1- المسيح قال: "أنا نور العالم".
لأنه ابن الله، "نور من نور" ، فكل نور الله قد ظهر في شخصه. بيسوع المسيح لم نعد
حاصلين على انعكاسات لنور الله في الضمير والعقل وفي الشريعة وأقوال الأنبياء فحسب
بل قد ألقي نور الله كله بيننا ووضع في متناولنا.
وهذا النور يعني الشيء الكثير، يعني
الجواب على تساؤلات الإنسان حول معنى وجوده، معنى حياته وموته، معنى وجود الآخرين
إلى جانبه. ولكنه ليس نورًا للعقل وحسب يكشف له غوامض الأمور، بل كما أن النور ليس
فقط ينير الطريق ولكنه يبهج القلب أيضًا وينعشه، هكذا نور المسيح يخرجنا من "الظلمة
الخارجية" التي يتكلم عنها الإنجيل، أي ظلمة عزلتنا عن الله وعن بعضنا البعض وعن
أنفسنا، تلك العزلة المريرة التي هي الجحيم بعينه. نور المسيح ليس فقط ينير العقل
ولكنه يحوّل القلب فيبث فيه حياة الله عينها جاعلاً إياه في ألفة مع الله ومع
الآخرين وفي سلام مع نفسه، وينشر فيه الطمأنينة والفرح. النور المادي يحمل قوة
الشمس التي تحيي الخلائق، وهكذا نور المسيح، "شمس العدل"، هو نور الحياة، يحيينا
ويبهجنا ويوقظ فينا كل خير "لأن ثمر النور لفي كل صلاح وبر وحق" (أفسس 5: 8و9).
2- ولكن هذا النور، بما أنه يتغلغل
إلى القلوب، فإنه ليس فقط يحييها بل يجعلها أيضًا بدورها نيرة. المسيح هو ينبوع
الماء الحي، ولكنه وعد أن كل من يؤمن به تجري من قلبه أنهار ماء حي، أي أن المؤمن
بيسوع يصبح بدوره ينبوعًا. كذلك المسيح هو نور العالم الأوحد، إلا أنه إذا سكن فينا
بالروح القدس، فإنه يجعلنا أنوارًا بدورنا على حد قوله: "أنتم نور العالم". ليس أن
هذا النور هو منا، بل من الذي يتحد ذاته بنا حتى أنه يمكننا أن نقول: "لست أنا أحيا
بل المسيح يحيا فيّ". المسيح يحيا فيّ، إذًا هو يضيء فيّ. إنني حامل لنوره, هذا
النور الذي تجلى حسيًا على جبل ثابور، هذا النور غير المخلوق كما علّم القديس
غريغوريوس بالاماس، يشرق في قلوبنا ويشع منا إذا كنا حاوين المسيح فينا، لأن الإله
الذي قال: "ليشرق من الظلمة نور"، هو الذي أشرق في قلوبنا (2 كورنثوس 4: 6).
3- عندما يقول المسيح لنا: "أنتم
نور العالم"، فكأنه يقول إذًا: "إنني الآن بكم أضيء الكون، بكم أجيب الإنسان على
تساؤلاته القلقة، بكم أبهج قلبه، بكم أجعل فيه حياة الله، بكم أوقظ فيه الحب وأشده
به إلى إخوته بكم أخرجه من عزلته وأجعله في شركة مع الله ومع الناس.
4- ولكن كيف نحوي نور اللاهوت فينا؟
كيف نتجلى نحن حتى نشع؟ التجلي مرتبط بالصليب. عندما تجلى الرب على جبل ثابور "فصار
وجهه مشرقًا كالشمس وثيابه بيضاء كالنور" كان يتحدث، كما يروي لنا الانجيلي، مع
موسى وإيليا، عن "خروجه" الذي كان مزمعًا أن يتممه في أورشليم، أي عن الموت الطوعي
الذي به كان مزمعًا أن يتخلى كليًا عن ذاته محبة للآب ولنا. إن نور اللاهوت فاض على
إنسانية المسيح كلها وأقامها من بين الأموات وأصعدها إلى السماوات عندما أعطت هذه
الإنسانية ذاتها بالكلية "فصارت طائعة حتى الموت، موت الصليب". نحن أيضًا إذا
ارتضينا أن نشارك الرب صليبه، أي أن نتخلى عن عبادة الأنا ونسلم ذواتنا لله من خلال
انفتاحها للآخرين، فعندئذ، بالصليب، نلاقي الرب ويفيض فينا النور الذي فاض على
إنسانيته ومنها يتدفق إلى الأبد. الكنيسة تنشد:
"لك نسجد أيها الرب المصلوب،
فليرتسم علينا نور وجهك".
إننا إذا سجدنا للرب المصلوب – وهذا
السجود لا يكون إلا بالروح والحق أي بالاشتراك الصميمي في صليبه - فسيرتسم علينا
نور وجهه – أي نور شخصه (لأن الوجه يعبّر عن الشخص) – ومِنّا يشع للناس.
5- ولكن هذا لن يتم إلا جزئيًا قبل
اللقاء التام بالمحبوب. فإننا في هذه الحياة نبقى إلى حد بعيد "متغربين عن الرب"
على حد قول الرسول (2 كور 5: 6)، ونور الرب يبقى فينا حتى آخر نسمة من حياتنا في
صراع مع الظلمات. لا يمكننا في هذه الحياة أن "نصنع مظالاً" كما كان يحلم بطرس
ونستقر متمتعين بنور حصلنا نهائيًا عليه، لأننا هنا في صيرورة وسعي دائمين. لقد
أعطينا طاقة بأن نكون أنوارًا ولكن هذه الطاقة لا تتحقق فينا إلا بجهاد مرير لا
ينقطع حتى الموت، هكذا ندرك بأن النور الذي فينا ليس منا، وأنه بالتالي ليس لنا
موضوع افتخار بل موضوع شكر: "إلا أن هذا الكنز نحمله في آنية خزفية (أي ضعيفة) لكي
يتضح أن هذه القدرة الفياضة هي لله وليست منا" (2كور 4: 7).
6- الرب يعرف ضعفنا ويقبلنا كما
نحن. كما نحن يريدنا أن نكون أنواره في العالم وسفراءه الذين بهم يعظ ويعزي ويشدّد
ويشفي ويحرر وينير. إن تراجعنا بسبب الضعف الذي نراه فينا، فهذا قد يعني أننا كنا
نضع ثقتنا بأنفسنا لا بالذي دائمًا وأبدًا يجنّحنا ويجعلنا فوق ضعفنا إن شئنا أن
نكون له طيّعين. المطلوب منا أن لا نستسلم للضعف بل أن تكون دائمًا "أحقاؤنا
مشدودة"، منتظرين الرب، لأنه دومًا قريب، قريب من ضعفنا ليحوله قوة ومن ظلمتنا
ليحولها نورًا. المطلوب منا أن نعيش على الرجاء "حائرين، ولكن على غير يأس ...
مطروحين، ولكن على غير تلاش" (2كور 4: 8)، ان نجاهد على هذا الرجاء الذي لا يخزي
لأنه رجاء بالرب الذي يحيي الموتى. المطلوب منا أن لا نضع النور الذي فينا "تحت
المكيال" وإن شعرنا بأن خطايانا الكثيرة تحجبه، أي أن لا ننقطع عن الشهادة للمسيح
في البيئة التي وضعنا الله فيها وفي هذه الحركة التي هيئها لنا، وإن كنا نشعر
شعورًا مريرًا بضعفنا وسقطاتنا. فالنور الذي فينا ليس ملكًا لنا نتصرف به كما نشاء.
لا يجوز لنا أن نخفيه عن الآخرين خوفًا من أن يفضح أمامهم عيوبنا. لقد وُجد فينا
لكي يشع ويعطى، إنه "نور العالم" ويجب أن يضيء "أمام الناس". وجدنا لنتاجر بالوزنات
ولو لم يكن لدينا سوى وزنة واحدة. ولكنني أذهب إلى أبعد من هذا وأقول إن النور لن
يثبت فينا ولن يشتد إلا إذا أُعطي. لأن من يعطي يحب، وإذا أحببنا الآخرين إلى حد
إعطائهم ذلك النزر اليسير من النور الذي فينا، فعندئذ "تتسع قلوبنا" على حد تعبير
الرسول (2كور 6: 13) وتتزعزع فينا صنمية الأنا وبالتالي يشتد فينا نور الرب ويطرد
ظلماتنا ويخلّص بنا الكثيرين. |