قدمنا في مقالة "يسوع
والصلاة" ملخصًا مبسطًا عن تعليم يسوع حول الصلاة وعن عيشه له. نتطرق في هذه
المقالة إلى بعض المفاهيم الخاطئة التي تبعدنا عن حقيقة الصلاة وعن قوتها المحولة.
الأفكار التالية هي بعض من الكثير من أشكال الصلاة "العليلة" أو غير الكاملة،
نستعرضها الآن لقناعتنا بأن في الحياة الروحية العدو الألد هو العدو المجهول، وأن
"تسمية" الأمور، بحسب المفهوم البيبلي، هو أيضًا حيازة السلطان عليها. فلنستطلع
سوية خمسة ألغام حقل الصلاة التي تعيق تقدمنا في مسيرتنا مع الرب، نحوه وفيه.
1) الصلاة الواجب: إن
أحد المفاهيم الخاطئة في الصلاة هي عيش الصلاة كواجب. وسوء الفهم هذا ينشأ عن إدراك
مغلوط لوصايا الرب وتحريضات المعلمين الروحين: "صلوا في كل حين"، "صلوا ولا تملوا".
يتردد صدى هذه الكلمات في صميم نفوسنا فيتحول إلى واجب دخيل وعارض (extrinsic)،
ورويدًا رويدًا يضحي الواجب عبئًا أوتوماتيكيًا يغطيه غبار العادة والرتابة. عندما
تفرض الأمور، حتى الجميل والمحبب منها، تضحي عبئًا، خصوصًا في زمن يعاني من مشاكل
عميقة نحو الطاعة والانقياد. عيش الصلاة كواجب هو قتل للصلاة، سوء فهم لكنهها،
انسلاب (alienation) للمصلي، وتغييب للمصلَّى إليه.
ولكن من ناحية أخرى أن نقول أن الصلاة واجب لسنا في خطأ مطلق. فالصلاة واجب، نعم،
ولكن بأي معنى؟ لا بمعنى أن الله يحتاج إلى ثرثرتنا، وإلى مواساتنا. يمكننا أن نقول
بطريقة ساخرة: "الحمد لله أن الله ليس وحيدًا بل هو ثالوث، ولذا ليس بحاجة إلى
رفقتنا لكي يواسي وحشة أزليته!!".
وعليه، إذا لم تكن الصلاة واجبًا نحو الله بالمعنى المطلق، ما هو المعنى الصحيح
لهذا الواجب؟ يمكننا أن نقول أن الصلاة واجب بمعنى أنها حاجة صميمية (intrinsic)
وجوهرية لكياننا. أنا أصلي إذًا أنا موجود. فالصلاة هي الجواب الأسمى للدعوة إلى
الوجود: الصلاة هي نَعَمنا على نَعَم الله: أنا موجود لأن الله قال "نعم" لوجودي،
والصلاة هي "نَعَم" ـي لدعوة الله لي إلى الوجود. الصلاة هي مبادلة قبلة المحبة
التي يطبعها الله في صميم كياني بالروح القدس. هذه الحاجة الصميمية هي واجب كما أن
الحب واجب بين المحبين، وكما أن العرفان واجب من الابن نحو أبيه.
نلاحظ فورًا أن كلمة واجب لا تنطبق بطريقة مطلقة على الحب بين الأب وابنه، بل
بطريقة تشابهية (analogic). ويحسن القول هانس أورس فون بالتازار عندما يقول: الحب
لا يعرف الواجب، فالحب يحول الواجب إلى قوة وقدرة؛ لا يجب علي أن أحبك، فحبي لك هو
قوة تحرك كياني، لا واجب يثقل كاهلي. وعليه القول بأن "الصلاة واجب" هو صحيح فقط
عندما نفهم أنها واجب تمامًا كما أن "التنفس واجب"، وأن "حب المحبوب واجب". بهذا
المعنى يقول بولس الرسول: "إن محبة المسيح تضطرنا!" ويردد: "أنا بولس أسير يسوع
المسيح"، أي أسير محبته. سنشرح في مقالة لاحقة أن إدراك هذه المحبة بشكل عميق
وملموس هو من ركائز الصلاة الأساسية بحسب تعليم المعلمين الروحيين.
2) صلاة الثرثرة:
مفهوم خاطئ آخر للصلاة هو صلاة الثرثرة. هي الصلاة المونولوج (monologue). حيث
المتكلم الوحيد هو أنا. يوضح ميشال كواست هذه الصلاة في مناجاة يشبه فيها الصلاة
إلى مكالمة تلفونية حيث يرفع الإنسان السماعة ويبدأ بالكلام مع الله دون هوادة، ثم
ينهي المكالمة قبل أن يكون قد أفسح المجال لله لكي يقول ما عنده. إنها فهم خاطئ
للصلاة، لأن هذه الأخير هي حوار (dialogue)، والحوار بطبيعته يتضمن الكلمة
والإصغاء. بل إن أحد القديسين كان يقول: لقد أعطاك الله أذنين وفم واحد، لكي تسمع
ضعف ما تتكلم.
إلى جانب الخطأ في "المنهج" المعروض أعلاه، يخفي هذا النوع من الصلاة مفهومًا
مغلوطًا عن الله، لأنها تعتبر وكأن الله يستجيب بقدر ما "نزعجه" ونلج عليه! هذا
النوع من الصلاة يقارب إلى حد ما الخرافة (superstition)، ويسوع نفسه نسب عقلية
الصلاة هذه إلى الوثنين: "وإذا صليتم فلا تكرروا الكلام عبثا مثل الوثنيين، فهم
يظنون أنهم إذا أكثروا الكلام يستجاب لهم" ويحض يسوع تلاميذه على عدم التشبه
بالوثنيين، وذلك لسبب واضح، وهو أن الله آب، لا قاضٍ ظالم: "فلا تتشبهوا بهم، لأن
أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (متى 6: 7-8).
3) الصلاة المشتتة:
إنها الصلاة التي أريد فيها أن يسمعني الله في الوقت الذي أنا لا أسمع نفسي! هناك
علاقة أخوة وتناسل بين صلاة الثرثرة والصلاة المشتتة فالواحدة تولد الأخرى وتتغذى
منها وتمشي يدًا بيد معها. غالبًا ما يتألف هذا النوع من الصلاة من متكلم واحد لا
يسمع ما يقول هو بالذات! فالثرثرة تضحي تعبيرًا عن ضجيج باطني لا يصغي حتى إلى
الخرير العميق في صلب كيان "المصلي". وعليه إذا ما لاحظنا أننا نعيش هذا النوع من
الصلاة بشكل مرضي، يجب أن نصغي بشكل أفضل إلى كياننا، لندرك أننا نعاني في المقام
الأول من صعوبة في الإصغاء إلى كياننا الداخلي، وعدم الإصغاء في الصلاة – وفي
الحياة العائلة والاجتماعية – هو صدى لعدم الإصغاء لكياننا الداخلي.
الصلاة المشتتة هي ثمرة حياة مشتتة. لا يمكنني أن أطلب من فكري أن يركز في خمسة
دقائق بينما أتركه كل النهار تائهًا وهائمًا في الأباطيل. لذا ينصح معلمو الحياة
الروحية إلى جانب "الاستعداد القريب" للصلاة، أي الاستعداد الذي يسبق الوقت الذي
أكرسه لعيش الصلاة، "استعدادًا بعيدًا" يمتد مدى النهار وفي الحياة، استعدادًا
يجعلني دومًا في استعداد قلبي للدخول في حضرة الله.
4) الصلاة المنفصمة:
هي صلاة تعبر عن انقسام وفصام (schizophrenic) لا في الشخصية بل في الوجود. هي صلاة
باتت اعتيادية، ولم يعد لها أي تأثير في حياتي ووجودي. ففي وقت الصلاة أعيش شخصية
وهمية مُحِبّة في حضرة الله، أحاول أن أغش من "لا يَغِش ولا يُغَش" (القديس
أغسطينوس). هذه الصلاة تفتقر إلى إحدى دعائم الصلاة المهمة – الحقيقة (كما سنرى في
مقالات لاحقة) – ولذا فهي تبني حياة روحية بلا أساس، نظن فيها أنه من خلال تكميل
"واجب الصلاة" (وهو مفهوم سابق كما رأينا أعلاه) سددنا ديننا اليومي مع الرب، وحزنا
على تفويض مطلق لكي نستبد بالآخرين، وننتهك حقوق القريب، ونستهتر بواجباتنا. إن هذا
النوع من العيش، إضافة إلى الضرر الذي يتسببه نحو من يعيش بهذا الشكل، يضرر ويشكك
من يرى في هذا الشخص في نفس الوقت المصلي، ومن يعيش بطريقة لا تتطابق مع تعاليم
الإنجيل. نحن بصدد تشكيك الصغار الذي يحذر منه يسوع.
5) صلاة الهروب: نتحدث
أخيرًا عن نوع آخر شائع، لا من أساليب الصلاة، بل من مفاهيمها. فهم الصلاة كوسيلة
شرعية – وذريعة حميدة! – للهروب من مواجهة العيش ومسؤولياته. إنه موقف يناهض مفهوم
التجسد الذي ليس هربًا من العالم بل عيشًا مسؤولاً له. المسيح جاء لخلاص العالم لا
للخلاص من العالم، والصلاة المسيحية هي صلاة تعتنق دينامية التجسد التي هي دينامية
التزام وتحويل.
نكتفي بهذا المقام
بتعداد هذه الأشكال الخاطئة علمًا منا بأن هناك الكثير من الممارسات المغلوطة لخبرة
الصلاة. |