معنى
كلمة (روحي):
ان موضوع اللاهوت الروحي هو عمل الروح القدس في البشر والعالم فعلينا ان نفهم لفظ
(روحاني) نسبة الى الروح القدس بالدرجة الأولى .
فيجب الحذر إذن من العادة التي تجعلنا ننسب صفة (روحي) الى الفعاليات التي تخص
الجزء الأعمق من الأنسان فحسب: كالرياضات الروحية المخصصة للتأمل ومراجعة الحياة أو
الصلاة والأشتراك في القداس... الخ. ذلك لأن تأثير الروح القدس مدعو الى الانتشار
في كيان الأنسان كله والى تقديس حياته كلها.
يبدو أن هذا المعنى الحصري لكلمة (روحي) له علاقة مع الأستعمال لكلمة (روحي) الذي
ورثناهُ من الفلسفة اليونانية حيث يسمى روحياً ما هو ليس ليس مادياً. فبهذا المعنى
يقال عن نفس الإنسان انها روحية لأنها ليست مادية مثل الجسد .
لن نستعمل نحن كلمة (روحي) بمثل هذا المعنى بل بمعنى هذا اللفظ كما ياتي في الكتاب
المقدس بالدرجة الأولى . حيث ترى القديس بولس مثلاً يتكلم عن "جسد نفساني" وعن "
جسد روحي" (1 كور 15: 44)، مما يُخالف بوضوح الاستعمال الفلسفي العادي لهذه
الالفاظ.
توضيحات في معاني عبارات الروح والقلب والنفس والجسد
فيبدو من المفيد في بداية هذه السلسلة من الدراسات الروحانية أن نوضح المعاني التي
سنعطيها لبعض العبارات ذات الأهمية الأساسية كالروح (روح الأنسان) والقلب والنفس
والجسد. اننا سنستعمل هذه الكلمات بمعاني قريبة جداً من معانيها في الكتاب المقدس.
يبدو من جهة أخرى ان هذه المعاني تتفق مع بعض اتجاهات علم النفس العصري.
روح الأنسان
1) في الكتاب المقدس:
• يعني هذا اللفظ بمعناه الأصلي "الريح" وبالتالي نفث الأنسان، الذي يشهد انه حيٌ
والذي يأتي من الله ويعود إليهِ عند وفاة الأنسان.
•إنه يشير ايضاً الى شخصية الأنسان كلها أو الى أعمق سِر هذهِ الشخصية .
• الروح هو مبدأُ معرفة الأنسان لِذاتِهِ " من ذا الذي يعرفُ أسرار الأنسان غير
الروح الذي في الأنسان؟ (1 كور 2 : 11).
•لقد شبه المسيح الروح (الآتي من الله) بالريح بأعتبارها حقيقة دينامية، غير
منظورة وذات حرية خاصة (يو 3 : 8).
• يتكلم الكتاب المقدس عن روح الله بمقدار ما يتكلم عن روح الأنسان تقريباً. مما
يجعل لفظ (روح الأنسان) يشير بصورة خاصة الى علاقة الأنسان مع الله. وفعلا فأن روح
الأنسان هو نقطة الأرتباط لعمل روح الله فيهِ. (رومة 8 :16).
2) عند علم النفس التحليلي (راجع مفهوم الذات (SELBST) أي وجه النفس الأعمق، ذو بعد
كوني سرّي).
3) وراجع عند (TEILHARD DE LHARDIN) التمييز بين الشعور البسيط والشعور الأنعكاسي
(أي الأحساس بالذات بما هي "أنا".
بلفظ (الروح) سنعني إذاً:
• شخصية الأنسان العميقة .
• القوة التي يملكها الأنسان لأن يتجاوز نفسهُ ليعرف ذاتَهُ ويحكم على نفسهُ .
• القوة لأن يدخل الأنسان بعلاقة مع ما هو متسامِ ومع الله خاصةً .
• مبدأ الأختيارات الأساسية الحرة التي توجه الحياة كلها.
القلب
1) في الكتاب المقدس:
• أحياناً: العضو الجسدي
• عادةً: مركز الفهم والأرادة والانفعالات
• يشير أيضاً هذا اللفظ الى الشخص ذاتهُ من جهة باطنيتهُ وبإعتبارهِ قادراً على
التأمل والقرارات الحاسِمة .
• مركز الأيمان (مر 11: 23، رومة 10: 8-10) ويسكن فيهِ الروح القدس (2 كور 1: 22)
والمسيح (1 أف 3: 17).
2) هناك تشابه بين مفهوم الضمير (الخلقي) وبعض اوجه مفهوم القلب في الكتاب المقدس.
3) في علم النفس التحليلي: راجع مفهوم اللاشعور ونقطة إنبثاقَهُ على صعيد الشعور.
ملاحظة: هناك علاقات دقيقة بين القلب والروح. فالقلب هو كأنه المكان، والروح هو مثل
العنصر الفعال في هذا المكان: "ما أعجب الأنسان! فأنه خاضعٌ للتحديد والكمية ولكن
مكان قلبهِ هو دون حدود! وكلما دخلهُ الروح أصبح القلبُ أوسع أمامَهُ! (يوسف
حزايا).
النفس
1) في الكتاب المقدس:
• حسب المعنى الأصلي لهذا اللفظ: النفخة التي تحيي الكائن الحي، التنفس .
• وبمعنى اوسع يشير هذا اللفظ الى الأنسان كله مع التركيز على قدرتهُ الحيوية
وعواطفهِ ورغباتهِ.
• ومع ذلك تشير هذه الكلمة الى الأنسان في حالةِ الحاجة أو حتى الضعف. بينما كانت
كلمة (الروح) تشير الى قوتهِ.
• تشير أيضاً كلمة النفس الى الشخص ذاتَهُ بأعتبارهِ يستعمل (قواها النفسية)،
كالعقل والارادة والقدرة على الفعل.
ملاحظة: لا توجد في الكتاب المقدس فكرة قابليةِ النفس على وجودٍ مُستقل عن وجود
الجسد (كما في الفلسفة اليونانية).
2) في علم النفس التحليلي: النشاط النفسي الواعي. والـ (أنا) تمييزاً من الذات .
سنستعمل لفظ النفس لنُشير الى النشاط الواعي للقوى النفسية الأساسية (العقل
والأرادة والذاكرة). وطِبقاً لهذا المعنى فأن الجزء الشعوري لِلروح هو أيضاً الجزء
الأعمق للنفس.
الجسد
1) في العهد القديم، جسد = (بِسرا).
• الجسد المُكون من لحم وعِظام.
• وسيلة عِلاقات الإنسان مع إخوتِهِ ومع الكون: عن طريق الجسد يُعَبِر الإنسان من
ذاتهُ الى الخارج.
• إنه ايضاً الشخص كله بإعتبارهِ هشاً ضعيفاً زائلاً: إنه الأنسان المُعرض للموت.
2) في العهد الجديد
أ) جسد = (سوما).
•كما
في العهد القديم: اللحم والعظام والشخص كله من وجههِ الخارجي والمنظور (روم 6: 12،
12: 1) والإنسان في تضامنهِ مع الكون.
• يحدد العهد الجديد أن الجسد من اعمال الله الحسنة وإنه مدعو لأن يجعلهُ الروح
القدس جسداً مُمجداً روحياً (1 كور 15: 44). فيلبي 3: 21). ان مثل هذا المفهوم
الأيجابي للجسد يختلف جوهريا عن المفهوم اليوناني الذي يقرب أحياناً لفظ سوما
(الجسد) من لفظ سيما (القبر).
ب) جسد = (سَرْكس) (الترجمة العربية في كول 1: 22 : "الجسد البشري").
• كما في العهد القديم: الشخص كلهُ بوجههِ الخارجي وبإعتبارهِ ضعيفاً وزائلاً.
فالأنسان هو جسد أكثر مما يملك جسداً .
• كثيراً مما يُستعمل هذا اللفظ بالأرتباط مع الخطيئة فأن (السركس) هو موضوع
الخطيئة في الأنسان (روم 7: 14- 20 و 8: 5 -13). انه الأنسان نفسه بإعتبارهِ ذا
ذهنية أرضية بقدر ما تُناقض هذهِ الذهنية، الذهنية الألهية.
• الـ (سوما) سيقوم وسيُمجِد. اما الـ (سِرْكس) فلا.
• امثال لأستعمال لفظَيّ سوما وسِرْكِس:
بِخصوص ناسوت المسيح وجسده الذي مات وقام : متى 27: 58 الخ: سوما يوحنا 1: 4 : سركس
(والكلمةُ صارَ جَسَداً).
بِخصوص الأفخارستيا: متى 26: 26. (1 قور 11: 23- 29): سوما. يوحنا 6: 51- 56):
سركس.
بخصوص "جسد المسيح السري": 1قور 10: 16...: سوما .
3) في الفلسفة المسيحية المعاصرة
• ان الروح البشري ليس "مجرد روح". هو روح بشري مميز بما انه مرتبط بالجسد وبالتالي
مرتبط بالزمان والمكان. ان هذا الروح البشري في فكره ومعرفتهِ وإرادتهِ بحاجة الى
طبيعة الأنسان الحساسة كلها. في تركيبهِ الجسدي والروحي، وعليهِ إذاً أن يستند الى
الأختبار الحسي. (كارل راهنر: معجم اللاهوت الكاثوليكي ص 213).
• ان مهمة الفلسفة المسيحية واللاهوت المسيحي (والتي لم تتم بكاملها الى اليوم)
كانت في تحقيق الوحدة والتنظيم العضوي بين علم الأنسان المستمد من أفلاطون (الذي
بتوجيهه تركّب اللاهوت الأول في الكنيسة) وعلم الأنسان المستمد من الكتاب المقدس
(كارل راهنر: معجم اللاهوت الكاثوليكي ص 102)
•
اننا إذا قلنا ان الموت هو إنفصال الجسد والنفس "لا نلتقي وتعليم الأنسان الكتابي.
وان تعبيراً كهذا يتطلب أقلهُ تفسيراً أكثرَ دقة . (ص 102).
• من لاهوت الخطيئة الكتابي (وخاصةً من كلام المسيح ذاتَهُ) بأمكاننا أن نستنتج أن
الجسد ليس "مكان" الخطيئة المميز. (ص 102).
ان التمييز بين الروح والنفس والجسد ليس في الكتاب المقدس تمييزاً بين ثلاثة أجزاء
قائمة بِذاتِها بل يشير فقط الى الأنسان كُلهُ بأوجههِ المختلفة. غير أن التفكير
الفلسفي يُجبرنا على ان نعتبر هذا التمييز "تمييزاً حقيقياً". فالجسد هو عنصر مادي
(يستطيع أن يُقاس مباشرةً حسب المكان والزمان والكتلة). أما النفس فانها لا تُقاس
هكذا: انها غير مادية. والروح يتميز من قوى النفس الأخرى (كمن يملك هذه القوى)
فيستطيعُ أن يتجاوزها بل يستطيع أن يتجاوز ذاتَهُ إذ يتفتحُ للمتسامي .
مهما كان بالضبط نوع الفرق القائم بين الروح وما سميناهُ (النفس) من جهة، وبين
النفس والجسد من جهةٍ أخرى، فالمهم هنا هو أن نميز فعلاً بين هذهِ العناصر الثلاثة
لأن هذا التمييز مفيدٌ جداً لدراسةِ ممارسة الصلاة مثلاً، أو ممارسة الزهد (اي
الترويض لأجلِ الأنفتاح لعمل الروح القدس فينا). (راجع أدناه ص 20).
هناك إذاً مفهومان لكلمة (روحي) أو (روحاني):
1) نسبةً الى الروح القدس .
2) نسبةً الى الجزء الأعمق للأنسان .
إننا سنستعمل هذهِ الكلمة حسب المعنى الأول بالدرجة الأولى، وبالمعنى الثاني في
رتبة ثانية لأن روحِ الأنسان هو نقطة أرتباط عمل الروح القدس في الأنسان.
الروح القدس الذي يعملُ فينا
ان الروح القدس، قبل ان تُنسب اليهِ صفةُ خاصة كالحب الألهي (في اللاهوت الغربي) أو
الحياة الألهية (كما في الشرق)، فأنهُ الله لكونهِ يعطي ذاتَهُ للبشر.
ففي البدء (أي في العهد القديم) نرى ان الله كان يعطي للبشر شيئاً من قوتِهِ
وبصورةً مؤقته (ليقوم بعض الناس بأعمال غير عادية كالنبؤات أو المعجزات مثلاً). أما
في العهدِ الجديد فنرى روح الله يحل على المسيح بصورة دائمة "وبغيرِ حِساب" (يوحنا
3: 34)، (بالأضافة الى كونه مصدر أعمال المسيح الخارِقة) ومن المسيح ينتشر الروح
الى قلوب البشر (وفقاً لنبؤة حزقيال 36: 26) ويمنحهم اللهَ نفسَهُ ليحيا في أعماقهم
ويٌقدّس حياتهم.
وقد نرى صورةً لشكليّ تأثير الروح القدس في البشر (أعني منح قوة خارقة أو سكناهُ
الخفي السري في القلوب) في ما حدثَ يوم العنصرة حيثُ ظهرت بوضوح قوةُ عمل الروح
القدس (رسل 2: 1... الخ). وفي ما حدث عند أول ظهور المسيح للرسل بعد قيامتهِ وفي جو
من الألفة الحميمة، عندما نفخ المسيح فيهم وقال لهم: "خذوا الروح القدس" (يو 20:
22).
في الحالتين يُمنَحُ الروح القدس عن
طريق الريح (يوم العنصرة)، وفي نفخة (عند ظهور المسيح لِرُسلِهِ). فالروح القدس،
مثل الريح، سيُحركُ البشر وسيوجِّههُم نحو ملكوت الآب. ومثل نسيم النفخة سيدخلُ الى
القلوب. وفي نفخةِ يسوع يتبينُ أيضاً مَن هو الروح: إنه حركة عطاء. انهُ يحمل إلينا
حياة يسوع القدوسة.
هل في الحياة المسيحية طريقان؟
الحياة الروحية هي إذاً تجاوبنا لعمل الروح القدس هذا. وأساسها هو سُكنى الروح
القدس في قلوبنا حيث يتحد بأرواحنا (روم 8: 16) ليوجِه حياتنا، وكذلك إشعاع وجودهِ
فينا على تصرفاتنا (راجع عبارة "ثمار الروح القدس" فيلبي 5: 22). هذا هو المفهوم
العام للحياة الروحية. ولكن كيف سيعيشهُ المؤمنون؟
لقد ميزّ بعض اللاهوتين المختصين بالروحانيات (أمثال تانكرة في "خلاصة التصوف
المسيحي"، في الجزء الأول من هذا القرن) بين طريقين في الحياة المسيحية.
الطريق الأول (حسب قولهم) هو الطريق العادي الذي يتبعهُ أكثرية المؤمنين، وهو ينحصر
على حِفظ الوصايا ويسودهُ صنفَيْ "المسموح والممنوع".
أما الطريق غير العادي فأنهُ يسعى الى الكمال المسيحي بتطبيق المشورات الأنجيلية
(النصائح) في البتولية والفقر والطاعة. ويخصص اللاهوتيون "الزهد" (أي ما يبذلهُ
الأنسان من الجهد ليسعى الى الكمال) و"التصوف" (أي الأختبار الروحي لوجود الله في
القلب) لهذا الطريق غير العادي فقط.
يسود الآن على رفض مثل هذا التمييز. فهل هناك حياتةُ مسيحية بمعنى الكلمة تنحصر في
نطاق المسموح والممنوع أو تجنب الخطيئة؟ عل أن النزعة الى الكمال (وخاصةً كمال
المحبة) شيءٌ إختياري عند المسيحي؟ وهل التصوف المسيحي بمعناهُ الصحيح تابع لميدان
خاص محفوظ؟
لا يوجد في الحقيقةِ طريقان. فكل مسيحي مدعو الى القداسة والى ممارسة المشورات
الأنجيلية حسب دعوتهِ الشخصية وظروفهِ الخاصة .
علينا أن نحذر من التمييزات القاطِعة في ميدان الحياة الروحية. فعلى كل مؤمن أن
يكون راهِباً، وعلى كل مؤمن أن يكون عِلمانياً. لأن الفرق بين الدعوات الخاصة هو
مسألة تركيز على وجه من الوجهين دون إلغاء الآخر. وليس هناك إختلاف جوهري بين
الدعوات: إنها جميعها دعوات الى التعمق في القداسة: أي في الألفة الحميمة مع الآب
وفي حمل الصليب مع المسيح بمحبة ولأجل المحبة.
بُنية الأنسان ... مثل جبلٍ في البحر |