقظ
مستفيقاً، ومن يريد أن يستعلى فليتواضع، ومن يشاء أن يتعزى فلينح.
ومن
يحب أن يدخل الخدر ويبتهج فليأخذ مصباحاً بَهياً وزيتاً فى وعائه، ومن ينتظر أن
يتكئ فى ذلك العرس فليقتنِ حلة منيرة. فإن مدينة الملك هى مملوءة سروراً وابتهاجاً،
موعبة نوراً وحلاوة نابعة لذة وحياة أبدية للساكنين فيها.
فمن
يحب أن يساكن الملك، ويستوطن مدينته فليسرع لأن النهار قد مال ولا يعلم أحد ماذا
يلتقى فى الطريق، لأنه مثل مسافر يعرف بُعد مسافة الطريق فأضجع ونام إلى قرب المساء
ثم أنتبه وأبصر النهار قد مال.
فلما أبتدأ بالمشى تدارجته بغتة الغيوم والبرد والرعود والبرق محتفة بالهواء
فاشتمله الغيوم من كل جهة، وتضايقت حياته لأنه لا يستطيع الوصول إلى المنزل ولا
يستطيع أن يعود إلى موضعه.
هكذا يصيبنا نحن إن توانينا واضطجعنا فى أوان التوبة لأننا نحن سكان وراحلون،
فلنحرص أن ندخل إلى مدينتنا وموطننا بعزاء.
نحن
يا إخوتي تجار روحانيون طالبوا الجوهرة الجزيلة قيمتها التى هي المسيح مخلصنا،
الفخر والكنز الذي لا يُسلب فلهذا فلنقتنه بحرص كثير فمغبوط ومثلث السعادة من قد
حرص أن يقتنيه، شقي من توانى أن يقتنى صانع الكل.
أو
لا تعلمون يا إخوتي أننا أغصان الكرمة الحقيقية التي هي المسيح. فأحذروا إذاً أن
يوجد أحد غير مثمر، فإن أب الحق هو الفلاح الذى يعمل هذه الكرمة، والذين يعطون
ثمراً يطهرهم ليأتوا بثمر، والذين لا يأتون بثمر يقطعهم ويرميهم خارج الكرم ليحرقوا
بالنار.
فتأملوا ذاتكم حذرين أن توجدوا غير مثمرين فتقطعوا، وتلقون فى النار، فكذلك نحن
بذار جيد زرعه المسيح سيد المنزل صانع السماء والأرض، وأوان الحصاد قد حان
والحصادون بأيديهم المناجل منتظرين إشارة السيد، فاحظروا أن يوجد أحدكم زواناً
فيُشد حزمناً ويحرق بالنار الدهرية.
ألا
تتفهمون يا إخوتى أننا مزمعون أن نعبر لجة مرهبة.
فالذين هم تجار حاذقون وحكماء مستعدون، وتجارتِهم بأيديهم منتظرون هبوب الرياح
ليسيروا ويبلغوا إلى ميناء الحياة، وأنا ومن يشابِهنى نتنزه بلا كسب ولا فائدة.
ليس
لنا شيء موضوع فى ذهننا لنعبر به هذا البحر ونخشى أن تَهب الرياح بغتة، ونوجد غير
مستعدين فيقيدونا ويرمونا من المركب، وسنبكى هناك على ونيتنا ناظرين إلى آخرين
مبتهجين مسرورين ونحن فى وجع وحزن لأنه فى تلك الميناء يفتخر كل أحد بتجارته
وثروته.
فأخشى يا أحبائى أن تخرجنا آلام الجسد خارج الحذر إذ نحن من خارج لابسين زياً لأن
الذى من خارج يعرف أين هو قلبنا وعقلنا.
التزين وتنظيف الثياب يوضحان أننا مجردون من ذلك المجد مفتكرون فى الأشياء الأرضية،
وأثرة التشرف تدل أننا معجبون، والتلذذ بالأطعمة يدل أننا شرهون البطن، والونية
توضح أننا عاجزون.
ومحبة الاقتناء توضح أننا لا نشتاق إلى المسيح، والحسد يخبر أننا ليس لنا محبة فى
ذاتنا، وغسل أرجلنا ووجوهنا يدل على أننا عبيد الآلام، لأن القلب يشتاق إلى شيء
والأشياء التى يودها القلب يتلوها اللسان، وشفاهنا تستوضح مكتومات قلبنا.
متى
أنفتح الفم ولا باب له ولا حراسة يخرج كلامنا بلا تحفظ، وبأقوالنا نسلب متاع قلبنا
لأن فماً لا يحفظ أسرار القلب يسترق أفكاره والرؤيات التى يظن أنَها باطنة تشتهر
بالفم، والنتائج التى يظن أنَها لا ترى تبصر، التلذذ بالمثالب يوضح أننا موعوبون
بغضاً.
فلا
ينخدعن أحد بالورع الظاهر فإنه يخدع ذاته وأخاه، من يظن أنه يخدع بالورع الظاهر
فتصرفه يظهر كذب ورعه.
إن
شئت أن تعرف أفكار القلب فتقدم إلى الفم، ومنه تعرف بأى شيء تَهتم؟ وعلى ماذا تحرص؟
أعلى الأشياء الأرضية أو على المناقب السماوية. على الأمور الروحية أو على الأشياء
البشرية.
من
أجل اللذة اهتمامك أو من أجل الحمية، بِهجر القنية تَهتم أو باستكثارها، بالتواضع
أو باستعلاء الرأى، بالمحبة أو بالبغضة، لأن من كنز القلب يخرج الفم اهتماماته،
وهذيذ اللسان يوضح إلى ماذا يشتاق إلى المسيح أو إلى أمور العالم الحاضر.
والنفس التى لا ترى تبصر بأفعال الجسد ما هى إن كانت صالحة أو خبيثة لأنَها صالحة
بطبيعتها وتنتقل إلى الشر بالنية المتسلطة على ذاتِها لكن لعل أحداً يقول إن الآلام
الطبيعية والذين يعملونَها لا جناح عليهم.
أصغ
إلى ذاتك ولا تنسب حسن اختراع الإله الصالح إلى زلة الجنوح فإنه قد صنع البرايا
كلها حسنة جداً وزين الطبيعة بسائر الصالحات، فمن يجع إذاً لا يذنب إن أكل بمقدار
لأن الجوع طبيعي، وإذا عطش إنسان كذلك وشرب قدر كفافه فلا يخطئ لأن العطش طبيعي.
إذا
نام أحد فلا يخطئ إن لم ينم بلا مقدار ويرخي ذاته ويدفعها إلى النوم، حقاً أن النوم
الذي لا مقدار له عادته تغلب الطبيعة لأن العادة والطبيعة هما كارزان بحظوظ كل واحد
منهما بل فالطبيعة توضح العبودية، والعادة تشهر النية لأن منهما كلهما تتضح كيفية
الإنسان.
فالنية هي مسلطة على ذاتِها فهي مثل فلاح تطعَّم في ذاتِها عادات رديئة وصالحة كما
تشاء.
أما
العادات الرديئة فتطعمها هكذا تطّعم في الجوع نَهم البطن، وفي العطش كثرة الشرب وفى
النوم الرخاوة وفى النظر الرؤية الرديئة وفى الحق الكذب.
وكذلك تطعم الفضائل الصالحة هكذا فى الإغتذاء المسك، وفى العطش الصبر، وفي النوم
السهر، وفى الكذب الحق، وفي النظر التعفف، وفى التأمل لحظة عين، فهي مثل فلاح تقتلع
العادات الرديئة وتطعم الفضائل الصالحة فتغلب الطبيعة.
فأرض عملنا هي الطبيعة، والفلاح هي النية، والكتب الإلهية هم المشيرون، والمعلمون
يعلِّمون فلاحنا أية عادات تقلع وأية فضائل صالحة تُنصب، فما دام فلاحنا مستفيقاً
وحريصاً من قبل تعليم الكتب الإلهية فهو قوي لأنَها تعطيه " الكتب الإلهية " من
غصونِها فهماً وقوة فضائل صالحة ليطَّعم في شجرة الطبيعة.
الأمانة فى عدم الأمانة، ورجاء فى عدم الرجاء،ومحبة في البغض، ومعرفة فى عدم
المعرفة، وحرصاً فى التواني ومجداً ومديحاً في عدم الشرف، وعدم موت في الأمانة،
ولاهوتاً فى الناسوت.
فإن
شاء وقتاً ما فلاحنا بتعظمه أن يترك المعلم والمشير عليه أعني الكتب الإلهية، يوجد
تائهاً ويصادف نتائج خبيثة جامعاً عادات لا نفع فيها ويطعم فى الطبيعة التطعيمات
التى خارج الطبيعة.
أعني عدم الأمانة، وجهالة، وبغضاً، وحسداً، وكبرياء، وسبح باطل، وأثرة الشرف، ونَهم
البطن، وخصومة، ومجاوبة، وأشياء أخرى أكثر من هذا لأنه لما تَرك المشرع تُرك منه.
فإن
تندم وعرف ذاته وسجد للمشترع الشريعة قائلاً: قد أخطأت إذ تركتك. يقبله المشترع
السنة فى الحين بتعطفه على الناس ويمنحه فقهاً واقتداراً صالحاً ليعمل أيضاً أرض
فلاحته وطبيعته، ويقتلع منها العادات الرديئة وينصب عوضها الفضائل الصالحة.
بل
ويمنحه أكلَّة ويعطيه جوائز ومدائح هكذا كما قلت، أنه يجوع بالغريزة فيحتمي ويصبر،
ويعطش لكنه يصبر، يشتهي لكنه يغيف، يثقل بالنوم أو يشتمله عجز فى تمجيد السيد، لكنه
إذا سهر يكلف نفسه في تسبيح اللـه. وكذلك يكلل إذا غلب الطبيعة وأقتني الفضائل.
فالمجد إذاً لتعطفه والشكر لصلاحه، والسجود لتحننه، أي رب رؤوف هكذا، أي أب رحوم
هكذا، أي أب هكذا يحب مثل سيدنا الذي أحبنا نحن عبيده، ويهب لنا كل شيء ويدبر
أمورنا، ويشفي جراحات نفوسنا بكثرة صنوف الأدوية، ويتمهل علينا إذا خالفناه.
ويشاء أن يخلصنا كلنا، ويشاء أن يصيرنا وارثين ملكه، ويريد أن تُمدح خيريته إذا شفت
الأمراض السهلة الشفاء والحقيرة، لأن الأسقام الثقيلة والصعب شفائها هو يشفيها !
فيشفى جراحات العاجز بنفخة فمه لدراسته بتمجيده، ويصفح عن خطايا الخاطئ باستنهاضه
إياه إلى النشاط، ويسمع من السقيم سريعاً لئلا تصغر نفسه، ويمنح الطويلة أناتَهم
والقارعين أبوابه دائماً الموهبتين كلتيهما أي الشفاء والثواب.
لأنه يقدر أن يشفي جراحات نفوسنا كلها وينقلها غصباً إلى الحرية لكنه لا يشاء لئلا
تعدم نيتنا المدائح التي منه، ونتوانى أن نستغيث به لمعونتنا ونصرتنا، فلمحبته
إيانا ورأفته بنا قد اقتادنا وأنار أعين ذهننا منحنا المعرفة وأذاقنا محبته لنطلبه
بلا تقصير.
الطوبى لمن ذاق محبته وأعد ذاته أن يمتلئ منها دائماً فإنه إذا امتلأ من مثل هذه
المحبة لا يقبل فى ذاته محبة أخري، يا أحبائي من لا يحب مثل هذا السيد من لا يسجد
ويشكر لصلاحه.
أي
اعتذار لنا في يوم الدينونة إن توانينا؟ أم ماذا نقول له؟ أنقول ما سمعنا وما عرفنا
! أو ما عملنا ! ماذا ينبغي أن يعمله ولم يعمله بنا؟
ألم
ينحدر إلينا من العلو الذى لا يُقَدَر ! وألم ينزل من حضن الآب المبارك ! أما شوهد
الغير المرئي منا، وإذ هو غير مائت ألم يتجسد من أجلنا أو ما لطم ليعتقنا.
يا
للعجب الموعب خوفاً ورعباً أن يداً طبيعية خُلقت من طين الأرض لطمت خالق السماء
والأرض، ونحن الأشقياء والأدنياء ترابيون ومائتون ورماد ولم نحتمل كلمة بعضنا من
بعض.
هو
غير مائت، ألم يمت من أجلنا ليحينا، أو لم يُدفن لينهضنا معه، فكَنا من رباطات
العدو وربطه، وأعطانا سلطاناً أن ندوسه، متى استغثنا به ولم يجيبنا، أو قرعنا بابه
ولم يفتح لنا وإن تباطأ وقتاً ما أليس ذلك ليُكثر ثوابنا.
أيها الحبيب لِمَ زهدت فى العالم، ألكي تطلب نياحة جسدانية، وبدل العرى أتبتغى حلة،
وعوض العطش أتبتغى شرب الخمر.
دعيت إلى المحاربة، وتروم أن تتقابل مع أعدائك بدون أسلحة، عوض السهر تنحدر إلى
النوم، وعوض البكاء والنحيب تبذل ذاتك للضحك، وبدل المحبة تحوي بغضاً لصاحبك.
جئت
إلى الطاعة وأنت تجاوب، جئت لترث مُلكاً وأنت تعقل المعقولات الأرضية، وعوض التواضع
والوداعة تشتمل بالتعظم والتكبر.
ماذا تقول له فى ذلك اليوم؟ أتقول أننى تواضعت من أجلك ! وتمسكنت وتعريت، وجعت
وعطشت من أجل محبتك من كل نفسي، وأحببت قريبي كنفسي.
لا
تستهجل أن أقوالك وأفكارك ليست غير مكتومة، وضميرك هو الناظر إياك، إن كذبت لا تجهل
أنه لا يوبخك، أو لا تعلم أن البرية كلها تقف أمام مجلسه بخوف ورعب شديد وتحوط به
ألوف ألوف وربوات ملائكة رؤساء ملائكة؟
وإن
كنت تفتكر أن تكذب وتقول قد احتملت من أجلك مثل جسامة هذه الأشياء، أحذر أن تبدى
طائلة كبيرة عن أعمالك الخبيثة وعن كذبك فق من نومك وعد إلى ذاتك، أجمع أفكارك
وأنظر أن النهار قد مال.
أفهم هذا المعنى أيها الأخ، إن إخوتنا الذين كانوا معنا بالأمس يكلمونا ليسوا معنا
اليوم لأنَهم دعوا إلى ربِهم وربنا ليريه كل واحد منهم تجارته.
ها
أنتم قد عرفتم أمور أمس الماضي وأمور اليوم، كيف مضي أمس كزهرة صباحية واليوم هو
كفى مسائي، فتأمل أمتعة تجارتك إن كانت قد نَمت فائدتِها من أجل اللـه، لأن أيامنا
تجوز مثل مشي ساعي.
الطوبى لمن يتجر وينمي بضاعته يوماً فيوماً، ويجمع فوائد الحياة الدائمة. لِمَ
تتوانى أيها الحبيب، لِمَ تضجع وقد سكرت بالضجر كسكرك من النبيذ، ماذا تميز فى ذاتك
إنك تجعل لك منزلاً فى هذا الدهر.
لأنه مثل أثنين مسافرين أتفق أحدهما مع الآخر فى الطريق، وكل واحد منهما ذاهب إلى
منزله فلما أدركهما كلهما المساء نزلا فى الفندق الذى بلغا إليه، ولما صارت الغداة
فارق أحدهما الآخر، وكل واحد منهما يعرف ما له في منزله إما غنى وإما فقيراً، إما
نياحة إما حزناً.
هكذا نحن فى هذا العالم فإن هذا العمر يضاهي مسكناً ومنه نفترق ذاهبين إلى موضعنا
عالمين ما لنا أمامنا لأن كل واحد منا لا يجهل ما تقدم فأنفذ إلى السماء.
كما
أقول إن كان أرسل صلاة بدموع، أو سهراً نقياً، أو ترتيلاً، أو تخشعاً، أو مَسْكَاً
بتواضع الرأي، أو زهداً فى الأمور الأرضية أو محبة بلا رياء تتوقان إلى المسيح.
إن
كنت سبقت فأرسلت هذه فثق إنك ستمضي إلى نياحة وراحة، وإن كنت ما أرسلت ولا واحدة من
هذه فَلِمَ تغيظ قريبك في مسكن الاغتراب لأنك غداً تفارقه، لِمَ تتكبر، لِمَ تتعظم،
لِمَ تحزن.
أتريد أن تحمل المسكن معك، لِمَ تَهتم من أجل ثياب وملابس وطعام فالمعطي البهائم
غذائها ألا يغذيك أنت الذي تمجده.
يا
من ترجوا أن تصير وارثاً أتَهتم بثياب وملابس، يا من قد أمت ذاتك من العالم أتعقل
المعقولات الأرضية، لِمَ تغيظ الطبيب بأنك تريد أن تبرأ وفي زمان مداواتك تخفي
جراحاتك، وتدعى على الطبيب أنه ما أبرئك.
قد
أُعطيت وقتاً للتوبة، وأنت تتواني فى التوبة. فماذا تدعى على المشترع السنة أإنه
أجتلب الموت لما تَهاونت، أتراك تقول للموت دعني أتوب.
فق
أيها الحبيب متيقظاً فإن تلك الساعة كالفخ تأتي إليك وحينئذ يشتمل ذهنك ذهول،
وتقول: كيف جازت أوقاتي؟ وكيف عبرت أيامي فى حال تنزهى فى الأفكار الغير واجبة؟
وما
المنفعة أن تفتكر بِهذه وقت الموت، ولا يسمح لك أن تعود إلى هذا الدهر منذ الآن ضع
عقلك فى المقولات وليدخل فى مسامعك أقوال الرب، إن كنت تصدقه لأنه هو قال إنك تعطي
فى ذلك اليوم جواباً عن كل كلمة بطالة.
يخزينا هذا الفصل إن كان ذهننا مستفيقاً، فالذي يتفهم المكتومات ولا يسمع المقولات
فهو يضاهي كوز مياه يقبل الماء ولا يحس إنه يجوز فيه.
ترى
من لا يبكى، ومن لا يرى، ومن لا يحزن، ومن لا ينذهل، إن سيد الدنيا كلها يهتف
بذاته، وبعبيده الرسل والأنبياء، ويكرز صارخاً وليس من يسمع.
وما
هي الأشياء التي أشار إليها؟ العرس معد قال والمسمنات قد ذبحت والختن جالس بعظم
جلاله ومجده فى الحجلة يستقبل المقبلين إليه بفرح.
الباب قد فتح، الخدام متسارعون، فأعدوا قبل أن يُغلق الباب لئلا تبقوا خارجاً ولن
يوجد من يدخلكم، ومع ذلك لا يحترس أحد بل يضجع ويهتم بِهذا الدهر، فالكتب الإلهية
نكتبها خطاً مستوياً إلا أننا لا نشاء أن نكمل الأوامر التى فيها.
ترى
من هو الذى يسافر بلا زاد في طريق بعيده كما نشاء نحن أن نترك زادنا ههنا ولا نأخذ
معنا شيئاً للسفر، فمغبوط من يسافر للرب بدالة حاملاً زاده بلا احتياج إلى غيره.
فها
العشر عواتق نائمات والعبيد يتجرون وينتظرون سيدهم عالمين أنه قد أخذ الملك وهو آتي
باقتدار ومجد جزيل فيكلل عبيده الذين تاجروا حسناً بالفضة التي قبضوها منه، ويقتل
أعدائه الذين لم يريدوا أن يملك عليهم.
أنه
في النوم الذي يشتمل طبيعة الناس في نصف الليل يصير من السماء بغتة دوي عظيم ورعود
مرهبة، وبروق مفزعه مع زلزلة.
يذهل بغتة الراقدون، ويتذكر كل أحد أعماله التي عملها إن كانت صالحة أو طالحة.
ويقرعون صدورهم صائحين على مضاجعهم لأنَهم ليس لهم موضع يهربون إليه أو يختفون فيه،
أو يندمون على ما عملوا، لأن الأرض تتزلزل، والرعود ترعب والبروق تُذهل، وظلمة
عميقة تطوف بِهم.
هكذا تكون تلك الساعة تزعج الأرض كلها كبرق حاد مدلهم لأن الصور يبوق بخوف من
السماء وينهض الراقدون وينتبه الهاجعون منذ الدهر لأن هذه السماوات مع كافة قوتِها
تضطرب والأرض تتموج كلها كالبحر مرتعدة من اتجاه مجده.
لأن
ناراً مرهبة تتقدم سعيرها أمامه تنظف الأرض من الآثام التي دنستها ويفتح الجحيم
أبوابه الدهرية، ويبطل الموت وتراب الطبيعة البشرية المتماسي إذا سمع صوت البوق
يعيش ويحيا لأنه بالحقيقة يكون ذلك عجباً.
يرى
مستعجباً كيف بطرفة عين،كما أن السمك الكثير الذى يذهب ويجىء ويتقلب فى البحر، هكذا
كثرة عظام الطبيعة البشرية التي لا تحصى ينزع كل واحد منها طالباً مفصله، وإذا نهضت
تحاضر كلها وتقول:
المجد لمن جمعنا واستنهضنا بتعطفه على الناس. وحينئذ يبتهج الصديقون ويُسر الأبرار،
والنساك الكاملون يتعزون من تعب نسكهم، والشهداء والرسل والأنبياء يكللون.
الطوبى لمن أستحق أن يرى تلك الساعة كيف بمجد يخطف فى السحب لاستقبال الختن الذى لا
يموت، وكافة الذين أحبوه وحرصوا أن يتمموا مشيئته،كما قد عظم كل واحد جناحه ههنا
هكذا يطير إلى شواهق الأعالي، بمقدار ما نظف كل واحد ذهنه وصفاه هكذا يبصر مجد
اللـه.
وبقدر ما أشتاق الإنسان إليه هكذا يتملى شبعاً من محبته، ويتعجب في تلك الساعة آدم
الأول إذا أبصر العظائم والمرهوبات.
كيف
قد حضر منه ومن قرينته ما لا يحصى من كثرة الأجناس، وإذا تكاثر تعجبه لكونه من
طبيعة واحدة وخليقة واحدة صاروا فى الفردوس وفي الجحيم متواترين بمجد الإله الخالق،
والمجد للحكيم وحدة.
يا
أحبائي لقد تذكرت تلك الساعة وارتعدت، وتأملت تلك الدينونة المفزعة فانذهلت، وذلك
السرور الذي في الفردوس فتنهدت وبكيت حتى لم يبقى فيَّ قوة لأبكي أيضاً، لأن أيامي
عبرت في التواني والتنزه. وفي الأفكار النجسة أكملت سنين حياتي.
كيف
سرقت ولم أعلم؟ وكيف عَبَرت ولم أحس؟ فأيامي فنيت وآثامي تكاثرت، ويلي ويلي يا
أحبائي ماذا اصنع بخزي تلك الساعة إذا طاف حولي الذين يعرفوني، والذين لما أبصروني
فى هذا الزي طوبوني وأنا من داخل مملوء إثماً ونجاسة، متناسي الرب فاحص القلوب
والكلى.
بالحقيقة أن هناك الخزي والافتضاح، والشقي هو الذي يخزى هناك. أيها الصالح العطوف
أستحلفك برأفتك آلا توقفني على اليسار مع الجداء التي أغاظتك، ولا تقل لي لستُ
أعرفك، بل أعطيني بحنانك بكاءً دائماً وتخشعاً، وأعطي قلبي تواضعاً وطهره ليصير
هيكلاً لنعمتك المقدسة لأننى وإن كنت خاطئاً ومنافقاً لكنني قارعاً بابك بمداومة،
وإن كنت عاجزاً ووانياً لكنني في طرقك سالكاً .
يا
إخوتي الأحباء أتضرع إلى ألفتكم أن تجزموا على أن ترضوا اللـه ما دام موجوداً،
أبكوا قدامه نَهاراً وليلاً في صلواتكم وترنيمكم لينقذكم من ذلك البكاء الذي لا
ينقضي، ومن تقعقع الأسنان، ومن نار جهنم، ومن الدود الذي لا يرقد، ويفرحكم في
مملكته في الحياة الخالدة حيث يهرب الوجع والحزن والتنهد.
حيث
لا يحتاج أحد دموعاً ولا توبة حيث لا مخافة ولا رعدة، حيث لا فرق ولا تفاضل، حيث لا
يوجد المحارب والمعاند، حيث لا خصومة ولا سخط، حيث لا بغض ومعاداة.
ولكن ذلك كله مملوء فرحاً وسروراً وابتهاجاً ومائدة مملوءة أطعمة روحانية أعدها
اللـه للذين يحبونه، فمغبوط من يؤهل لها، وشقي من يعدمها.
فأطلب إليكم يا أحبائي أن تسكبوا علىَّ تحننكم، وتشفعوا عني ساجدين لابن اللـه
الوحيد الصالح العطوف ليصنع معي رحمة وينجيني من غزارة مآثمي ويسكنني حول مساكنكم
في ساحات الفردوس المبارك الوارثين إياه حتى أصير جاركم.
لأنكم أنتم الأولاد المحبوبون وأنا كالكلب المرفوض، انفضوا لي فتات موائدكم فيتم
علىَّ الفصل المكتوب: " والكلاب تشبع من فتات المائدة المتساقط ".
نعم
يا أحبائي اسكبوا علىَّ صلواتكم، وهلموا أن نحرص من أجل حياتنا فإن الأشياء كلها
تعبر كعبور الظل، ولنبغض العالم والأشياء التى فى العالم والاهتمام البشري، ولا
نتخذ هماً آخر سوى الاهتمام بخلاصنا كما قال ربنا:
"
ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطي الإنسان فدية عن
نفسه ".
أيها الإخوة نحن تجار روحانيون فلنتشبه بالتجار العالميين، فالتاجر يحسب كل يوم
ربحه وخسارته، فإن خسر يحرص ويهتم كيف تُرد خسارته.
كذلك أنت أيها الحبيب في كل صباح ومساء وغدوه تأمل بمبالغة كيف تتجر تجارتك، وفي كل
عشية أدخل إلى قلبك، وتفكر وقل في ذاتك أتراني أغضبت اللـه في شيء، أو تكلمت كلمة
بطالة أو جدفت.
أتراني أغضبت أخي، أو اغتبت أحداً، أتراني تخيل ذهني الأمور التي في العالم، أم ترى
جاءت إلىَّ شهوة بشرية فقبلتها بتلذذ وانغلبت للهموم الأرضية أم خسرت في هذه
الدنيا.
فأحرص أن تترك هذه التأملات تَهذأ بك لئلا تخسر فى هذه، وإذا صار الصباح أدرس في
هذا وقل ترى كيف عبرت هذه الليلة أربحت فيها تجارتي أترى سهر عقلي مع جسمي، أدمعت
عيناي دموعاً في إحناء ركبتي، أو جاءت إليَّ أفكار خبيثة ودرستها بتلذذ.
فإن
إنغلبت في هذه فأحرص أن تشفيها، وأقم حافظاً في قلبك لئلا تصاب بِهذه نفسها.
إن
اهتممت هكذا فستسلم تجارتك وتصير مرضياً للـه، ولنفسك نافعاً. اصغ إلى ذاتك وأحذر
أن تدفع ذاتك إلى الونية والرقاد فإن ابتداء الهلاك تمرد النية.
تأمل النحلة وابصر سرها العجيب كيف تجمع صناعتها من أزهار الأرض المشتتة أنواعها
وتأمل ذميم قدرها فإنه لو اجتمع كافة حكماء الأرض وفلاسفة المسكونة لما قدروا أن
يلخصوا ويصفوا حكمتها.
إن
كيف تبني من الأزهار القبور وتدفن فيها أولادها وإذا أحيتها تأمرها بعد ذلك مثل أمر
رئيس القواد وتسمع كلها صوتِها وتتطاير فإذا تطايرت تعمل وتملأ تلك القبور أطعمة
حلاوتِها حتى أن كل فقيه يشاهد أتعابَها يمجد الإله الباري منذهلاً قائلاً: يا
لحكمة وهبت لطائر ذميم.
كذلك أنت يا حبيبي صر مثل تلك وأجمع من الكتب الإلهية غنى وكنزاً لا يسلب إلى
السماوات، لأن رؤساء الأرض إذا أراد أحدهم أن يسافر إلى بلدة بعيدة يرسل قدامه
غلمانه مع ثروته لكي يوافي إلى راحة معدة فيرتاح.
كذلك أنت أيها الحبيب أرسل غناءك إلى السماء لتُقبل في مساكن القديسين، ولا تتوانى
في هذا الزمان القصير لئلا تندم إلى الدهور التي لا انقضاء لها.
ألم
تسمع الرب يقول: سيكون لكم في العالم حزن.
وقال أيضاً: بصبركم تملكون أنفسكم.
فإن
كنت أنت برخاوتك وونيتك تشتاق أن تَهرب من حزن هذا الدهر ومن الصبر وتحب اللذة
البشرية فَلِمَ تسلب نير المسيح الصالح النفيس من أجل رخاوتك وتَهجوا بأنه صعبٌ
وثقيلٌ، ولا يمكن أن يُحمل، وتعطي ذاتك للهلاك.
من
ذا يرحمك وأنت تقتل نفسك، ومن يترأف عليك، لأنك قد أخذت أسلحة المسيح التي تحتاج أن
تحارب بِها العدو فأنفذت السيف في قلبك، فإن كنت تتباهى بِهذه الحياة فرجاؤك باطل،
وانتظارك فارغ.
ماذا يصلي فمك إلى اللـه؟ وما هي الوسيلة التي تطلبها منه؟ أَنياحة هذا الدهر، أو
الحياة التي لا تفنى ولا تشيخ.
إن
طلبت هذه الأشياء الوقتية والغير ثابتة فإن السارق والزاني أفضل منك، لأنَهما
يصليان ليخلصا ويطوباك لأنك سائر بِهذه السيرة بكذب، وأنت قلت أحببت النور وأبغضت
الظلمة وتركت ملكوت السماوات وتَهتم بالأمور الأرضية.
أحسبت يا شقي أن الإله الصالح المتعطف ينكر تعبك، وهو الذى منحك قوة ونعمة وخشوع
قلبك وهو يعطيك ثوابك، والأشياء كلها منه وأنت تتعظم، وهو يطالب بأجرة الأجير من
الذين ينكرونَها عليه.
أفينكر أجرة دموعك، وخشوعك ! حاشا لأن الذي قال: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم.
أيصير كاذباً حاشا، أذهب يا شقي مَنْ الذي حسدك، مَنْ الذي مكر عليك. أليس هو
المعاند المبغض الخبيث الذي يحرص ألا يجعل أحداً يبلغ إلى السماوات.
فمنذ الآن عد إلى ذاتك، ولا تمقت نفسك، أفتح عيني ذهنك وأبصر الذين معك كيف
يجاهدون، كيف يحرصون وهم ماسكون مصابيحهم، وفمهم يسبح ويمجد الختن الذي لا يموت،
وأعينهم تتأمل جماله، وأنفسهم نضرة بَهجة.
تأمل أنه قد قرب ولا يبطئ، لأنه سيجىء ويفرح الذين ينتظرونه، سيصير بغتة صوت ها هو
الختن آتٍ فيجئ الذين معك بفرح ومصابيحهم معهم مضيئة، وحللهم منيرة فإذا سمعوا صوته
القائل:
"
تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم ".
فبعد أن يصير الصوت تقول لهم: يا إخوتي هبوا لي زيتاً قليلاً لأن مصباحي ها هو
ينطفئ.
فتسمع منهم لعله لا يكفي لنا ولك، أمضي إلى الباعة وأشتري، فتمضي متندماً ومغموماً
ولا تجد ألبته زيتاً لتبتاعه، لأن الأرض كلها ترتعد كما يتموج ماء البحر من تجاه
مجده.
فتقول حينئذ منتحباً أمضي وأقرع ومن يعلم إن كان يفتح لي، فإذا مضيت لتقرع لا تجد
أحداً يجاوبك.
فتلبث تقرع أيضاً، فيجاوبك من داخل قائلاً: حقاً أقول لك أنني لست أعرفك من أنت
أنصرف عني يا عامل الإثم.
وفي
حال وقوفك هناك يأتي إلى أذنك صوت السرور والابتهاج، وتعرف صوت كل واحد من رفقائك،
فتتنهد وتقول: ويلي ويلي أنا الشقي كيف عدمت هذا المجد الذي لإخوتي واُنتزعت من
رفقتي الذين كنت طول زمان حياتي معهم والآن ميزت منهم.
أصابني هذا بواجب لأن أولئك كانوا يمسكون ويحتمون، وأنا كنت أجدف، أولئك كانوا
يرتلون، وأنا كنت أتفرج صامتاً، أولئك كانوا يحرصون في إحناء الركب، وأنا نائم،
أولئك كانوا يصلون، وأنا أتنزه. أولئك كانوا يواضعون ذواتِهم، وأنا أتكبر أولئك
كانوا يحتقرون ذواتِهم، وأنا أتزين.
لهذا الآن أولئك يسرون، وأنا أنتحب، أولئك يبتهجون، وأنا أبكي. فق إذاً أيها الشقي
قليلاً متأملاً محبة اللـه للناس التي لا تتجاوز نَهايتها، ولا تضجع في خلاصك،
أطلبه فيصبح لك سريعاً خلاصاً، وأستغث به فينصرك، أعطيه لتأخذ مائة ضعف.
وإذا كان الصك الذي لا نفس له يهتف بما مكتوب فيه بتأدية الديون فكم أولى بالإله
الصالح أكثر أن يعطي للذين يطلبونه نعمه المعهودة بالكتائب التي يتمنى أن تزداد
رباءً على رباءٍ، ونعمة اللـه الكثيرة تكثر أجرة صلواتنا وطلباتنا.
فلا
تضجع ولا يطرأ عليك الاهتمام بالأمور الأرضية، ولا تدفع ذاتك إلى اليأس، فإن اللـه
من أجل تحننه يقبلك وينصرك أنت وكافة الذين يبتغونه بكل قلوبِهم.
فتقدم إليه بلا خجل، وأسجد له بتنهد، أبكي وقل: " يا ربي ومخلصي لِمَ تركتني ترأف
عليَّ فانك أنت العطوف وحدك، خلصني أنا الخاطئ فإنك أنت الغير خاطئ وحدك لتنشلني من
حماة مآثمى لئلا أنغمس فيها إلى أبد الدهور.
أنقذني من فم العدو فإنه مثل سبع يزأر مريداً أن يبتلعني، أنْهض قوتك وهلمَ
لتخلصني، أبرق ببرقك وشتت اقتداره لينذهل ويهرب من أمام وجهك لأنه ضعيف عن الوقوف
أمامك، وأمام وجه الذين يحبونك، لأنه إذا رأى علامة نعمتك فيجزع منك ويتنحى عنهم
خازياً فالآن أيها السيد أعني فإني إليك لجأت ".
إن
ابتهلت إليه هكذا واستغثت به من كل قلبك للحين يرسل مثل أب صالح ومتحنن نعمته إلى
معونتك، ويكمل كافة مشيئتك.
يا
حبيبي نعم تقدم ولا تضجع، ولا تنظر إليَّ أنا الواني المضجع لأنه يخزيني خزي وجهي
إذ أقول ولا أعمل، وأعظ ولا أفهم.
لكن
صر مشابِهاً للأباء الكاملين الروحانيين وأتبع رسمهم، ولا تبتدئ بالأمور العالية
جداً التي تفوق قدرتك ولا يمكنك أن تتممها، ولا تبتدأ بالأفعال الحقيرة جداً ليكثر
توانيك.
ولا
تسمن جسدك لئلا يحاربك، ولا تعوده على اللذات البشرية لئلا يصير ثقلاً لنفسك
ويحدرها إلى أسفل أعماق الأرض، لأنك إن بذلت ذاتك لإكمال مشيئته فإنه سيترك الطريق
المستوية ويمشي في الهوة، ويقبل بسهولة كل فكر نجس، ولا يتعفف.
وإن
ضيقت عليه فوق المقدار وآلمته يصير ثقلاً لنفسك ويسودها ويشملها الكآبة والضجر.
وتصير سخوطة وعاجزة في دراسة التسبيح والصلاة والطاعة الشريفة، فدبر ذاتك بمقدار
جيد معتدل.
قل
لي أما رأيت قط موقف السباق؟ أو ما رأيت قط مركباً في البحر؟ لأن الخيل إذا لهدها
أحد بلا مقدار تخور من الجري، وإن رخا لها بلا مقدار تمد الركب وتطرحه.
وكذلك المركب في اللجة إن أُوسق فوق حد وسقه يمتلئ من الأمواج، ويغرق وإن سبح
مخففاً بلا وسق تقلبه الرياح سريعاً. نظير هذا المقياس النفس والجسد، إن ثُقلاَ بلا
مقدار بالأشياء المقدم ذكرها يسقطان، فلهذا جيداً أن تبتدئ، وتتمم وترضي اللـه،
وتنفع ذاتك وقريبك.
أنتم يا رعية المسيح المباركة، ونجوم المسكونة، وملح الأرض، أيها النساك الكاملون
والمحبون على الأرض السيرة الملائكية، إن تعبكم وقتي والمجازاة والمدائح أبدية،
وتعبكم يسير والنياحة والكمال بلا هرم.
وبمقدار ما تجاهدون بنشاط في تقويم الفضيلة بقدر ذلك يشتغل عدوكم غيظاً ويخبئ لكم
فخاخاً متلونة.
فأصغوا إذاً لذاتكم حذرين من مكامنه، لأنه خلواً من جهاد لا يكلل أحد، بل ونعمة
اللـه لا تتخلى عمن يحارب ويجاهد بنشاط.
فإن
أرخى أحد ذاته، وعجز أن يفتح فمه ويستدعى النعمة لنصرته ليجعل العلة ذاته لا النعمة
كأنه لم يعاين منها، لأنه يكون مثل واحد يديه صحيحتين وأمامه كثرة أطعمة موضوعة
فيعجز أن يمدها ويملأ ذاته من الخيرات المنصوبة لديه، فمن ذاته تكون خيبته وخسارته.
هكذا العابد الذى له تجربة النعمة والخبرة بِها فإذا توانى في الاستغاثة بِها
والتملي من حلاوة أطعمتها فهو يضر ذاته ولا يحس.
يشبه العابد جندياً برز إلى الحرب وقد دجج جسده من كل جهة بجملة أسلحة وهو متيقظ
إلى الغلبة ومجاهد لئلا يكسبه محاربه بغتة فإن وجد غير متحفظ فيأخذه، كذلك العابد
إن أضجع وتوانى يقتنصه عدوه بسهولة.
لأنه يخطر له أفكاراً نجسة فيقبلها بتلذذ، أعني أفكار استعلاء الرأي والسبح الباطل
والحسد والوقيعة ونَهم البطن، والنوم الذي لا يشبع منه، ومن هذه يقوده إلى اليأس
وأثرة المساوي.
وإن
كان مستفيقاً كل حين متيقظاً يجذب نعمة اللـه لمعونته ويتخذها ويعلم كيف يرضيه،
فيصير في ذاته ممدوحاً ومادحاً ويكون مثل إنسان ينظر في مرآة فيرى ويُرى.
كذلك النعمة أينما تجد راحة وتسكن في إنسان فتختبره وتختبر منه لأنه خلواً من
معونتها لا يقدر القلب أن يكتفي بذاته، ولا أن يمتلئ تخشعاً، ولا أن يعترف للسيد
كما ينبغي لكنه يبقى مسكيناً ومحتاجاً وفقيراً من الحسنات، وتسكن فيه الأفكار
النجسة والممقوتة كما يسكن البوم في الأماكن الخربة.
فإذا استدعاها " النعمة " إنسان لتجئ فتضئ ذهنه وتضطره ليقتنيها ساكنة معه، ومعينة
لذاته، فبها يقوم كل فضيلة، ويستضئ منها، فيستطيع أن يتأمل تكوُن الدهر المستأنف
وجمال صورته، لأنَها تصير له سوراً حصيناً، وتحفظه من هذا الدهر لحياة الدهر الآتي.
أصغ
إذاً مسامعك فأكن لك أيها الحبيب مشيراً صالحاً إن اشتهيت الحياة الخالدة، وتطويب
ربك، قل لي لِمَ تغسل وجهك بماء لترضي قريبك إنك ما نبذت آلام بشرتك بل أنت مستعبد
لها، إن أردت أن تغسل وجهك فأغسله بالدموع والبكاء ليشرق بمجد اللـه والملائكة
القديسين.
لأن
الوجه المغسول بالدموع هو جمال لا يضمر لكن لعلك تقول لي: إن وسخ وجهك يخجلك.
فأعلم إذاً أن وسخ رجليك ووجهك مع نقاوة قلبك يلمع أكثر من الشمس بين يدي اللـه
والقديسين.
ولِمَ تضحك بلا تحفظ ويسود عليك الضحك وقد أُمرت أن تنوح، من أين هذا؟ لأنك لا
تشتاق إلى تطويب الرب، ولا تخيفك تعاذيبه، فالمجرب يستطيع أن يعظ غير المجربين،
والتاجر الذي سقط بين اللصوص يأمر المسافرين بالتحفظ والتحرز.
فإذ
قد جربت أنا بجزء من التجربة أقول لفهمك لأنني تحرزت قليلاً، ومن أجل رخاوتي
أوقعتني الونية في الأمر نفسه، فلهذا أشير عليكم يا رعية المسيح المأثورة أن لا
تعدموا من أجل آلام الجسد ولذة العالم مجد اللـه، وتتغربوا من سرور الخدر الذي لا
تبلى بَهجته، عالماً أن تعب النسك هو مثل نوم وارد، ونياحة المكافأة هي لا تنقضي،
ولا تنعت.
فأصغِ إلى ذاتك لئلا توجد واقعاً من الحظين كلاهما وتؤدي طائلة عنهما جميعاً، لكن
أحرص أن تقتني الفضيلة التامة الموشاة بكافة المناقب التي يحبها اللـه، فإنك إن
اقتنيتها فلا تغيظ اللـه قط، ولا تعمل بقريبك سوءاً.
فهذه تدعى الفضيلة ذات النوع الواحد، وهي حاوية في ذاتِها جمالاً، وتكون كافة
الفضائل مثل تاج الملك، وهذه قد تكون غير تامة، وغير مختبرة إن كانت تنقص واحدة من
المقومات المحصورة في الفضيلة.
وتضاهي نسراً عظيماً طائراً في الأعالي فلما أبصر في الشرك طعاماً انحدر وأنقض عليه
بسرعة فإذ رامَ أن يختطف الصيد تعلق بطرف مخلبه.
وبذلك العضو الصغير رُبطت كافة قوته، وفيما هو يظن أن كافة جسمه معتوق وخارج من
الشرك فيجد بالحقيقة أن قوته كلها قد قيدها الشرك.
والفضيلة مثل هذا القياس إن رُبطت بأحد الأمور الأرضية تموت وتنقسم وتَهلك ولا
يمكنها أن ترتقي إلى العلو إذ قد سمرت بأمر أرضي وتقيدت به.
فمن
له دموع فليجئ وليبكِ، ومن لا يمكنه التخشع إذا عبر فليتنهد على هذه الفضيلة أنَها
بعد أن ارتقت إلى السماء وبلغت إلى أبواب الملك أنفسها لم تقدر أن تدخل.
كما
قلت أيها الحبيب أن قوماً قوموا هذه الفضيلة بربوات أتعاب ووشوها مثل تاج الملك،
فلما ارتبطوا بأمر أرضي هلكوا ووقفوا خارج المُلك السماوي.
فصن
ذاتك إذاً وأحذر أن تشتبك في شيء مثل هذا وتدفع ذاتك إلى العدو، وتحل الفضيلة
العجيبة التي اقتنيتها هكذا أو تنقضها بأتعاب مثل هذه جزيلة فتمنعها من الارتقاء
إلى السماء، وتقيمها أمام الخدر خازية، لكن أعطيها دالة أن تدخل بصوت عالٍ مبتهجةً
نائلةً ثوابِها.
يا
للعجب إن سبع يُربط بشعره ويجول إلى هنا وهناك، هكذا هذه الفضيلة إذا رُبِطت
باهتمام أرضي تتهرى إلى الأرض ويذل شرفها لأن هذه الفضيلة تُشَبه بالسبع.
فق
إذاً أيها الحبيب، وحرك ذاتك، وأقطع الشعرة الحقيرة كي لا يضحك عليك مثل ذلك القوي
الذي قتلَ بالفك في لحظة عين ألوفاً وحرر ذاته وقتل أعدائه ورد الظفر إلى اللـه
ونقلت طلبته ذلك الفك عيناً نابعاً.
فذلك الذي قوم مثل هذه المناقب قدر جسامتها سلم نفسه بانتزاع شعره بسفاهته إلى
الأعداء، وقيد قوته المرهوبة والعجيبة جداً.
فأنت الآن أصغ إلى ذاتك، ولا تربط مثل هذه الفضيلة بعمل ردىء ما أرضي بل حررها من
كافة الأشياء الضارة وجهزها إلى السماء.
ومثل غواص يغوص في العمق ليجد الدرة الجزيل ثمنها والشائع ذكرها إذا وجدها يصعدها
إلى أعلى المياه، ويثبت على الأرض عارياً ومعه ثروة جزيلة.
كذلك جرد ذاتك من كل أدناس العالم، وألبس هذه الفضيلة وتزين بِها وتيقظ نَهاراً
وليلاً لئلا تتعرى منها، فإن النفس التي اقتنتها لا يمكن أن يحيلها شيء ولا واحد من
الأسواء يغيرها، لا من جوع تتغير أو من عري أو ضجر أو مرض أو مسكنة أو اضطهاد ما أو
محبة أخرى كاذبة إذا كانت متيقظة.
فبمثل هذه المقدم ذكرها تنمو أكثر وتكلل، وتنجح لدى اللـه دائماً ويتباهى جمالها
فالموت نفسه لا يستطيع أن يشينها، وإذا خرجت من الجسم تقبلها مبتهجة الملائكة من
السماوات ويدخلونَها إلى أبي الأنوار. المجد والجلالة للإله المتعطف وحده.
صلاة
أتضرع إلى خيريتك أن تشفي كلوم نفسي وتضئ عيني ذهني لأتأمل تدبيرك فيَّ، وإذ قد
تسفه ذهني فليطيبه ملح نعمتك، ماذا أقول لك يا ذا العلم السابق، والفاحص القلوب
والكلى؟
أنت
وحدك تعلم أن نفسي كالأرض الفاقدة الماء، قد عطشت إليك وتاق إليك قلبي لأن الذي
يحبك حباً دائماً تشبعه نعمتك.
فكما سمعتني دائماً لا تعرض الآن عن وسيلتي فإن ذهني هو مثل أسير لك، وإياك يطلب.
أيها المخلص الحق أرسل إذاً نعمتك لكي إذا جاءت تشبع جوعي، وتروى عطشي إليك أشتاق
وأعطش يا نور الحق، وآتي بالخلاص أعطيني طلباتي وأقطر في قلبي نقطة واحدة من محبتك
لتتقد كاللـهيب في قلبي وتحرق أشواكه وقرطبه، أي الأفكار الخبيثة التي فيه.
بما
انك إله أعن الإنسان الحقير بسماحة ودعة وكثرة إحسان، لأنك أنت الصالح ابن الإله
الصالح.
وإن
كنت أنا خالفت وأخالف لأنني ترابي وابن ترابي لكن يا من ملأت الجرار من بركتك أرو
عطشي، يا من أشبعت الخمسة آلاف من خمسة خبزات أشبع جوعي.
أيها العطوف الصالح، يا من قبلت فلسي الأرملة ومدحتها أقبل طلبة عبدك، وامنحني
وسيلتي لأصير هيكلاً لنعمتك، وتسكن فيَّ وتكبح ذهني كبحاً كأنه بلجام لكي لا أضل
فأخطئ إليك وأخرج من نورك، بل أهلني أن أدعى وارثاً لملكك وأقدم غماراً موعبة
خشوعاً واعترافا بشفاعة كافة قديسيك، اسمع ابتهالي يا من لم تزل مباركاً من الكل.
آمين.
أطلب إليكم أن تستيقظوا في هذا الزمان القصير وتجاهدوا في هذه الساعة الحادية عشرة،
فإن المساء قد حان ومعطي الأجرة سيوافي بمجد ليقضي كل واحد نظير أعماله.
فأحذروا أن يتوانى أحدكم في تقويم الفضائل فيضيع منحة أجرة المخلص التي لا تحصى،
فإن العابد يضاهي حقلاً مزروع لفلاح وهو ينمو بالأمطار وبتخالف النداء، وحامل ثمر
السرور.
فإذا بلغ إلى أوان الثمر جعل الفلاح في اهتمام أكثر لئلا يفسده برد أو وحوش برية
إلى أن يصل إلى حصاد الغلة فينقل الفلاح إلى المخزن ثمر أراضيه فرحاً مسروراً
شاكراً للرب.
كذلك العابد ما دام في هذا الجسد ينبغي له أن يهتم من أجل الحياة الأبدية، ويتعب في
النسك إلى يومه الأخير لئلا يتوانى فيحاضر بلا فهم إلى أمر لا منفعة له فيه بل لكي
إذا أكمل سعيه يحمل إلى السماء مثل الفلاح ثمرات أتعابه جاعلاً بذلك للملائكة فرحاً
وسروراً.
فلا
يضجعنَّ أحدكم أو يدهش من التجارب، بل فليعضد القوي الضعيف وليعز النشيط الصغير
النفس، ولينهض المستفيق المضبوط بالنوم، وليعظ الثابت في ترتيبه من لا ترتيب له،
ولينتهر الممسك من لا تحفظ له ولا ترتيب.
وهكذا بالمسيح المخلص يؤازر كلنا بعضنا بعضاً، ونخزي العدو مصارعنا، ونمجد إلهنا،
ونسر الملائكة القديسين، وينتفع منفعة عظيمة الذين يبصروننا ويسمعون الأوصاف عنا.
لأن
عسكر الملائكة القديسين مثل جماعة العباد الذين ذهنهم شاخص إلى اللـه كل حين على
حالة واحدة.
ومجاوبة الأخ قريبه بمحبة مثل العسل والشهد في الفم.
وكمحل الماء البارد للعطشان في وقت الحر محل كلام التعزية عند الأخ في أوان حزنه.
وكما أن إعطاء أحد يده للواقع لينهضه، هكذا ينهض لفظ الوعظ وكلام الحق النفس
والوانية والسائمة. الزرع الجيد وحسن النمو في أرض سمينة كالأفكار الصالحة في نفس
العابد.
سد
وثيق في بناءٍ كطول الروح في قلبه أوان الترتيل، غرارة ملح على رجل ضعيف كالنوم وهم
العالم على العابد.
الأشواك وكثرة القرطب في زرع جيد كالأفكار الدنسة في نفسه، من به داء السرطان
ويداوى ولا ينال البرء كالحقد في نفس العابد، الدودة التي تنخر الخشبة وتفنيها
كالعداوة التي تبتلي قلبه.
السوس يقرض الثوب ويفسده والوقيعة تدنس نفسه، المتكبر والمتعظم كشجرة مرتفعة وبَهية
ولا ثمر فيها، الحسود المتنافس كثمر بَهي من ظاهره ومتهرئ باطنه، مجاوبته بغضب تزعج
ذهن قريبه كما يكدر عيناً صافية من يطرح حجراً فيها.
من
يقلع وينقل شجرة مثمرة يفسد ثمرها ويزيل ورقها كذلك من يترك موضعه وينتقل إلى مكان
آخر، بناء لا أساس له على صخرة كمن لا صبر له على الأحزان.
من
يتكلم في أوان الترتيل مثل إنسان واقف أمام الملك وهو يخاطبه فيناديه نظيره في
العبودية فيترك مخاطبة الملك العجيبة والشريفة ويفاوض نظيره في العبودية.
فلنفهم يا إخوتي أننا بين يدي من نحن ماثلون لأنه كما أن الملائكة واقفون برعب كثير
يقضون التسبيح للباري، هكذا يجب علينا نحن أن نقف بجهاد في أوان الترتيل، وأن لا
تكون أجسامنا واقفه وذهننا يتخيل ويتصور أمور العالم، فلنجمع أفكارنا ليكون لنا فخر
عند إلهنا ونصطبر على تجارب عدونا لنشرف.
فخر
العابد الصبر في الأحزان، فخر العابد طول الأناة مع المحبة، فخر العابد عدم القنية
وتواضع الرأي، والبساطة تشرف قدام اللـه والملائكة.
فخر
العابد السكوت والسهر بتخشع ودموع، فخر العابد أن يحب اللـه من كل قلبه وقريبه كما
يحب نفسه، فخر العابد مسك الأطعمة واللسان، وإذا وافقت أقواله أفعاله يقيم في موضعه
ولا ينتقل مثل صخرة تصدمها الرياح، ومثل مسمار في أمواج البحر.
ويلي يا أحبائي فإني قد صرت مثل منفاخ كور الحداد الذي يمتلئ ويتفرغ ولا يستفيد من
الرياح شيئاً لأنني سردت فضائل رعية المسيح ولا أعرف في ذاتي شيئاً منها المجد
لعظمته وصلاحه.
يا
إخوتي إن أقتنص أحدكم بالأفكار النجسة فلا يتوانى ويبذل ذاته لليأس بل فليكن قلبه
أمام اللـه وليتنهد بعبرات وليقل: يارب أنْهض وأصغ إلى حكمي يا إلهي وربي انظر إلى
طائلتي يارب دني كعدلك لأنني أنا صنعة يديك، فلِمَ أهملتني وأعرضت عني، لِمَ تصد
بوجهك عني وتنسى مذلتي لأن العدو قد أضطهد نفسي وأذل في الأرض حياتي وانغمست في
حمأة العمق وليس لي قيام فلتدركني نعمتك لئلا أهلك.
إن
داومت هكذا تستغيث به، للحين يرسل المحب الناس نعمته إلى قلبك ويعزيك من الحزن
المؤلم والمتعب.
فلا
نتوانى إذاً ولا نضجع إذ لنا سيد مثل هذا متحنن يترأف علينا ما دمنا هنا، ويخلصنا
ويغفر آثامنا، من لا يتعجب أنه بدموع ساعة قصيرة يخلص وأنه في هذه الساعة الحادية
عشرة نفسها يغفر هفوات عددها ربوات، وكذلك يشفي ربوات جراحاتنا.
وإذا شفى يعطي أيضاً أجرة الدموع لأن هذا هو المألوف من نعمته أنَها بعد أن تشفي
تضاعف الأجرة، فلنحرص أن نبرأ يا إخوتي هنا بترأف وترحم نعمته وهناك ليس كذلك.
هناك عدل وانتصار ومجازاة لكل المفعولات، هناك إبراهيم المتحنن ظهر غير متحنن على
الغني ولا رحوم، والذي تضرع من أجل أهل سدوم لم يتضرع من أجل خاطئ واحد ليرحم.
فلا
نربطن ذهننا بالأمور الأرضية لكن فلنحرص أن نصير نظير الآباء القديسين، ولا نخل منا
سيرتَهم لئلا نعدم شرفهم، فلنحرص أن نكلل مع التامين فإن لم نبلغ أن يكون حظنا مع
التامين فعلى الأقل أن نمدح مع الآخرين.
الطوبى لمن يجاهد أن يكلل مع التامين وشقي من لا يمدح مع الآخرين، مغبوط من يؤهل
للإكليل ولميراث القديسين وللصوت القائل:
"
تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعد لكم من قبل إنشاء العالم ".
يا
إخوتي أي اعتذار لنا إن توانينا الرجل العالمي ربما له عذر بأنه مرتبط بالعالم،
فنحن ماذا نقول؟
فأخشى أن يكون الذين يمدحوننا هنا يستهزئون بنا هناك. لا يحل لنا الرقاد واهتمام
العالم لئلا تمرمرنا النار الخالدة والدود الذي لا يرقد.
فلنفيقن قليلاً ونبكي لننجوا من النار الأبدية، آلا تصدقوا قول المخلص أن وروده
يكون كالبرق بغتة، فلنرهب من أن يدركنا بغتة ونحن غير مستعدين فتندم نفوسنا على
ونيتنا ولا ينفعنا ذلك شيئاً.
صدقوني يا إخوتي إن الساعة الأخيرة هي، احذروا أن يتم فينا قول النبي: ويل للذين
يشتاقون إلى يوم الرب. وأصغوا إلى ذواتكم حذرين أن نوجد مثل ذلك العبد الذي جاء
مولاه فوجده متنعماً فجعل حظه مع الكافرين وشطره نصفين، بل فلنطلب بوقاحة ولجاجة
لينقظنا من الظلمة وصرير الأسنان ويؤهلنا لملكه.
صلاة:
إليك أتضرع أيها المسيح مخلص العالم أنظر إليَّ وارحمني، ونجيني من كثرة مآثمي
فإنني قد أنكرت سائر الصالحات التي صنعتها معي منذ حداثتي لأنني كنت أمياً وللفهم
عادماً فجعلتني مملوءاً علماً وحكمة.
وتكاثرت عليَّ نعمتك فأشبعت جوعي وبردت عطشي وأضأت ذهني المظلم وجمعت من الضلال
أفكاري. فالآن أسجد وأتضرع إلى تعطفك الذي لا يوصف معترفاً بضعفي.
سكن
عني أمواج نعمتك وأحفظها لي في ذلك اليوم ولا تسخط عليَّ أيها الكلي الصلاح لأني لا
أحتمل فيضانَها، قد اجترأت على التهجم بِهداية صورة الآب وشعاع المجد الذي لا يوصف
ارحمني منها فإنِها كالنار تلهب كليتي وقلبي، أعطيني إياها هناك وحصلني في ملكك.
إذا
صنعة عندي منزلاً بظهورك مع أب صلاحك المبارك نعم أيها السيد الآتي بالحياة وحدك
أعطيني طلبتي وأحجب مآثمي عن معارفي ذاكراً عبراتي التي ذرفتها قدام شُهدائك
القديسين لتترأف عليَّ في تلك الساعة الرهيبة واسترني تحت أجنحة نعمتك.
نعم
أيها السيد أوضح فيَّ أنا الخاطئ تعطفك الذي لا ينطق به واجعلني لذلك اللص مشاركاً،
الذي صار بكلمة واحدة وارثاً للفردوس، وأدخلني إلى هناك حتى أبصر أين اختفى آدم
وأقرب لتعطفك مجداً لأنك استمعت لعبراتي وغفرت كافة آثامي.
ضع
عبراتي قدامك يارب كوعدك ليخز عدوي إذا رآني في صقع الحياة الذي أعددته لي رأفاتك
ويظلم خائباً إذا رآني فى الصقع الذي هيأته لي رافاتك من أجل تحننك.
نعم
يا سيدي غير الخاطئ وحدك والمتعطف أسكب عليَّ صلاحك الذي لا يوصف، أعطيني ولكافة
الذين يحبونك أن نسجد لمجدك في ملكك، وإذا تنعمنا بجمالك نقول:
المجد للآب الذي خلقنا، والمجد للابن الذي خلصنا
والمجد للروح الكلي قدسه الذي جددنا
إلى
كافة أبد الدهور
آمين |