يُقام الرعاة على رأس القطيع ويهبون الخراف طعام الحياة. مَن سهر وتعب من أجل
القطيع يهتم برعيته، وهو تلميذ راعينا الصالح الذي وهب ذاته من أجل الخراف. مَن لا
يقود القطيع حسناً، يُشبه الأجير الذي لا يهمّه الخراف (يو10).
فيا أيها الرعاة تشبّهوا بهؤلاء الرعاة الأبرار الأولين.
رعى يعقوب قطيع لابان وحرسه، وتعب وسهر فنال أجره. قال يعقوب للابان: "الآن عشرين
سنة أنا معك. نعاجك وعنازك لم تسقط. وكباش غنمك لم آكل. فريسة لم أحضر إليك. أنا
كنت أخسرها. من يدي كنت تطلبها. كنتُ في النهار يأكلني الحر، وفي الليل الجليد،
وطار نومي من عيني" (تك 31).
فيا أيها الرعاة، تأملوا هذا الراعي كيف يهتم برعيته. يبقى في الليل يقظاً يحرسه
ويسهر، ويتعب في النهار ليرعاه. كان يعقوب راعياً، ويوسف راعياً مع أخوته الرعاة،
وموسى راعياً، وداود راعياً، وعاموس راعياً. كلهم كانوا رعاة، رعوا القطيع وقادوه
القيادة الحسنة.
ولكن لماذا، يا عزيزي، بدأ هؤلاء الرعاة فرعوا الخراف ثم اختيروا ليرعوا
البشر؟ ليتعلموا كيف يهتم الراعي بخرافه ويسهر ويتعب من أجلها. وحين تعلموا أساليب
الرعاة اختيروا لتدبير الجماعة.
رعى يعقوب غنم لابان وتعب وسهر وقاد الخراف قيادة حسنة. ثم رعى أبناءه ودبرهم
حسناً، وعلمهم أصول الرعاية. ورعى يوسف الخراف مع إخوته، وفي مصر كان مدبراً لشعب
كثير، فقادهم كما يقود الراعي الصالح قطيعه. ورعى موسى غنم يثرون حميه، وأختير من
وراء الغنم ليرعى شعبه، ودبّر أمرهم كالراعي الصالح. أخذ موسى عصاه على كتفه وسار
على رأس شعبه يدبره. رعاهم أربعين سنة، وسهر وتعب من أجل غنمه كراع غيور وصالح.
وحين أراد ربه أن يمحوهم من أجل خطاياهم، لأنهم عبدوا العجل، صلّى موسى وطلب من
ربه، فقال: "أغفر لشعبك خطيئتهم وإلاّ فامحُني من سِفرك الذي كتبت" (خر 32).
هذا هو الراعي المجتهد الذي أسلم نفسه من أجل خرافه.
هذا هو المدبر المجيد الذي وهب نفسه من أجل خرافه.
هذا هو الأب الرحيم الذي يحتضن بنيه ويُربيهم.
وموسى العظيم والراعي الحكيم الذي يعرف أن يقود قطيعه، علّم يشوع بن نون، الرجل
الروحاني الذي دبَّر القطيع أي معسكر إسرائيل كله. فدمّر ملوكاً واستولى على أرضهم
وأعطى شعبه أرضاً يرعون فيها، وقسّم لخرافه الحظيرة والمربض.
ورعى داود غنم أبيه، ومن الخراف انتقل ليرعى شعبه. رعاهم بقلب كامل وتدبَّرهم بيد
فطنة. وحين أحصى داود خراف قطيعه، صعد عليهم غضب الرب وأخذوا يفنون. حينئذ سلّم
داود نفسه من أجل خرافه فصلى، وقال: "أيها الرب الإله، أنا أخطأت حين أحصيت
إسرائيل. لتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي. أما هذه الخراف البسيطة فبماذا أخطأت؟" (2 صم
24). فكل الرعاة المجتهدين يهبون هكذا نفوسهم من أجل خرافهم.
والرعاة الذين لم يهتموا بالخراف هم أجراء لا يرعون إلاّ أنفسهم. لهذا يدعوهم النبي
ويقول لهم: "أيها الرعاة، أنتم تبيدون وتبدّدون خراف رعيتي. إسمعوا كلمة الرب. هذا
ما قاله الرب: ها أنا أفتقد غنمي كما يفتقد الراعي قطيعه في يوم عاصف، وأطلب خرافي
من أيديكم.
"أيها الرعاة الجهال، تلبسون صوف الغنم، وتأكلون لحم السمان، ولا ترعون الغنم. لم
تداووا النعجة المريضة، ولم تعصبوا المكسورة، ولم تقووا الضعيفة، ولم تجمعوا الضالة
والمشتّتة. لم تحرسوا القويّات السمينات بل تسلطتم عليها بالعنف. ترعون أنتم في
مرعى صالح، وما فضل تدوسونه بأرجلكم. تشربون المياة العذبة وما فضل تعكرونه
بأقدامكم. فرعى غنمي ما داسته أرجلكم وشرب المياة التي عكرّتها أقدامكم" (حز 34).
هؤلاء هم الرعاة الجشعون والسافلون والأجراء الذين لا يرعون القطيع ويدبّرون أموره
حسناً ولا ينقذونه من الذئاب. فحين يأتي الراعي العظيم، يدعو رئيس الرعاة، ويزور
خرافه ويتفقّد قطيعه، ويأتي بهؤلاء الرعاة ويحاسبهم فيحكم عليهم بسبب أعمالهم.
والذين رعوا الغنم الرعاية الحسنة يُفرحهم رئيس الرعاة ويورثهم الحياة والراحة.
فيا أيّها الراعي البليد والجاهل. تركت غنمي في يدك اليمنى وبحراسه عينك اليمنى.
ولكنك قلت على هذه الخراف: "لتَمُت النعجة التي يجب أن تموت. ولتبد تلك التي يجب أن
تبيد، والتي تبقى تأكل لحم رفيقاتها" (زك 11: 9). "من أجل هذا أنا أعمي عينك اليمنى
وأيبس ذراعك الأيمن. عينك التي نظرت الهدايا ستعمى، ويدك التي لم تتصرف بعدل
ستُقطع" (زك 11: 17). وغنمي غنم مرعاي، أنتم أيها البشر، وأنا الرب إلهكم (حز 34:
31). من الآن أرعاكم في مرعى صالح ودسم.
"الراعي الصالح يبذل نفسه عن خرافه" (يو 10). وقال أيضاً: "لي خراف أخر ليست من هذه
الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضاً، فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراعِ واحد. لهذا
يحبني الآب لأني أضع نفسي من أجل الخراف" (يو 10). ثم قال: "أنا هو باب الخراف، كل
من يدخل بي يحيا، فيدخل ويخرج ويجد مرعى".
أيها الرعاة، تشبّهوا بهذا الراعي المتيقّظ، رأس كل الرعية، وتأملوا كم اهتّم
بالقطيع. قرَّب البعيدين وأعاد الضالين، وزار المرضى وقوّى الضعفاء، وعصب المكسورين
وحفظ السمان. أسلم نفسه من أجل قطيعه واختار رعاة مجيدين وعلمهم وسلّم الخراف إلى
أيديهم وسلطهم على كل رعيته. قال لسمعان بطرس: إرعَ خرافي، حملاني، نِعاجي. فرعى
سمعان خرافه، ولما تمّ زمانه أسلم الرعية ومضى.
فارعوها أنتم ودبروها حسناً. فالراعي الذي يهتم بخرافه لا يعمل عملاً آخر، فلا يجعل
له كرماً ولا ينصب جنائن، لئلا يقع في هموم هذا العالم.
هل
رأيتم راعياً يترك خرافه في البرية ويذهب إلى التجارة، أو يترك قطيعه يضل ليكون
فلاحاً؟ فإن ترك قطيعه وعمل هذه الأعمال، يكون كمن سلّم رعيته للذئاب.
تذكر يا عزيزي أني كتبت لك عن آبائنا الأولين الذين تعلموا كيف يرعون الغنم،
فاقتنوا خبرة في هذه العناية. إختيروا لتدبير البشر، لأنهم تعلموا كيف يهتم الراعي
برعيته. وكما دبّروا الخراف باجتهاد هكذا يكمّلون هذا التدبير.
إختار الله يوسف من وراء الغنم ليدبّر المصريين في وقت الضيق. واختار موسى من وراء
الغنم ليدبر شعبه ويرعاهم. وأخذ داود من وراء الغنم ليكون ملكاً على إسرائيل. وأخذ
الرب عاموس من وراء القطيع وجعله نبياً على شعبه. وأخذ أليشع من وراء المحراث ليكون
نبياً في إسرائيل.
ما
عاد موسى إلى غنمه ولا ترك رعيته التي سلّمت إليه. وما عاد داود إلى غنم أبيه بل
دبّر شعبه بكمال قلبه. وما عاد عاموس ليرعى القطيع ويلتقط الحطب، لكنه اهتمّ
بنبوءته وأتمّها. وما عاد أليشع إلى محراثه بل خدم إيليا ثم حل محله. والراعي الذي
كان له المقتنيات، والذي أحبّ الضيع والتجارة والكرم والزيتون والعمل، لم يُرده له
تلميذاً، ولا سلّم رعيته إلى يديه.
أسألكم أيها الرعاة، أن لا تُقيموا في الرعية رعاة جهالاً وبلداء وطماعين ومحبين
للمقتنيات. كل من يرعى الخراف يأكل من لبنها، ومن يقود المحراث يستفيد من عمله.
ويجب على الكهنة أن يقاسموا المذبح، واللاويين أن يأخذوا العشور. مَن يأكل من اللبن
يكون قلبه على رعيته، مَن يستفيد من عمل المحراث يكون متيقظاً في الفلاحة. والكهنة
الذين يُقاسمون المذبح يخدمون المذبح بالبهجة، واللاويّون يأخذون العشور، لأن ليس
لهم حصة في إسرائيل.
فيا أيها الرعاة، تلاميذ راعينا العظيم، لا تتشبهوا بالأجراء، لأن الأجير لا يهتم
بالخراف. بل تشبّهوا براعينا الحلو الذي لم يحب نفسه أكثر من خرافه. ربّوا الشبان،
هذبوا العذارى، أحبوا الخراف وربوها في أحضانكم. حتى ما أتيتم إلى رئيس الرعاة،
تقرّبون إليه خرافكم كلها كاملة، فيعطيكم ما وعد به: "حيث أكون أنا تكونون أنتم
أيضاً" (يو 12). |