|
عندما تشرق
علينا شمس الغد، تكون أعمالنا اليوم قد أصبحت جزءاً من ماضينا، وفي الوقت ذاته تبدأ
في تشكيل مستقبلنا. فالاعمال التي نقوم بها اليوم، أو التي نتجنب القيام بها، سيكون
لها دوراً كبيراً يساعد في تشكيل وتحديد ذلك المستقبل. ذلك ما أعلنه لنا يعقوب بروح
النبوة عندما استدعى ابناءه الاثني عشر ليبارك كل واحد منهم متنبئاً عن مستقبلهم،
حيث بدا واضحاً الدور الكبير الذي لعبه اسلوب حياة كل واحد منهم في الماضي في تلك
النبوات، وعندما وصل الى نبوته عن يوسف نراه يلخص عمل الله في حياته بالآيات
التالية "يوسف غصن شجرة مثمرة، غصن شجرة مثمرة على عين، أغصان قد ارتفعت فوق حائط،
فمرّرته ورمته واضطهدته أرباب السهام، ولكن ثبتت بمتانةٍ قوسه وتشددت سواعد يديه من
يدي عزيز يعقوب من هناك من الراعي صخر اسرائيل من إله أبيك الذي يعينك ومن القادر
على كل شيء الذي يباركك تأتي بركات السماء من فوق وبركات الغمر الرابض تحت، بركات
الثديين والرحم، بركات أبيك فاقت على بركات أبويَّ. إلى منية الآكام الدهرية تكون
على رأس يوسف وعلى قمة نذير إخوته" (تك26,22:49).
تلك كانت الطريقة التي بها عبّر يعقوب عن كيفية تدخل الله لإنقاذ حياة يوسف عندما
هاجمه مبغضوه. ولتوضيح ذلك أكثر، وقبل التوغل في الحديث عن شخصية رائعة وفريدة مثل
شخصية يوسف كما وردت في التفسير التطبيقي، اقتبسنا لكم من احدى المقدمات، احدى أروع
وأجمل القصص التي صوّرها خيال أحد كِبار الكُتَّاب وهو يتحدث عن الليلة الأولى في
حياة يوسف بعد بيعه فيقول "بعد أن قام إخوة يوسف ببيعه، أخذته قافلة الاسماعيليين
لتذهب به إلى مصر، وإذ حطت القافلة رحالها في الليلة الأولى، ونام الجميع، واستولى
عليهم سبات عميق، استيقظ يوسف في منتصف الليل ليجد الكل نياماً، ويجد فرصة واسعة في
الهروب، فتسلل، وهَمّ أن يصل إلى باب الخروج، وكاد أن يفلت، لولا أن كلباً أصفر
ضخماً أخذ ينبح نباحاً عالياً، وفزع يوسف ورفع عينيه إلى السماء، يطلب معونة الله
في إسكات الكلب، وقد تحرك أحد الملائكة، وأراد أن ينزل ليقتل الكلب، ويطلق سراح
الشاب النقي المظلوم، لولا أن أمراً إلهياً منعه، واستيقظ الحارس ليضرب يوسف،
ويقيّده، ويمنعه من الهروب، وإذ عجب الملاك من المنع الإلهي، صوّر له الله ما كان
يمكن، لو تمكن يوسف من الهرب وعاد إلى أبيه، حيث يستقبله بترنّم وفرح، غير أن
المجاعة لا تلبث أن تحل، وليس هناك يوسف الذي يتأهب لمواجهتها، وإذا بمصر وفلسطين
تجوعان، ويموت خلق كثير، ويضعف الباقون ويتعرضون لهجمات الحثيين الوحشية، وإذا
بالحضارة تُدّمَر، ومصر تنتهي، وتتحول روما واليونان إلى البربرية الكاملة، ويهلك
العالم كله، ولا نسمع عن إسرائيل ويهوذا والملوك والأنبياء، وبالتالي لا يأتي
المسيح مخلص العالم!!"... وما من شك بأن القصة غارقة في الخيال، ولكنها تؤكد
الحقيقة الدائمة الصادقة: إن كل الأشياء تعمل معاً للخير للذين يحبون الله الذين هم
مدعوون حسب قصده، وترينا أن الظروف التي يجتازها الإنسان بحلوها ومرها، وسجنها
ومجدها، ليست إلا السبيل المؤهل لإتمام رسالته في الأرض، وهذا ما ذكره يوسف في قوله
لإخوته: "أنتم قصدتم لي شراً أما الله فقصد به خيراً لكي يفعل كما اليوم ليحيي
شعباً غفيراً" (تك20:50).
أما قصة يوسف الحقيقية فقد وردت في سفر التكوين كالآتي: هو أحد أبناء يعقوب الأثني
عشر، من زوجته المحبوبة "راحيل" والتي ذكرها الله واستجاب لها وفتح رحمها بعد أن
كانت عاقراً، فحملت وأنجبت ابناً وقالت: قد نزع الله عني عاري، ودعته يوسف "ومعناه
يزيد" قائلة: "ليزدني الرب ابناً آخر"(تك 23,22:30)٠عاش يوسف مع والديه وأخوته فى
ارض كنعان التى تغرَب فيها جده ابراهيم، وكان كشاب صغير شديد الثقة في نفسه. وقد
زادت هذه الثقة بنفسه لكونه الابن المحبوب عند يعقوب، ولمعرفته بخطط الله لحياته،
فقد كان رجل رؤى واحلام، مما جعله مكروها عند إخوته الكبار العشرة الذين تآمروا
عليه في النهاية، ولكن هذه الثقة بالنفس، التي شكّلها الألم ودعمتها معرفته الشخصية
بالله، مكّنته من أن يحيا وينجح حيث كان يمكن أن يفشل الآخرون. وقد أضاف حكمة رزينة
الى ثقته، وكسب قلب كل من تقابل معه: فوطيفار، والسجان وغيره من السجناء، والملك،
وبعد سنوات كثيرة كسب هؤلاء الإخوة العشرة.
رغم ان ابرز الميزات التي اوردها الكتاب المقدس في وصف يوسف هي، ذلك الجمال الذي
ربما ورثه عن امه راحيل، فقد قيل عنه بانه "كان حسن الصورة وحسن المظهر" (تك6:39)،
وهي نفس العبارة التي قيلت عن امه في (تك 17:29)، وربما كان ذلك ايضا هو السبب
الاضافي الذي جعل والده يحبه أكثر من بقية إخوته. ولكن ما يلفت النظر ويجذب
الانتباه في شخصية يوسف حقاً هو ليس ذلك الجمال الخارجي والتشابه بينه وبين والدته،
بل ذلك الجمال الروحي وذلك الشبه الكبير الذي لمسناه في قصة حياته المتقاربة جدا في
أحداثها وردود افعاله تجاهها من حياة رب المجد يسوع المسيح. فلو أمعنا النظر في
الامور المدرجة ادناه والتي ركز عليها التفسير التطبيقي لعرض جوانب الشبه تلك،
سنلاحظ بان حياة يوسف قد حملت فعلاً صورة رمزية حية عن شخص الرب يسوع وسماته وعمله
الخلاصي وامجاده، حتى استحق ان ينعم بنصيب ضعفين، اذ صار دون اخوته سبطين هما
أفرايم ومَنَسَّى.. علما بان الشاهد الاول في كل جانب خاص بيوسف والشاهد الثاني
خاص بالرب يسوع.
- أحبه أبوه حباً شديداً "وكان إسرائيل يحب يوسف أكثر من بقية إخوته، لأنه كان ابن
شيخوخته، فصنع له قميصا ملونا."( تك3:37 ; مت17:3)٠
- كان راعيا لغنم ابيه: رغم انه كان الابن المحبوب والمدلل لدى والده من زوجته
المحبوبة راحيل، الا ان ذلك لم يمنعه من ان يرعى الغنم مع اخوته ابناء بلهة وزلفة
الجاريتين "إذ كان يوسف غلاما في السابعة عشرة من عمره، راح يرعى الغنم مع إخوته
أبناء بلهة وزلفة زوجتي أبيه" (تك2:37 ; يو11:10 ، 27- 29 )٠
- ابغضه اخوته: "ولما رأى إخوته أن أباهم يحبه أكثر منهم كرهوه وأساءوا إليه
بكلامهم. وحلم يوسف حلما قصه على إخوته، فازدادوا له بغضا قال لهم: اسمعوا هذا
الحلم الذي حلمته. رأيت وكأننا نحزم حزما في الحقل، فإذا بحزمتي وقفت ثم انتصبت،
فأحاطت بها حزمكم وانحنت لها. فقال له إخوته: ألعلك تملك علينا أو تحكمنا؟ وزاد
بغضهم له بسبب أحلامه وكلامه. ثم حلم حُلماً آخر سرده على إخوته، قال: حلمت حُلماً
آخر، وإذا الشمس والقمر وأحد عشر كوكبا ساجدة لي. وقصّه على أبيه وإخوته، فأنّبه
أبوه وقال: أي حلم هذا الذي حلمته؟ أتظن حقا أنني وأمك وإخوتك سنأتي وننحني لك إلى
الأرض؟ فحسده إخوته. أما أبوه فأسرّ هذا الكلام في قلبه" (تك10,4:37 ; يو5,4:7)٠
- أرسله ابوه الى اخوته: طلب يعقوب من يوسف أن يذهب للبحث عن اخوته الذين كانوا
يرعون قطعانهم بالقرب من شكيم، وعندما وصل يوسف الى هناك علم ان اخوته قد ارتحلوا
الى دوثان التي كانت تقع على احدى الطرق التجارية الرئيسية المؤدية الى مصر "فقال
إسرائيل ليوسف: ألا يرعى إخوتك الغنم عند شكيم؟ تعال لأرسلك إليهم. اذهب واطمئن على
إخوتك وعلى المواشي، ثم عد وأخبرني عن أحوالهم، فمضى من وادي حبرون حتى أقبل إلى
شكيم والتقاه رجل فوجده تائها في الحقول، فسأله: عمن تبحث؟ فأجابه: أبحث عن إخوتي.
أرجوك أن تخبرني أين يرعون مواشيهم؟ فقال الرجل: لقد انتقلوا من هنا، وسمعتهم
يقولون: لنذهب إلى دوثان فانطلق يوسف في إثر إخوته حتى قدم عليهم في دوثان" (تك
17,13:37 ; عب 11:2 )٠
- تآمر آخرون على اذيته: لقد اغتاط وغار اخوة يوسف فعلا من محبة والدهم له ومن
احلامه حتى دفعتهم تلك الغيرة الى رغبة شديدة في التخلص منه "وما إن رأوه من بعيد،
وقبل أن يقترب منهم حتى تآمروا عليه ليقتلوه. وقال بعضهم لبعض: ها هو صاحب الأحلام
مقبل. هيا نقتله ونلق به في إحدى الآبار، وندّعِ أن وحشا ضاريا افترسه، لنرى ماذا
تجديه أحلامه" (تك 20:37 ; يو53:11 )٠
- خلعوا عنه ثيابه "وعندما قدم على إخوته، نزعوا عنه قميصه الملون الذي كان يرتديه"
(تك23:37 ; يو24,23:19)٠
- بِيعَ بثمن عبد : انزعج اخوة يوسف من وقوع ذنب قتله عليهم، فاقترح عليهم يهوذا ان
يبيعوه "فقال يهوذا لإخوته: ما جدوى قتل أخينا وإخفاء دمه؟ تعالوا نبيعه إلى
الإسماعيليين ونبرىء أيدينا من دمه لأنه أخونا ومن لحمنا. فوافق إخوته على رأيه.
وعندما دنا منهم التجار المديانيون، سحبوا يوسف من البئر وباعوه لهم بعشرين قطعة من
الفضة" (تك28,26:37 ; مت15:26)٠
- قِيدَ بالأغلال: مع أن اخوة يوسف لم يقتلوه فعلا الا انهم اعتبروه هو والميت
سواء، باعتباره خرج من حياتهم، عندما باعوه لتجار العبيد. وقد واجه يوسف رحلة
ثلاثين يوماً في الصحراء، وكان على الارجح مقيدا بالسلاسل، سائرا على قدميه، اذ كان
يعامل كعبد لاقيمة لحياته، وبعدها عندما قُبِضَ عليه وزُجّ به في السجن لذنب لم
يرتكبه وانما لفعله الصواب (تك 20:39 ; مت2:27)٠
- أُخِذَ الى مصر: عندما وصل يوصف الى مصر بِيعَ هناك كأي قطعة من الامتعة "واخذ
الاسماعيليين يوسف الى مصر، فاشتراه منهم مصري يدعى فوطيفار، كان خَصيّ فرعون ورئيس
الحرس" (تك2,1:39; مت15,14:2)٠
- مُجَرَّب:ثم لم تلبث أن أُغرِمَت به زوجة مولاه فقالت: اضطجع معي. فأبى وقال لها:
هوذا سيدي قد عهد إلي بكل ما يملك في هذا البيت ولم يشغل نفسه بأي شأن فيه. وليس في
هذا البيت من هو أعظم مني. ولم يمنع عني شيئا غيرك لأنك زوجته. فكيف أقترف هذا الشر
العظيم وأخطيء إلى الله؟ ولم يذعن يوسف لها مع أنها كانت تلح عليه يوما بعد آخر"
(تك7:39 ; مت1:4 )٠
- إتُهِمَ باطلا: فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده الى بيته، فكلمته بهذا الكلام
قائلة: دخل اليّ العبد العبراني الذي جئتَ به الينا ليداعبني، وكان لما رفعت صوتي
وصرخت انه ترك ثوبه بجانبي وهرب الى الخارج فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي
كلمته به قائلة: بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك. فاخذ يوسف ووضعه في بيت السجن" (
تك20,16:39 ; مت60,59:26)٠
- وُضِعَ بين سجينين آخرين خلص احدهما وهلك الاخر: "واتفق بعد ذلك أن ساقي ملك مصر
والخباز أذنبا إلى سيدهما ملك مصر، فسخط فرعون على خصييه: رئيس السقاة ورئيس
الخبازين، وزجّهما في معتقل بيت رئيس الحرس في السجن، في المكان الذي كان يوسف
محبوسا فيه" (تك3,1:40 ; لو32:23)٠
- تَعَظّم كل واحد منهم بعد الآلام الشديدة: بعد ان تمكن يوسف وهو في السجن من
تفسير حلمي كل من رئيس السقاة ورئيس الخبازين، واللذين تحققا في اليوم الثالث، يوم
عيد ميلاد فرعون مصر، وبعدها بسنتين رأى فرعون حلمين، فارسل ودعا جميع سحرة مصر
وجميع حكمائها وقصّ عليهم احلامه، ولكنهم عجزواعن تفسيرها. فاخبر رئيس السقاة فرعون
بما حدث معه ومع رئيس الخبازين عندما كان في السجن وكيف تمكن يوسف من تفسير حلميهما
اللذين تحققا بالفعل، دعى فرعون يوسف، وبعد ان تمكن يوسف من تفسير الحلمين بكونهما
يشيران إلى أمر واحد أراد الله تأكيده، هو حدوث رخاء عظيم لمدة سبع سنوات يفسده جوع
شديد وقحط ليس له مثيل لمدة سبع سنوات تالية. وتقديم الخطة التى يريدها الله لمصر
والتى بها سوف ينجو سكان الارض من المجاعة. أستحسن فرعون كلام يوسف وولاه على بيته
وعلى كل ارض مصر "ثم قال فرعون ليوسف: ها أنا قد وليتك على كل أرض مصر" (تك41:41 ;
في 11,9:2)٠
كان عمر كل منهما ثلاثين عاماً عندما اشتهر: "وكان يوسف في الثلاثين من عمره عندما
مثل أمام فرعون ملك مصر. وبعد أن خرج من حضرة فرعون شرع يجول في جميع أرجاء البلاد"
(تك46:41 ; لو23:3 )٠
- غفر لمن اخطأوا اليه: بعد ان انتهت سنوات الشبع وبدات سنوات الجوع كما تنبأ
يوسف، وحدثت المجاعة فى كل الارض عدا مصر التي توافر فيها الخير بكثرة. ارسل يعقوب
عشرة من ابنائه لشراء القمح من مصر، فلما رآهم يوسف عرفهم، اما هم فلم يعرفوه،
ولكنه لم يكشف لهم عن نفسه حتى تاكد من ان مواقفهم كانت قد تغيرت نحو الافضل "فلم
يستطع يوسف أن يتمالك نفسه أمام الماثلين أمامه، فصرخ: ليخرج الجميع من هنا. فلم
يبق أحد مع يوسف حين كشف عن نفسه لإخوته. وبكى بصوت عال فسمع المصريون كما سمع بيت
فرعون. وقال يوسف لإخوته: انا يوسف. فهل أبي مازال حيا؟ فلم يستطع إخوته أن يجيبوه
لأنهم امتلأوا رعبا منه. فقال يوسف لإخوته: ادنوا مني. فاقتربوا منه، فقال: أنا
يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر. فلا تتأسفوا الآن، ولا يصعب عليكم أنكم بعتموني
إلى هنا، لأن الله أرسلني أمامكم حفاظا على حياتكم. ثم تعانق يوسف وبنيامين وبكيا
وقبّل يوسف باقي إخوته وبكى معهم. عندئذ فقط تجرأ إخوته على مخاطبته"
(تك15,14,6,1:45 ; لو34:23)٠
- خلّص أمته: "وقد أرسلني الله أمامكم ليجعل لكم بقية في الأرض وينقذ حياتكم بخلاص
عظيم" (تك7:45 ; مت21:1)٠
- كل ما حاول الناس أن يؤذوه به حوّله الله الى الخير: "أنتم نويتم لي شرا، ولكن
الله قصد بالشر خيرا، لينجز ما تم اليوم، لإحياء شعب كثير" (تك20:50 ; 1كور
8,7:2)٠
وهكذا نرى بان حياة يوسف لم تكن الا سلسلة متواصلة من اختبارات للمصاعب والآلام
التي تمكن من اجتيازها بنجاح، بقدرة الله الذي تدخل واستخدمها ليحولها الى ماهو خير
له ولكل من حوله، وكأنّ الله له كل المجد يعلن من خلال حياة يوسف عن خطته التي سبق
وان اعدها لخلاص البشرية قبل انشاء العالم. فكما كان يوسف هو الابن المحبوب الوحيد
المتميز والأسمى والأشرف بين إخوته، وأكثرهم تعلقاً بأبيه، فلم يتمكن اولئك الاخوة
من احتمال تلك المحبة فكانوا يحقدون عليه حتى "لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام" ولكن
تلك المشاعر المرة التي أحاطت بيوسف من إخوته في بيت أبيه لم تكن قادرة أن تغلق
قلبه نحوهم ولا أن تؤذي مشاعره أو تفقده سلامه، لهذا انفتحت السماء امامه لتؤكد له
بحلمين متتاليين يحملان معنى واحدًا هو "دخوله إلى المجد، وخضوع الكل له". وذلك ما
حدث فعلا، ففي الوقت الذي قام فيه اخوته ببيعه وتسليمه للضيق والتعب، والتشريد
والعبودية، ظناً منهم بانهم بذلك سيتخلصون منه ومن احلامه، كان الرب نفسه معه يهبه
النجاح ويعطيه نعمة في عيني كل من يعمل معه رافعا اياه من السجن والعبودية إلى أعلى
منصب يتلو منصب فرعون في مصر، ليخضع له ويركع امامه الجميع بما فيهم اخوته (تك
43:41 ; 6:42). كأنه الرب يسوع الذي اتى بعده بسنين متضعاً فاتحاً قلبه بالحب
للبشرية التي حملت له العداوة بلا سبب، مقدمًا حياته فدية حتى لصالبيه "الذي إذا
كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه، آخذاً صورة
عبد، صائراً في شبه الناس وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه. وأطاع حتى الموت موت
الصليب، لذلك رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم" (في9,8:8)٠
ربما تشعر بأنك تعاني من إحدى تلك الصعاب التي اختبرها يوسف. فقد تعرّض للخيانة
والهجر من عائلته، وتعرّض لتجربة جنسية، وعوقب لفعله الشيء الصالح، وتحمل سجناً
طويلاً، وقد نسيه من ساعدهم. ولكن وانت تقرأ قصته، لاحظ ما فعله في كل حالة. فرد
فعله الايجابي قد حول كل عقبة الى خطوة للأمام. وكأنه يقول مع الرسول بولس "أنسى
ماهو وراء وأتقدم الى ما هو أمام" (في13:3). فلم يُضيّع وقتاً طويلاً في التساؤل:
لماذا؟ بل كان رد فعله: "ماذا أفعل الآن؟"٠ وقد أدرك الذين لاحظوا حياته، أنه أينما
ذهب كان الله معه في كل ما يعمله... مجسّداً بحق مقولة ابيه عنه بكونه "غصن شجرة
مثمرة على عين" سواء ما اثمره في حياته بشكل تصرفات راقية تنمّ عن اخلاقه العالية،
واعمال ناجحة شهد الكل لها وجنى ثمارها، رغم شدة السهام التي انهالت عليه من القريب
والغريب، أو ما أثمره نسله بعد مماته، فقد جاء منه بعض الابطال الذين كان منهم:
يشوع (الذي قاد بني اسرائيل بعد موسى. يش 11,10:1)، ودبورة (قاضية اسرائيل. قض4:4)،
وجدعون (قاضي اسرائيل. قض12,11:6 )٠
وأنت عندما تواجه عقبة، فاذكر أن بداية موقف شبيه بموقف يوسف، هو أن تدرك أن الله
معك، فلا يوجد شيء نظير التأكد من وجوده، يلقي ضوءاً جديداً على موقف مظلم!٠
نقاط القوة والانجازات
- ارتفع في السلطة من عبد الى حاكم مصر٠
- اشتهر باستقامته الشخصية٠
- كان رجل الحساسية الروحية٠
- أعد مصر لاجتياز المجاعة٠
نقطة الضعف والخطأ
- كانت كبرياء شبابه سبباً في احتكاكه بإخوته٠
دروس من حياته
أ. المهم ليس أحداث الحياة وظروفها، بل رد فعلنا أمامها: إن رد فعل المؤمن تجاه
الأحداث التي يمر بها في حياته، هي التي تكشف عن حقيقة إيمانه وأمانته، وتلعب دوراً
كبيراً في حياته الروحية الحاضرة والمستقبلة. فلو أمعنّا النظر جيداً في حياة يوسف
وتصرفاته في كل المواقف التي مرّ بها، سنلاحظ مدى إدراكه لكل المباديء التي يجب ان
يرتقي اليها المؤمن الحقيقي، ليكون جديراً بلقب البنوّة التي منحها الله له. حتى
سبق عصره في ذلك، فنراه يطبق "وصايا الله حتى قبل اعلانها لموسى بفترة، ويعيش
مجسداً لمباديء وتعاليم العهد الجديد قبل ظهورها بحوالي الفي سنة". فما هو ياتُرى
سرّ نجاح يوسف وتمكنه من فعل كل ذلك؟!.. بالتأكيد انها "المحبّة" التي كشف عن
ادراكه لعظمتها من خلال تعامله معها في حياته باعتبارها "طبيعة الله نفسه، وسرّ
تجسده، والوصية الاولى والعظمى في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وأولى ثمار
الروح القدس" أما كيف؟!.. فلابد من ان علاقة المحبة والشركة التي كانت تربطه بذلك
الاب الارضي، وتلك الاوقات الطويلة التي قضاها معه وهو يحدثه عن ابيه السماوي "إله
آبائه واجداده الوحيد" وعن محبته وكل تعاملاته ووعوده معهم، كان لها أثرها الكبير
في ان يصبح على دراية ومعرفة شخصية اكثر بذلك الاله والاب، وان تغرس تلك المعرفة
بالتالي جذورها العميقة في نفس وروح يوسف، فيرتبط به بعلاقة شركة حية، لتتفجر في
داخله ينابيع من المحبة والغيرة والاخلاص لذلك الإله ولكل من حوله، والتي كان لها
اثرها الكبير في حياته وردود افعاله تجاه احداثها التي عكسها في النواحي التالية٠٠
- أمانته واخلاصه: احدى الصفات الجميلة التي ميّزت يوسف ولم يتخلى عنها اينما ذهب
ورغم كل الظروف التي مرّ بها، هي امانته واخلاصه المملوء من الغيرة. ففي بيت ابيه
تجلى ذلك الاخلاص واضحا في علاقته بابيه واخوته، فرغم كونه الابن المدلل والمحبوب
لدى والده، فهو لايستغل تلك المحبة وذلك الدلال في فعل ما يريده هو، بل نراه مطيعا
لوالده بمحبة فائقة لكل وصف، مؤدياً بإخلاص لأي مهمة يطلبها منه، فعندما كلفه بمهمة
الذهاب الى شكيم ليسأل عن سلامة إخوته، لم يكتفي بالذهاب إلى هناك، والعودة الى
والده ليخبره بعدم وجودهم، بل نراه يجدّ في البحث عنهم حتى لو تاه أو ضل الطريق،
وعندما علم بأنهم إرتحلوا الى دوثان ذهب وراءهم، مؤكداً اخلاصه لهم ايضا رغم كل ما
اتسموا به من أعمال النميمة الرديئة وما حملوه من بغضة وحسد له، ونجد ذلك الإخلاص
الأخوي واضحا في تعبيره القائل لمن وجده ضالاً في الحقل: "أنا طالب إخوتي" (تك
17,13:37).. وفي بيت فوطيفار، المصري الذي اشتراه من الاسماعيليين، كان يمكن ليوسف
كعبد أن يرى موقفه ميئوسا منه، ومع ذلك لم يتخلى عن اخلاصه وامانته بل كان يبذل
أقصى جهده ليخدمه بأعمق ما يمكن أن يكون له من الولاء، حارصاً أن يكون نموذجاً
مثالياً للخدمة، وسرعان ما ظهر لسيده اجتهاده وموقفه الايجابي فرقّاه وجعله مديرا
لبيته (تك 6,1:39).. أما لفرعون مصر، فقد اثبت يوسف بانه مستشار أمين، حيث لم يقف
عمله عند تفسير الحلمين بل قدم له مشورة صالحة بحكمة الهية، راسماً له سياسة لخدمة
الشعب، مطالباً إياه بالجمع في أيام الشبع، وتخزين خُمس المحصول السنوي لمدة سبع
سنوات لاستخدامه في أيام الجوع (تك 36,33:41).. والأهم من كل ذلك هو ان يوسف قبل
وبعد كل شيء، كان مخلصاً غيوراً لالهه، مجسدا ذلك الاخلاص في مواقف سنذكرها لاحقا
في موضوع تقواه٠
- محبته وغفرانه: بالرغم من ان يوسف تعرّض للخيانة والهجر من عائلته التي طالما
احبها واخلص لها، ورغم ان الجروح في مثل حالته تكون بالغة الشدة في الأعماق لانها
جاءت من اخوته، وما اعمق واقسى جرح الاخوة الذين عندما حنّو عليه لتذكرهم فجأة بانه
اخوهم من لحمهم ودمهم، وعندما ارادوا ان يتحاشوا وقوع ذنب قتله عليهم، تحولوا من
فكرة قتله، إلى بيعه عبداً بلا رجاء أو حرية أو أمل (تك28,26:38)، لكن ذلك الحب لم
يتأثر سلبا بكل ما وجده في اخوته من بغض وحسد وكره، وكل ما قاساه في عبوديته وسجنه،
عاكسا ذلك الحب في غفرانه الكامل لهم عند اللقاء بهم وبكاءه لمجرد تصورهم بانه ريما
سينتقم منهم بعد كل ما فعلوه معه، ولكن دهشتهم كانت كبيرة عندما علموا بان بوسف لم
يصفح عنهم فحسب ولكنه وعد ان يعتني بهم وبعائلاتهم مجسداً بذلك ادراكه لخطة الله في
حياته (تك:15,1:45)٠
- عفته وطهارته: أما موقف يوسف من التجربة الجنسية التي تعرض لها، جعلته رمزاً
ونموذجا للعفة والطهارة التي تقف امامها الكنيسة بأجيالها بكل اجلال وتقدير، فقد
جاء موقفه ليثبت بانه مهما كانت الاسباب التي يقدمها المؤمن، عند فشله في تجربة من
نفس النوع، هي اعذار واهية لا مبرر لها. فهل يوجد هناك ظروف اصعب واقسى من الظروف
التي مرّ بها يوسف والتي كان يمكن له ان يقدمها كمبررات تدفعه للخطيئة، فلنتخيل
موقفه وهو شاب صغير في مقتبل العمر(17) سنة، يؤخذ فجأة وعنوة من بيت ابيه وحضنه
المحب الدافيء، ليباع عبدا اجيرا، ويعاني من قساوة العبودية ويعيش حياة الذل
والهوان. قبل ان يرفعه سيده ليجعله وكيلا على بيته ويوليه على كل ماله، دون ان
يستغل ذلك المنصب والمسؤولية عندما تاتي بعدها زوجة سيده وتحاول اغواءه بارتكاب
الخطيئة معها، ولكن بالقول الشهير الذي نطق به يوسف مقاوما تلك التجربة " كيف اقترف
هذا الشر العظيم وأخطيء الى الله" (تك9:39). اثبت مدى محبته وغيرته لالهه. وهكذا
تجنب يوسف امرأة فوطيفار بقدر ما استطاع، ورفض عروضها، واخيراً هرب منها. معرضا
حياته للموت كي لايدنس جسده بها، وبذلك تمكن من الحفاظ على عفته وطهارته رغم كل
الظروف والمعاناة، ورغم الوعيد والتهديد.
- نقاوته وتقواه: ان كل اعمال يوسف وتصرفاته اكدت عدم تأثره بالأساليب الوثنية في
مجتمعه الجديد، فلو تخيلنا الصدمة الحضارية التى واجهها وهو شاب في مقتبل العمر،
يعيش حياة البدو، مرتحلا مع عائلته بين المراعي، ليجد نفسه فجأة في أعظم مجتمعات
العالم حضارة، مصر بأهرامها العظيمة وبيوتها الجميلة، وشعبها الرفيع الثقافة، ولغة
جديدة. لتَوقَعنا منه الكثير من التغيير والزلات والاخطاء. ولكنه استطاع ان يميز
رغم ما وجده فيهم من مهارة وذكاء، عماهم الروحي بعبادتهم لآلهة بلا عدد تنتمي الى
كل مظاهر الحياة ليتمكن من اختيار الاساليب والعلوم التي تمنحه الحكمة التي تساعده
في اتمام مشيئة الله في حياته بتنفيذ الخطة التي سبق وان اعدها له. تاركا كل
المظاهر المفسدة الاخرى ليحافظ على استقامته التي اثبتت تقواه، مجسداً اياها في
مواقف عدة ابرزها، اولهم: ردّه على إمرأة سيده وهي تحاول اغواءه" كيف اقترف هذا
الشر العظيم وأخطيء الى الله" (تك 9:39). ثانيهم: اغتنام كل فرصة لاعلان اسم الله
لمن حوله، وتوجيه انظارهم اليه، خاصة فيما يتعلق بالاحلام، التي كان ينسب الفضل في
تفسيرها دائماً الى الله الذي وهبه إياها ، مانحا كل المجد لاسمه القدوس، ليظهر ذلك
جلياً في قول فرعون عنه وهو يوليه على كل ارض مصر"هل نجد نظير هذا رجلاً فيه روح
الله؟" ( تك44,37:41). وثالثهم: خطته التي رسمها لتعيش عائلته في مصر منفصلة عن
تأثيراتها الوثنية المفسدة، طالبا من اخوته باخبار فرعون بانهم رعاة ليتمكنوا من
الاقامة في "ارض جاسان" الجزء الشمالي الشرقي من مصر، والأنسب بقعة لذلك الغرض، حيث
يرعون الماشية بعيداً عن المصريين، وفي عزلة منهم، لأن المصريين كانوا يعتبرون
رعاية المواشي دنساً ورجساً، وبالتالي يأبون الاختلاط بها وبرعاتها. وبذلك استطاع
تأمين العيش لعائلته في مصر دون التأثر بمعالمها الوثنية (تك 34,33:46). أما
رابعهم: فمرتبط بعظامه التي يريدها أن تُنقَل مع شعب الله، عندما يفتقدهم الله في
يوم من الأيام (تك25:50). وكان ذلك دليلا على جانب اخر فيه وهو ايمانه الكبير بان
الله سيتمم ما وعد به شعبه، فذُكِرَ إسمه مع قائمة ابطال الايمان في الرسالة الى
العبرانيين "وبالإيمان، استند يوسف على وعد الله بإخراج بني إسرائيل من بلاد مصر،
فترك وصية بأن ينقلوا رفاته معهم (22:11).
- صبره وايمانه: كما ذكرنا سابقا يشير الكتاب الى ان يوسف كان في السابعة عشر من
عمره عندما اوحى له الله في حلمين متتاليين بانه قد اعد له خطة لحياته يقوده من
خلالها الى المجد ليخضع الكل له، وبالرغم من ان اخوته بسبب غيرتهم منه قد باعوه
عبداً في نفس الفترة، ليواجه رحلة ثلاثين يوما في الصحراء، مقيداً بالسلاسل سائراً
على قدميه، ليعاني بعدها الكثير من الصعوبات، قبل ان تتحقق تلك الاحلام، حيث بلغ
الثلاثين من عمره عندما اصبح حاكما على مصر، اي انه قضى احدى عشرة سنة عبدا، وسنتين
في السجن لذنب لم يرتكبه، بل عقابا له على فعله الشيء الصالح، دون ان يتفوه بكلمة
من شأنها ان تسيء الى سيده او زوجته الذين احبهما واخلص في خدمتهما، وتحمل فترة
السجن دون ان يشعر باليأس، بل بذل اقصى جهده في القيام باي عمل يُسنَد اليه مهما
كان صغيرا، عاكسا بذلك صبره وايمانه بوعود الله وامانته مهما طال انتظاره.. وقد
نسيه من ساعدهم، دون ان يفقد الامل واثقا بان الله الذي رافقه في كل خطوة لن ينساه
ولن يتركه حتى تتحقق تلك الاحلام التي من خلالها تتحقق مشيئة الله في حياته.
الا يثير دهشتنا واعجابنا بعد كل ما ورد اعلاه بان يوسف وبالطريقة التي بها عاش
حياته قد نفّذ كل وصايا الكتاب حتى قبل اعلانها؟!. وبالتالي فلا عذر لنا نقدمه مهما
كانت الظروف من حولنا لنعيش على هوانا حسب شهوة الجسد ونموت بخطايانا، بعد كل ما
فعله الله من اجلنا والطرق التي استخدمها في توصيل رسالته ومحبته، والتي اخرها بذل
ابنه الوحيد لكي لايهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية.
ب. يمكن، بمعونة الله، أن يتحوّل أي موقف الى الخير، حتى عندما يقصد به الآخرون
الشر: إن الاحداث الاولى ومسبباتها في قصة يوسف بكل تلك الوحشية والقساوة التي جرت
بها، تدعو قارئها الى الذهول للوهلة الاولى، حتى يتهيأ اليه وكأنّ الله غائب عن كل
تلك الأحداث! فهل كان ذلك ياترى نفس ما تهيأ ليوسف في بداية الامر؟! فالكتاب لايذكر
إطلاقاً أي كلمة تفوه بها في تلك البداية سوى الأحلام التي رواها لهم؟! وهل تساءل
ياترى وهو في أعماق البئر، او عند بيعه بقيمة عبد، بشأن تلك الأحلام ووعود الله في
تحقيقها؟!. لانعلم، فربما نعم، وربما لا.. ولكن ما عرفناه بعدها من خلال كل الاحداث
الاخرى التي تلاحقت ولمسه الجميع، هو تأثيرعلاقة الشركة الحية التي ربطت يوسف
بالهه، ونتائجها الايجابية في موقف كل منهما بالنسبة للآخر، فمن جهة الله فقد كان
أميناً وحافظاً لوعوده مع يوسف فكان معه ولم يتخلى عنه من البداية وحتى النهاية،
فاول آية وردت عنه منذ لحظة وصوله الى مصر كانت "وكان الرب مع يوسف فكان رجلا
ناجحا" (2:39) لتتكرر بعدها ايات بنفس المضمون ولعدة مرات، مؤكدة حضور الله في
حياته بكل ظروفها واحداثها، مؤيدا له بروحه القدوس ومانحا اياه حكمة وقوة للتغلب
عليها واتمام خطته من خلالها. ولكنه باعتباره الخالق، فاحص الكلى والقلوب، وبمعرفته
السابقة بمدى تحمل يوسف، كان قد حدد توقيتاً مناسبا لتدخله وبالطريقة التي تضمن
مساعدة يوسف من جهة، واتمام مشيئته من جهة اخرى. وذلك ما أكده يوسف بنفسه وهو يشير
الى مساندة الله له، عند تسمية ابنيه الذين انجبتهم له زوجته "أسنات" بنت "فوطي
فارع" كاهن أون، والتي سبق وان زوّجه اياها فرعون. حيث دعا اسم البكر "مَنَسَّى"
قائلاً: "لأن الله أنساني كل مشقتي وكل بيت أبي". أما الثاني فدعا اسمه "أفرايم"
قائلاً: "لأن الله جعلني مثمراً في أرض مذلتي" (تك52,50:41)، أما من ناحية يوسف
فبقي مؤمناً أميناً لله نقياً ثابتا في مواقفه محافظا على كل الخصال الجيدة التي
تميز بها، والمشار اليها سابقاً، بل ومعيدا للنظر في جوانب اخرى من شخصيته بعد كل
تعاملات الله معه. وهكذا ثبت ليوسف بانه حتى ولو ان اخوتة أرادوا التخلص منه، الا
ان خطة الله قد تحققت من خلال اعمالهم الشريرة، وبالتالي فان خبراته في الحياة
علمته ان الله يخرج الخير من الشر، للذين يتكلون عليه... اما الخير الذي عملته كل
الاشياء مجتمعة في حياة يوسف فقد لمسناه في عدة امور منها...
- زيادة معرفته بالرب: حيث كانت معرفته به سابقا مبنية عل كل ما سمعه من ابوه في
صغره، اما بعدها فقد اختبره شخصيا بكل صفاته وعرف انه فعلاً " إله المحبة، والنعمة،
وكل التعزية، والرحمة، والسلام، والرجاء".
- تصحيح وتعديل الجوانب السلبية في بعض مواقفه: فقد كانت كبرياء شبابه، سبباً في
احتكاكه باخوته، وجسّد ذلك في موقفين اولهما، طريقة تعامله مع اخوته، وعدم إدراكه
من أن هناك أشياء يعرفها الإنسان، ولكنه من الحكمة ألا يقولها إلا في الحين الذي
تصبح فيه الضرورة ماسة لذكرها. وثانيهما: طريقتة غير الناضجة في تكلمه عن نفسه وعن
احلامه وافتخاره بها. ولكن بعد ما فعله الله في حياته فقد تبدلت تصرفاته في مواقف
مشابهة، فمن ناحية صراحته لم يعد يتفاخر بمركزه الرفيع امام اخوته، حيث صمت ولم
يعلن عن حقيقته لهم عند لقاءه بهم وتعّرفه اليهم، لمعرفته بان الوقت لم يكن قد حان
بعد لفعل ذلك (تك 9,8:42)، وفي موقف آخر وهو في السجن كشف عن الصدق لرئيس السقاة،
ولكن بالصورة التي بلغت النضوج والحكمة في عرض الرواية، دون انزلاق عاطفي أو زلة
لسان (تك15:40). اما بالنسبة لاحلامه فقد اصبح ينسب فضل تفسيرها الى الله موجها نظر
الجميع اليه ومعطياً كل المجد لاسمه القدوس (تك 8:40 ; 16:41).
- تمجيد اسم الله وجعله معروفا بين الامم: وذلك ما جسده في تصرفاته وردود افعاله
التي ذكرناها بالتفصيل سابقا.
- تحقيق خطة الله من خلال احداث حياته: فقد ارسله الله امام اخوته وعائلته ليحفظ
حياتهم ويخلّص مصر من المجاعة التي حدثت حينها، ويقيم له أمة فيها يعدّها ليأتي
المسيح من نسلها، ويكون بالتالي مصدراً للحق والخلاص لكل العالم.
- جعله أكثر تشبهاً بالمسيح: وهو اهم واسمى الغايات، وذلك ما بدا واضحا من كل اوجه
الشبه التي تطرقنا اليها ايضا بالتفصيل سابقا، سواء ما ظهر منها كمواصفات في
شخصيته وتعاملاته مع الاخرين، او ما تعلّق منها باحداث حياته ومجرياتها، بل وحتى
الاسم الجديد الذي أطلقه عليه فرعون مصر بعد ان خلّص بلاده من المجاعة فدعاه
"صَفْنَاتَ فَعْنِيحَ" ومعناه بالمصرية القديمة "مخلّص العالم أو حافظ الحياة"
(تك45:41). حيث قدم للعالم في وقته الخبز المادي، كما قدم الرب يسوع نفسه خبزا
روحيا للحياة الابدية لكل من يتناول منه. وبالتاكيد لم يكن كل ذلك ليحدث لو ان يوسف
لم يسلم ذاته كليا لله خالقه، واضعا فيه كل ثقته ورجاءه سامحا له باعادة تشكيله
ليكون مشابها لصورة ابنه.
ومن كل ذلك نتعلّم بان الله قد يسمح احيانا للمؤمنين الذين يحبونه ان يعيشوا احداثا
مرة وظروفا قاسية مجتازين خلالها تجارب واختبارات متنوعة لأسباب عديدة، وكأنه
يدخلهم الى مدرسته الخاصة يعلمهم فيها ويدربهم روحياً، فتدريبه من خلال التجارب
المتنوعة هو طريقه الكامل لكل أولاده، وكل ما يسمح به أن يأتي علينا هو من قلبه
الملئ بالحب لنا لأنه مكتوب "من يحبه الرب يؤدبه". ولكن ذلك لا يعني ان الله
يستمتع بأن يري مؤمناً متألماً لانه لا يحب ذلك، إلا أنه يعلم جيداً ان ذلك ضروري
جداً لأجل نموهم روحياً ولأجل مجده ايضاً، فنراه يتدخّل في الوقت المناسب
وبالاسلوب المناسب، فقد جاء في كورنثوس الاولى"لم يصبكم من التجارب إلا ما هو بشري.
ولكن الله أمين وجدير بالثقة، فلا يدعكم تُجَرَبونَ فوق ما تطيقون، بل يدبر لكم مع
التجربة سبيل الخروج منها لتطيقوا احتمالها" (13:10).. ومن كل ذلك نعلم أيضاً بأن
هدف الله النهائي لنا كمؤمنين هو، أن يجعلنا مشابهين صورة ابنه، لاننا كلما نزداد
شبهاً به نكتشف ذواتنا على حقيقتها، الصورة التي خلقنا لنكون عليها. وذلك ما أعلنه
لنا الرسول بولس بقوله "وإننا نعلم أن الله يجعل جميع الأمور تعمل معا لأجل الخير
لمحبيه، المدعوين بحسب قصده.لأن الذين سبق فعرفهم، سبق فعينهم أيضا ليكونوا مشابهين
صورة ابنه ليكون هو البكر بين إخوة كثيرين. والذين سبق فعينهم، فهؤلاء دعاهم أيضا.
والذين دعاهم، فهؤلاء بررهم أيضا. والذين بررهم، فهؤلاء مجدهم أيضا" (رو30,28:8)..
فيا لها من بركة ونعمة تدعونا الى الفرح، ونحن نكتشف اهتمام الله بمجدنا، ويالها من
مسؤولية تلك الملقاة على عاتقنا كمؤمنين، بدعوتنا لنكون اولاداً لله واخوة للمسيح،
فيعمل من خلالنا لتحرير الخليقة من عبودية الفساد الى حرية المجد التي لأولاد الله.
لذلك فما علينا سوى قبول دعوته والتجاوب لعمله فينا بالمثابرة والجهاد كما فعل
يوسف.
بيانات أساسية
المكان: كنعان، مصر.
المهنة: راع، عبد، متهم سجين، حاكم.
الأقرباء: الوالدان: يعقوب وراحيل; أحد عشر أخاً; الزوجة: أسنات; الأبناء: منسى
وأفرايم.
الآيات الرئيسية
فاستحسن فرعون ورجاله جميعاً هذا الكلام "كلام يوسف"، وقال فرعون لعبيده: هل نجد
نظير هذا رجلاً فيه روح الله؟. تك38,37:41
نجد قصة يوسف في تكوين37-50 كما يذكر في عب 22:11 |
|